المملكة المتحدة تجري أول انتخابات عامة لها منذ عام 2010، والأمور لا تسير حسب الخطط الموضوعة من قِبل أي طرف من الأطراف، فالسنوات الخمس الماضية شهدت مرور النظام السياسي البريطاني بأكمله بفترة اضطراب عارمة، بسبب مجموعة متنوعة من العوامل سنحددها لاحقًا، ومن الملاحظ اتجاه النظام البريطاني نحو تحول جذري يبتعد عن سيطرة الحزبين الأساسيين اللذين تبادلا السلطة في بريطانيا منذ قرن من الزمان، حزب العمال وحزب المحافظين.
لذا عندما يتجه البريطانيون نحو صناديق الاقتراع في 7 مايو، ستتبدى المخاطر وترتفع بمواجهة جميع الأحزاب، فما كان بالعادة حربًا ما بين حزبين فقط، تحول إلى حرب مفتوحة انخرطت فيها جميع الأحزاب البريطانية.
مفاجأة انتخابات 2010
خلفية الأحداث البريطانية ترجع إلى انتخابات عام 2010، فقبل الانتخابات، كان من المتوقع أن يفوز إما حزب العمل اليساري أو حزب المحافظين اليميني بأغلبية المقاعد في مجلس العموم “وهو البرلمان البريطاني المنتخب مباشرة من الشعب والذي يسيطر على معظم أدوات ووسائل الحكم”، وزعيم الحزب المنتصر يصبح رئيسًا للوزراء ويشكل حكومة بناء على أغلبية المقاعد التي حصل عليها حزبه في مجلس العموم، ولكن حزب المحافظين لم يفز بعدد كاف من المقاعد ليشكل حكومة وحده، حيث تمكن حزب الوسط البريطاني الثالث – الحزب الليبرالي الديمقراطي – من شق طريقه ليحصل على نسبة تصويت مرتفعة، مما أجبر زعيم حزب المحافظين ديفيد كاميرون على تشكيل حكومة ائتلافية مع زعيم الحزب الليبرالي الديمقراطي نيك كليج بعد الانتخابات، منهيًا بذلك مسيرة 13 عامًا من هيمنة حزب العمال على الحكم في المملكة المتحدة.
السياسات التقشفية
تضاربت الآراء حول سياسات الحكومة الائتلافية البريطانية التي تم تشكيلها، فالبعض يصر على أنها حطمت الدولة بسياساتها التقشفية، والبعض الآخر يراها المنقذ الذي سحب بريطانيا من دوامة الانهيار الاقتصادي، كون الحكومة الائتلافية بقيادة كاميرون انتهجت سياسة التخفيضات الهائلة في الانفاق الحكومي بغية موازنة الحسابات وخفض العجز، ولكن هذه السياسة التقشفية طالت أكثر مما كان متوقعًا لها، مما أدى إلى إطراد التكلفة البشرية الناجمة عن سياسة التخفيضات الحكومية.
نتيجة لسياسات هذه الحكومة، حظي ديفيد كاميرون بشعبية شخصية كبيرة، حيث تشير التقييمات أن شعبية الأخير المرتبطة بشخصه هي أعلى بكثير من شعبية حزبه، وسيعول كاميرون على هذه الشعبية لإعادة انتخابه لخمس سنوات أخرى من الإدارة الاقتصادية الحذرة والتقشفية، ولكن على الجانب الآخر، تراجعت شعبية الليبراليين الديمقراطيين بشكل كبير، كون أغلب أنصار الحزب الذين ينتمون أساسًا إلى الجناح اليساري السياسي لا يتمتعون بعلاقات طيبة مع حزب المحافظين اليميني، وأدت سياسات الحكومة الائتلافية إلى تعميق الشعور بالانفصال، لذا أصبح أنصار الحزب الليبرالي الديمقراطي أقل حماسًا للائتلاف.
إيد ميليباند وحزب العمال
قائد حزب العمال إيد ميليباند يُنظر إليه على أنه وريث رئيس الوزراء السابق جوردون براون، وميليباند هو الشقيق الأصغر لشقيقيه، وجميع الأشقاء كانوا يتنافسون على زعامة حزب العمال بعد خسارة الحزب عام 2010، ولكن إيد استطاع الفوز على شقيقه الأكبر ديفيد، وظفر بمنصب زعيم الحزب بفارق حفنة صغيرة من الأصوات، وعلى الرغم من أن ديفيد كان مدعومًا من رئيس الوزراء السابق توني بلير، وكان يُنظر إليه على أنه أكثر شعبية من شقيقيه الآخرين، بيد أنه استقال في وقت لاحق من البرلمان وانتقل إلى نيويورك.
بعد أن تم انتخابه كزعيم لحزب العمال، تم تصوير إيد ميليباند لمدة أربع سنوات ونصف كشخص ذكي مهووس – ميليباند يمكنه حل مكعب روبيك في 90 ثانية – ذي اتجاهات يسارية تقليدية، متمثلة بإعادة توزيع الدخل، وفرض قيود على أنشطة القطاع الخاص والشركات، وخفض الرسوم الجامعية، وفي الأسابيع الأخيرة شهد ميليباند تحسنًا كبيرًا في شعبيته الشخصية، حيث تحول من شخص مكروه بشدة إلى شخص طبيعي، نتيجة لظهوره بشكل أكبر أمام الجمهور، مما أحيا أمل أعضاء حزب العمال في قدرتهم على اقتناص الفوز في اللحظات الأخيرة.
خيارات مفتوحة
على الرغم من أن الاقتصاد يسير في الاتجاه الصحيح، بيد أن إعادة انتخاب كاميرون ليست مؤكدة، فالناخبون لايزالون متوجسين من سياسات المحافظين حول أمور معينة مثل موضوع الرعاية الصحية، وبذات الوقت أصبح أمام الناخبين خيارات مفتوحة الآن للاختيار أكثر من أي وقت مضى، وباختصار يمكن القول إن ظهور وارتفاع شعبية الأحزاب الصغيرة بين الشعب حصل نتيجة خيبة الأمل العارمة من سياسات الحزبين الرئيسيين اللذين يكافحان حاليًا من أجل تحقيق التقدم في مواجهة الأحزب الأخرى، ونتيجة لذلك يئن النظام الانتخابي تحت وطأة هذه التغييرات.
لأول مرة: حزب الاستقلال البريطاني
تم تشكيل حزب الاستقلال البريطاني من قِبل أعضاء حزب المحافظين الغاضبين خلال تسعينيات القرن الماضي، حيث اتجه إليه معارضو عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، ولكن زعيم الحزب نايجل فاراج ساعد على توسيع قاعدة الحزب الضيقة التي كانت مقتصرة على المحافظيين اليمينيين من كبار السن الغاضبين، حيث تمكن من تقديم نفسه على أنه مدخن مدمن، ومدافع عنيد عن أسلوب المعيشة البريطاني التقليدي، كما أظهر استعداده لتقويم سياسة الحكومة المتجاهلة لمطالب الجمهور، الذين يعانون – وفق وجهة نظره – من نظام الهجرة غير المنضبطة وحماقات الحكومة.
مقابلات فاراج اللانهائية على وسائل الإعلام أعطته مكانة أسطورية بين الشعب الذين يشعر بالملل من الأحزاب الرئيسية، وبحلول عام 2012 بدأ حزبه بإحراز تقدم في استقراءات الانتخابات العامة، حيث استطاع اجتذاب الناخبين المحبطين من حزبي العمال والمحافظين، عن طريق اتباعه لسياسة اجتماعات الشاي التقليدية البريطانية، وبالمحصلة من غير المرجح أن يفوز حزب الاستقلال بأغلبية المقاعد في مجلس العموم بفضل النظام الانتخابي في المملكة المتحدة، ويمكن القول إنه على الرغم من اتهامه باعتناق سياسات عنصرية، بيد أنه استطاع اقتناص أعداد كبيرة من الأصوات من الحزبين الكبيرين.
الحزب الوطني الإسكتلندي
رغم أن المملكة المتحدة لا تدير نظامًا فيدراليًا، بيد أنها تمتلك مجالس تشريعية مفوضة لويلز وإسكتلندا وأيرلندا الشمالية، وفي عام 2011 تمكن الحزب الوطني الإسكتلندي بقيادة نيكولا ستورجيون من الحصول على أغلبية المقاعد في البرلمان الإسكتلندي، ودعا حينها فورًا لإجراء استفتاء على استقلال إسكتلندا، وجاءت نتائج الاستفتاء قريبة جدًا من إنهاء الارتباط الإسكتلندي مع المملكة المتحدة، حيث دعم أكثر 45% قرار الانفصال عن بقية المملكة المتحدة، وعلى الرغم من عدم نجاح الاستفتاء بفصل إسكتلندا عن المملكة المتحدة، بيد أن جميع المصوتين لصالح الانفصال حولوا ولاءاتهم السياسية لصالح الحزب الوطني الإسكتلندي بين عشية وضحاها، مما أدى إلى اكتساب الحزب لكتلة سياسية هائلة.
إسكتلندا تمتلك 59 مقعدًا في برلمان وستمنستر، وحزب العمال ظفر بالانتخابات الأخيرة بجميع هذه المقاعد تقريبًا، ولكن بعد خمس سنوات، تشير بعض استطلاعات الرأي أن الحزب الوطني الإسكتلندي يستعد للفوز بكامل المقاعد الإسكتلندية.
حزب الخضر وبليد سيمرو
يشارك أيضًا في هذه الانتخابات حزب بليد سيمرو وهو حزب قومي ويلزي تقوده ليان وود، وحزب الخضر وهو حزب يساري اشتراكي متمرد بقيادة ناتالي بينيت، ولكن هذين الحزبين أقل أهمية من الأحزاب السابقة.
الأرقام تشير إلى ضرورة تشكيل حكومة ائتلافية
حتى الآن، تشير استطلاعات الرأي أن المحافظين يمتلكون ما لا يزيد عن 34% من الأصوات، وأصوات حزب العمال تقل بقدر يسير عن هذه النسبة، وباقي الأحزاب تتنافس على النسبة المتبقية، وعلى الرغم من أن العمال والمحافظين لا يعترفون بذلك، بيد أنه من غير المتوقع أن يفوز أحد الحزبين بأغلبية كافية لتشكيل حكومة بمفرده، لذلك سيكون البرلمان معلقًا مع الحكومة التي ستشكلها الأحزاب القادرة على التفاهم لتشكيل ائتلاف.
ولكن حتى تشكيل هذا الائتلاف سيكون صعبًا، كون أي حزب يرغب بتشكيل حكومة منفردة يجب أن يحظى بـ 323 مقعدًا، والتنبؤات النموذجية تشير أن حزب المحافظين بالكاد سيحصل على 280 مقعدًا وحزب العمل بالكاد سيحصل على 270، أما الحزب الوطني الإسكتلندي فسيفوز وفقًا للاستطلاعات بـ 50 مقعدًا، والحزب الليبرالي الديمقراطي 30 مقعدًا، ومجموعة الأحزاب المتنوعة الأصغر مثل حزب الاستقلال وبليد سيمرو سيتقاسمون المقاعد المتبقية، وبحساب بسيط يمكنك أن تعرف سبب إشكالية تشكيل الحكومة الائتلافية.
سياسات الأحزاب لكسب الأصوات
من المؤكد أنه منذ يناير الماضي، لم يطرأ على النسب التي طرحتها استطلاعات الرأي أي تغيير، فمنذ بداية حملات الترويج، تدور معظم المناقشات حول الأحزاب القادرة على التفاهم للدخول ضمن ائتلاف واحد، ولم يُطرح أي سيناريو يحمل أمل حقيقي بتحقيق أي حزب لتفوق قادر على ضمان الهيمنة على التشكيلة الحكومة، الأمور غريبة وفوضوية، ولا أحد يعرف شكل الحكومة التي ستنجم عن انتخابات 7 مايو أو السياسات التي ستنتهجها، حزب المحافظين يعتقد أنه يستطيع إقناع الناخبين الإنجليز بدعمه من خلال زيادة المخاوف من قيام الحزب الوطني الإسكتلندي بالسيطرة على حكومة حزب العمال من وراء الكواليس، في حين يأمل حزب العمال أن يمده برنامج الهبات الشعبية بميزة تقدمية على الحزب المنافس.
الطامة الكبرى: جميع الأحزاب لا ترغب بالشراكة
الحزب الوطني الإسكتلندي اليساري صرّح أنه لن يعقد صفقة مع حزب المحافظين، وحزب العمال صرح أنه لن يسعى بتاتًا لعقد صفقة مع الحزب الوطني الإسكتلندي، والحزب الليبرالي الديمقراطي ليس حريصًا على تشكيل اتفاق مع حزب العمال، وفي ذات الوقت، حزب المحافظين لا يرغب بعقد أي صفقة مع أي حزب إذا استطاع تجنب ذلك، لاسيّما مع منافسه اليميني حزب الاستقلال، والجمهور بشكل عام لا يحب مبدأ الصفقات الحزبية.
حملات الانتخابات الغريبة والاعتيادية
أحد قادة حملة المحافظين اُتهم بأنه يقوم بتحرير صفحة الويكيبيديا الخاصة به، كما اُتهم ببيع كتب “كيف تصبح ثريًا” على الإنترنت تحت اسم مستعار، إد ميليباند متهم بأنه معبود المراهقات المعجبات، وبالتأكيد يوجد بعض الملصقات الغريبة للحملات الترويجية، والكثير من الخطابات والتصريحات المملة والتي لا تحمل أي جديد.
النتائج غير المتوقعة
أخيرًا، فإن احتمالات أن يستقيظ الشعب البريطاني صباح 8 مايو وهم يعرفون الفائز هي احتمالات ضعيفة جدًا، فمراكز الاقتراع تفتح أبوابها صباح 7 مايو، وفرز الأصوات سيستمر طوال الليل بعد انتهاء التصويت، ولكن العمل الحقيقي سيبدأ بعد أيام من ظهور النتائج، حيث ستعتمد التشكيلة الحكومية على من يستطيع إعلان النصر، والسيطرة على وسائل الإعلام في أقرب وقت بعد إغلاق صناديق الاقتراع.
المصدر: باز فيد