“تونس اختارت الحرية ومصر اختارت الشيبسي بطعم الجمبري”، أتذكر تلك الجملة جيدًا والتي قالها لي أستاذي في المدرسة يوم 24 يناير عام 2011 عندما كنت أقدم أحد امتحانات الفصل الدراسي الأول وكان هو مراقبًا عليّ وعندما جاء لتسليمي ورقة الامتحان وأخبرته أن تونس تحررت قال لي تلك الجملة والتي انتشرت وقتها انشار النار في الهشيم.
كانت نظراته وقتها ونظرات أجيال كاملة لشريحة واسعة من الشباب لا تختلف كثيرًا عن نظرة مبارك ومن معه لنا، فنحن “شوية العيال” التي لا تقدم ولا تأخر أي شيء بل إن أقصى ما يمكن يفعله أي شاب هو الجلوس أمام مواقع التواصل الاجتماعي وإضاعة الوقت فيما لا يفيد والتصويت للطعم الجديد للشيبسي!
جاء الخامس والعشرون من يناير بعدها بساعات وانتشرت صور الشباب في ميدان التحرير انتشارًا واسعًا وبدأت بوادر الأمل تلوح في الأفق وكنت يومها في بيتي أتابع الأحداث بشكل متواصل حتى انتهى اليوم وكانت هناك الصورة الشهيرة للشباب وهم في ميدان التحرير وقد ملأت أعدادهم “الغفيرة” وقتها مساحة لا تتجاوز ربع مساحة الميدان.
أتذكر جيدًا أنني احتفظت بتلك الصورة على هاتفي وفي اليوم التالي عندما ذهبت إلى المدرسة لتقديم آخر امتحان وقبل دخولي اللجنة كنت أُريها لكل أصدقائي وأنا أحدثهم عن حجم الحشود التي شاركت في المظاهرات أمس وأبرهن على ذلك بالصورة التي معي والتي كانت تمثل لنا وقتها أعدادًا لم نرها من قبل لمظاهرة تطالب بشكل مباشر بإسقاط النظام.
كان ما ينقص تلك المظاهرات وقتها أن يساندها الشعب بطبقاته المختلفة وألا تظل عبارة عن “شوية عيال” يتظاهرون مطالبين بالحرية، كون المتظاهرون من شريحة “العيال” جعلها بشكل أو بآخر فاقدة للشرعية في نظر الكثيرين وكأن أبناء جيل الثمانينات والتسعينات لم يصلوا بعض لمرحلة النضج الكافي التي تؤهلهم للمطالبة بحقوقهم وأن الحق مقصور فقط على من هم فوق الأربعين.
جاء الثامن والعشرون من يناير لتنزل الحشود الحقيقية إلى الشوارع والتي كانت بالنسبة لنا مليونية حقيقية واكتسب ذلك اليوم شرعية كبيرة عندما شاركت فيه الأجيال المختلفة وبدأت قواعد اللعبة تتغير وتحولت المعارضة وقتها من مجرد “شوية عيال” إلى نسبة كبيرة من شعب يريد أن يأخذ حقوقه وحريته.
توالت الأحداث بعدها وتنحى مبارك ثم جاء المجلس العسكري ليحكمنا فترة عام ونص استمر فيها في نفس نهج مبارك لكن بصورة أوضح، فجاءت أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء ثم الحادثة التي قسمت ظهر البعير في بورسعيد عندما تسلطت الأضواء مرة أخرى على “شوية العيال” لكن تلك المرة لم تكن أضواء الكاميرات وفقط كما حدث يوم 25 يناير، بل جاء الضوء الأخضر لأكبر عملية قتل ممنهجة كانت خارج المكان الطبيعي المعروف بالقتل وهو ميادين المظاهرات وأقسام الشرطة.
وطيلة الأربع سنوات الماضية ثبت أن العامل الأهم والأساسي في المعادلة المصرية هم “شوية العيال” والذين تم الاستهانة بهم في بداية الثورة وأصبحوا الآن محل اهتمام كل صانعي القرار وأصحاب النفوذ والمصالح في الدولة، وظهر ذلك بشكل واضح عندما بدأ التمهيد للانقلاب على الدكتور محمد مرسي وبدأ الدفع ببعض الوجوه الشبابية أمام الشاشات ومساعدتها بالأموال والحملات الإعلامية اللازمة لتغيير الرأي العام وهو ما حدث بشكل واضح مع حملة تمرد والتي كانت الشريحة الأساسية فيها من الشباب.
لقد تغيّرت النظرة العامة للشباب من جميع الأطراف وهو ما جعلهم عبارة عن “وسيلة” في يد كل الأطراف على الساحة المصرية، فأصبحت المعادلة الآن عن رقم أساسي من الشباب و”س” متغيّر من الأجيال الأخرى والذي يتغير من حدث إلى حدث ليغيّر الناتج من المعادلة.
بعد أربع سنوات من الثورة تبيّن لنا أن المعادلة كانت أكثر وضوحًا وبساطة عندما كانت تتكون من “شوية العيال” فقط وأن دخول القوى الكبرى من رجال مبارك وأصحاب المصالح وحتى من الوجوه المعارضة قد أفسد المعادلة وجعلها أكثر تعقيدًا وألبس الكثير من المفاهيم المغلوطة لباس الطبيعية وجعلها مقبولة من قِبل الكثيرين وهي أصل الخطأ وعينه.
إن المظاهرات وأقسام الشرطة ليست مكانًا طبيعيًا للموت، الشرعية تُكتسب من الحق نفسه ولا تُكتسب من طبيعة ولا أعداد المطالبين به، إن تواجد العديد من العقليات التي عاشت وتعايشت فترات طويلة مع الظلم والقمع – حتى لو عارضته – في المعادلة الحالية ليس من الصواب في شيء وأن الأجيال الجديدة رغم كل ما يمكن أن يعيبها، أكثر قدرة على التحرك في اتجاه الحرية من الأجيال السابقة؛ فالطبيعة والمناخ الآن يتطلب أولئك العيال المشاكسين المشاغبين الذين لا يضعون أمامهم حسابات لفروق السن أو الرتبة العسكرية أو المكانة الاجتماعية.
إن المرحلة الحالية تتطلب من أولئك المشاكسين أن يتصدروا المشهد بالقوة، يجب أن يعرف العالم كله أن اختيار طعم الجمبري مع المطالبة بالحرية بطريقة حضارية من قِبل “شوية العيال” أهون مئات المرات من اختيار طعم الدم وفرض الرأي بقوة السلاح وأنه مهما كانت اختيارات الشباب خاطئة فهم لم يختاروا طعم الدماء الحالية يومًا إنما يُدفعون لتذوّقها دفعًا.