“أسير اليوم في شتى المدن والقرى في بلدنا، وأرى بصراحة أنني لم أعد أعرفها، بدءًا من المدارس والمستشفيات، وحتى مناطق بأسرها في إنجلترا لم نعد نسمع فيها اللغة الإنجليزية أصلًا.. ليس هذا هو المجتمع الذي نريد أن نتركه لأولادنا وأحفادنا بالتأكيد،” بهذه الكلمات خاطب نايجل فاراج، زعيم حزب استقلال بريطانيا، أنصاره في إحدى مقاطعات إنجلترا، معبرًا عن مخاوف الكثيرين من زحف المهاجرين القادمين إلى بريطانيا.
“كنت مؤخرًا في إحدى القطارات، وجلست بينما مرت العربة عبر محطتين وثلاثة، قبل أن يركب أحدهم وأسمعه يتحدث الإنجليزية أخيرًا، أليس هذا غريبًا بعض الشيء؟ أنا لا أشعر بالراحة جراء هذه الأحوال، ولا أعتقد أن غالبية البريطانيين مرتاحون أيضًا، وأرى أن الاتحاد الأوروبي هو ما أوصلنا إلى ما نحن فيه الآن، بل وسيزداد الوضع سوءًا إذا ما تدهورت السوق الأوروبية أكثر، واضطررنا لاستقبال المزيد من المهاجرين،” هكذا تحدث فاراج، مشيرًا بوضوح إلى عدوه الرئيسي: الاتحاد الأوروبي وسياساته التي فتحت أبواب حركة مواطنيه على مصراعيها، لتجلب الآلاف من رومانيا وبلغاريا وبولندا إلى شبه جزيرة بريطانيا.
سلطة بروكسل الأوروبية وزحف المهاجرين هما الموضوعان الرئيسيان على أجندة حزب استقلال بريطانيا الصاعد منذ سنوات، والذي نجح في إحداث المفاجأة العام الماضي بحصوله على أكثر من رُبع مقاعد بريطانيا في البرلمان الأوروبي، وخروجه بالمركز الأول، ليدفع بالمحافظين والعمال للمركزين الثاني والثالث لأول مرة منذ أكثر من مائة عام، بعد أن ظلا يهيمنان على كافة الانتخابات الجارية في بريطانيا على مدار القرن العشرين.
استقلال بريطانيا (يوكيپ)
لوحة دعائية لحزب استقلال بريطانيا تتسائل عمن يدير بريطانيا فعليًا في إشارة إلى هيمنة بروكسل
حزب استقلال بريطانيا UK Independence Party، المعروف بـ”يوكيپ” UKIP اختصارًا، تأسس عام 1993 عن طريق مجموعة من أعداء السياسات الأوروبية والمتخوّفين من طموحات تحويل الاتحاد إلى فيدرالية تذهب معها السيادة البريطانية، وكان رئيسه آنذاك ألان سكِد Alan Sked يطمح إلى الضغط على الحكومة للانسحاب من الاتحاد الأوروبي، إلا أنه استقال بعد أربع سنوات إثر دخول الكثير من الأعضاء ذوي التوجهات العنصرية واليمينية المتطرفة، على حد قوله، ليخلفه المليونير مايكل هولمز.
في عام 1999، نجح الحزب في الحصول على ثلاثة مقاعد في البرلمان الأوروبي، و7٪ من أصوات الناخبين، ولكنه تأثر إثر صراع داخلي بين هولمز واللجنة التنفيذية للحزب، مما دفع الأعضاء لإجبار كليهما على الاستقالة، والدفع قدمًا بزعيم الحزب الجديد جيفري تيتفورد، ثم روجر ناپمان، لتبدأ أرصدة الحزب في التزايد في انتخابات البرلمان الأوروبي التالية عام 2004، والتي حل فيها ثالثًا بحصوله على 12 مقعدًا، وظهوره لأول مرة في الداخل الإنجليزي بمقعدين في مجلس لندن.
رُغم ذلك، لم ينجح الحزب في الحصول على أي مقاعد بعد في مجلس العموم البريطاني في انتخابات 2005، والتي حصد فيها 2.3٪ فقط من أصوات الناخبين، حتى نجح نايجل فاراج، عضو البرلمان الأوروبي عن الحزب منذ عام 1999، في الفوز برئاسة الحزب بأغلبية كبيرة من أعضائه، وهو الصعود الذي غيّر من شكل الحزب ودفعه بشكل أكبر كحزب أساسي على الساحة، لا سيما وأن نفس الفترة شهدت دخول بلغاريا ورومانيا وبولندا للاتحاد الأوروبي، وهو الدخول الذي جلب معه الموجة الأخيرة الكبيرة من الهجرات التي عززت من أجندة الحزب المعادية للمهاجرين.
بالفعل، نجح الحزب في انتخابات البرلمان الأوروبي عام 2009 في الحصول على 16.5٪ ليحل ثانيًا في بريطانيا، ثم يحصد حوالي مليون صوت في الانتخابات العامة عام 2010، ولكن دون أي مقاعد مجلس العموم، ليصبح أكبر حزب لم يحصل على مقاعد بعد، وهو وضع ترسّخ بعد الانتخابات المحلية عام 2012، والتي حصل فيها على 13٪ في أفضل نتيجة لأي حزب غير العمال والمحافظين والليبراليين الديمقراطيين على المستوى المحلي منذ الحرب العالمية الثانية، ليبدأ الحديث عن قدرة الحزب على منافسة الليبراليين الديمقراطيين كثالث أكبر حزب في بريطانيا، ومناطحة الحزبين الكبيريَّين.
حاليًا يمتلك الحزب مقعدين في البرلمان نتيجة فوزه بانتخابات فردية على مقاعد بعينها تم إجراؤها في السنوات الأخيرة، كما يملك ثلاثة مقاعد في مجلس اللوردات، عوضًا عن 23 مقعدًا في البرلمان الأوروبي بعد اكتساحه الأخير ليكون الحزب البريطاني الأكبر في بروكسل، وهي مفارقة تشي بالكثير عن العلاقة المتغيّرة بين لندن والاتحاد الأوروبي، وتعبّر عن الرؤى الجديدة بين البريطانيين لسياسات الاتحاد في السنوات الأخيرة.
تأثير الحزب على السياسة الإنجليزية
“خمسة آلاف وافد يصلون هنا أسبوعيًا. أوقفوا زحف المهاجرين”
بغض النظر عن الأصوات التي سيحصدها الحزب في انتخابات اليوم، والتي تقول الاستطلاعات أنها تتراوح بين 12٪ و18٪، وربما تجلب له أكثر من عشرين مقعدًا في مجلس العموم أو مقعدين فقط، ما يعتمد على النظام المعقّد الذي يسري به توزيع المقاعد في مجلس العموم، لا شك أن الحزب قد أحدث تحولات أساسية في ملامح السياسة البريطانية، أبرزها تسليط الضوء على مواضيع كان السياسيون البريطانيون يتغاضون عنها في الماضي، وفتح الباب أمام خطاب أكثر تعبيرًا عن القطاعات المحافظة والأكبر سنًا في جنوب إنجلترا، والتي لا يعجبها زحف المهاجرين ولا هيمنة بروكسل.
“لقد خرج الموضوع عن السيطرة،” هكذا تحدث تريفور جارمين، البالغ 49 عامًا عن موجات الهجرة، والتي جعلته يفقد وظيفته لصالح البولنديين الذين يقبلون العمل بأجور زهيدة، وهو ما يوافقه فيه ألان بِسانت، جندي سابق يبلغ 59 عامًا يشكو من الصعوبات التي يعانيها أهل منطقته من الإنجليز لإيجاد أماكن في المدارس المحلية لأبنائهم، وصعوبة إجرائهم للعمليات الجراحية نظرًا لتزاحم المهاجرين على خدمات الرعاية الصحية البريطانية، وهي مسألة مهمة للإنجليز الذين يتزايد متوسط أعمارهم، ويجدون في يوكيپ شجاعة الهجوم على أوروبا، على عكس بقية السياسيَّين الملتزمين بضرورة تحسين العلاقات مع بروكسل.
نتيجة لتغيير أولوليات الخطاب السياسي الإنجليزي، أصبحت الأحزاب التقليدية مجبرة على أخذ النقاط التي يتحدث عنها يوكيپ في الاعتبار، لا سيما المحافظين، والذين يهددهم صعود يوكيپ أكثر من العمال نتيجة انجذاب أنصارهم ذوي التوجهات اليمينية إلى يوكيپ، على عكس العمال الأكثر ليبرالية، وهو ما يعني أن المقاعد التي سيحصل عليها يوكيپ ستهدد قدرة ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء المحافظ الحالي، على تشكيل حكومة الأغلبية التي يطمح لها، بل وقد لا تكفيه حتى ولو اتئلف مع الليبراليين الديمقراطيين الذين تضائلت أرصدتهم وقد لا تكون لهم أي مقاعد هذه المرة.
لذلك، أصبح المحافظون رغمًا عنهم يتحدثون باستمرار عن المشاكل مع أوروبا، والقيود التي سيضعونها لتحديد الهجرة، ولعل الاستفتاء على عضوية الاتحاد الأوروبي، والذي وعد كاميرون بإجرائه عام 2017 إذا ما فاز حزبه اليوم، هو أبرز تجلي لمحاولة جذب الناخبين البريطانيين إلى حزبه بدلًا من يوكيپ، بالإضافة إلى منع المهاجرين من التمتع بالمميزات التي تقدمها الدولة البريطانية قبل مرور أربع سنوات على إقامتهم الدائمة فيها، وهو اقتراح مأخوذ من برنامج حزب استقلال بريطانيا في الحقيقة، والذي يرفع تلك الفترة إلى خمس سنوات.
“لا لأكاذيب يوكيپ العنصرية”
أن يصبح حزبًا جديدًا لم يبلغ بعد ربع قرن بهذه الأهمية على الساحة يعني أنه قد يكون في غضون سنوات من الأحزاب الرئيسية، وإن كان الحديث الآن عن دخوله في ائتلاف ضربًا من الخيال، خاصة مع تشدد المحافظين تجاهه ورفضهم المستمر لوضعه في الاعتبار كشريك في الحكومة نظرًا لتطرفه، إلا أن حصول الحزب على عدد كبير من المقاعد قد يجبر المحافظين في المستقبل على الائتلاف معه وإما الرضا بموقع المعارضة مقابل ائتلاف بين العمال وحزب اسكتلندا الوطني، وهو ائتلاف يحاول العمال أيضًا أن يرفضوه نظرًا لحداثة صعود الدور الاسكتلندي على الساحة، ولكنه موقف سيتغيّر هو الآخر مع الوقت، خاصة مع تزايد الانقسام بين اليمين واليسار، وتمسك العمال بعضوية أوروبا والانفتاح على المهاجرين، وهي سياسة تجمعهم بالاسكتلنديين وإنجليز الشمال الذين يرفضون عنصرية يوكيپ كما يصفونها.