عقد رؤوساء اليونان ومصر وقبرص اليونانية، في مدينة نيقوسيا، اجتماعًا ثلاثيًا أعلنوا فيه أنهم يستهدفون تعزيز العلاقات الأمنية والاقتصادية بين البلاد الثلاثة، وخاصة تلك العلاقات المتعلقة بالطاقة، رئيس الوزراء اليوناني ألكسيس تسيبراس اجتمع برئيس دولة قبرص اليونانية المعترف بها من قِبل الاتحاد الأوروبي، بالإضافة لعبدالفتاح السيسي الجنرال المصري الذي يسعى جاهدًا للتأكيد على شرعيته الدولية في مواجهة أزماته السياسية الداخلية.
هذا الاجتماع لا يُظن أنه عفويًا، حيث إنه الاجتماع الثاني خلال ستة أشهر الذي يجمع الثلاثة رؤوساء لهذه الدول المتوسطية، الذي يُغلف بعبارات الحرب على الإرهاب، وتكون أجندته الرئيسية متعلقة باستغلال المناطق الاقتصادية في البحر المتوسط أو بالتحديد أمر استخراج الغاز من آبار المتوسط، والتي يوجد عليها خلافات بين كل من تركيا وقبرص واليونان، فالدولتان الأخيرتان نجحتا في ضم مصر إلى حلف يقوي موقفهما في هذه القضية، وربما كانت مصر في حاجة إلى الدخول في أي تحالف ضد تركيا في أي مجال كان، وربما كانت هذه الفرصة مواتية بسبب الخلافات التركية المصرية بشأن دعم الإخوان المسلمين.
الخلافات التاريخية بين قبرص واليونان من جانب ودولة تركيا من جانب آخر معروفة منذ وقت بعيد، وقد أدت سياسة أحمد داوود أوغلو رئيس الوزراء التركي الحالي حينما كان وزيرًا للخارجية إلى تهدئة الأوضاع حينًا من الدهر بسبب سياسته في تصفير مشاكل تركيا الخارجية، أما وإن التغييرات في المنطقة قد جعلت عداد المشاكل التركية يعود لأرقامه القديمة مع اليونان وقبرص بالتحديد بسبب الخلافات حول المناطق الاقتصادية في البحر المتوسط، وحقوق استغلالها واستخراج الغاز منها، فإن الأمر قد عاد لسابق عهده وتعمل الدولتان حاليًا على تشكيل حلف يواجه تركيا في هذا الصدد.
مصر التي كانت لا تعير الأمر اهتمامًا دخلت هي الأخرى على الخط بسبب موقف تركيا من انقلاب الجيش على الرئيس السابق محمد مرسي بقيادة الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي، لكن فتش عن المصلحة حتى تجد السبب لظهور مثل هذا التحالف في هذا التوقيت بهذا الشكل الغريب.
الأوساط الإسرائيلية تشير إلى أن ثمة أهدافًا غير معلنة خلف لقاءات رؤساء مصر وقبرص واليونان للمرة الثانية خلال ستة أشهر، في حين يرى متابعون أن إسرائيل تعمل على بناء محور مناهض لتركيا في البحر المتوسط، تستطيع أن تستفيد منه بشكل غير مباشر.
ربما هذه اللقاءات كان ينقصها إسرائيل، وما منعها إلا علاقتها السيئة بالحكومة اليسارية في اليونان، لكن لا يخفي على أحد العلاقات الإسرائيلية القبرصية القوية للغاية، كذلك العلاقات المصرية الإسرائيلية الحالية التي تشهد حميمية عالية الوطيس، فالدور الإسرائيلي في البحر المتوسط حاضرًا وإن كان غائبًا في المشاهد الرسمية، فالصحافة العبرية تشير إلى أن إسرائيل تلعب دورًا من خلف الستار في إقامة مثل هذه اللقاءات الدورية بين الدول الثلاث، وربما تنجح إسرائيل في ضم شريك رابع لهذه اللقاءات في الفترة المقبلة وهي دولة “قبرص التركية” التي تفقد أنقرة السيطرة عليها رويدًا رويدًا، فهزيمة المرشح الرئاسي المدعوم من تركيا في الانتخابات الأخيرة بقبرص التركية، والخلافات بين رئيسها الجديد وبين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يجعل هناك محاولات لاستقطابه، رغم أن البعض يرى استحالة ذلك لأن الدولة الوحيدة التي تعترف بقبرص التركية هي تركيا فقط.
الشاهد في الأمر أن عقد مثل هذا التحالف هدفه تقليص نفوذ الدولة التركية في البحر المتوسط، وستكون المهمة الأولى لهذا التحالف هي مهمة اقتصادية بالأساس، هدفها استغلال مصادر الغاز الطبيعي في حوض المتوسط والدخول في نزاع مع تركيا في ترسيم المناطق الاقتصادية، هذا التقليص للنفوذ التركي من شأنه أن يأتي في مصلحة إسرائيل وفقط خاصة في مجال الطاقة، في ظل مشاركتها قبرص في أمر الغاز الطبيعي في المتوسط.
فقد دخلت منطقة شرق البحر المتوسط بؤرة الاهتمام الإقليمى والعالمى في مجال الطاقة بعد الاكتشافات اللافتة للنظر للغاز الطبيعى التي قامت بها قبرص بمساعدة إسرائيلية، إلى حد حولت إسرائيل إلى دولة مصدرة للغاز بسبب التعاون بين قبرص وإسرائيل في هذا الأمر مع عدم وجود موقف رسمي من هذا الاستغلال، كما أن هناك مشكلة ظهرت لإسرائيل في هذا الأمر ألا وهو خلافها السياسي المستعر مع تركيا مما يعيق حركتها في هذه المنطقة التي تمثل فيها تركيا القوة العظمى، وهو ما يفسر حرص إسرائيل على الاستعانة بحلفائها من الدول لتشكيل مثل هذا التحالف للسيطرة على حيز مهم من سوق الطاقة.
إسرائيل وقبرص من جانب وتركيا من جانب آخر، تجاهلوا حقوق مصر وسوريا ولبنان وفلسطين في حقول الغاز المكتشفة حديثًا بشرق البحر المتوسط في مناطق الاستغلال، بالرغم من أن هذا مخالف للقوانين الدولية المنظمة للسيادة البحرية، في حين أن تبعية مصر لإسرائيل حاليًا تمنعها من الاعتراض على ذلك، كذلك انشغال النظام السوري بالداخل جعله في موقف المتفرج أمام هذا الصراع.
الأمر بدأ عندما اكتشفت إسرائيل حقلي الغاز المتلاصقين “لفياثان” في عام 2010، و”أفروديت” الذي اكتشفته قبرص في 2011، والتي قالت تقارير أن بهما احتياطي من الغاز يبلغ قيمته 200 مليار دولار، بالرغم من أن هذه الحقول تمتد إلى المياه الإقليمية المصرية على بعد 190 كيلومترًا شمال مدينة دمياط المصرية و235 كيلومترًا من حيفا و180 كيلومترًا من سيناء، إضافة إلى حقل “تامار” الذي يقع قبالة سواحل حيفا في البحر والذي اكتشف عام 2009، كما تم حفر ثلاثة آبار في مصر بعمق 2448 مترًا وفجأة انقطعت أخبار حفريات الغاز في شمال شرق البحر المتوسط.
هذا الأمر قوبل بتخاذل مصري تستغله إسرائيل الآن ضد تركيا، حيث إن هذا التنازل الضمني المصري سيجعل فرص الأتراك في مجابهة قبرص وإسرائيل بالإضافة إلى مصر أقل بقليل من السابق، فقبرص طالبت تركيا بالتوقف عن التنقيب عن الغاز في مناطق تتبعها، بينما ترى تركيا أن ما تفعله قبرص بمعاونة إسرائيل هو أمر غير شرعي، حتى إن الحكومة القبرصية اليونانية أوقفت مباحثات التوحد مع قبرص التركية، حتى تتوقف تركيا عما أسمته “البلطجة” في قضية الغاز.
في حين ترى المعارضة التركية أن سياسة حزب العدالة والتنمية الخارجية هي ما أوصلت تركيا لكل هذه المشاكل مع الجيران في الفترة الأخيرة، وأن تركيا سوف تفقد ثروة غازية بسبب تصرفات الحزب الحاكم، بعيد تصريحات قبرص اليونانية في اللقاء الأخير الذي عُقد مع مصر واليونان، حيث أكدوا بدء التشاور لترسيم حدود بحرية في شرق البحر المتوسط، وأكدوا أيضًا أن هذه الحدود سيتم ترسيمها في مناطق من المياه الإقليمية ولا تحتاج إلى موافقة دول أخرى في إشارة خفية إلى تركيا، وهو ما يعني استبعاد تركيا من الحسابات وبالطبع سيصب هذا في مصلحة إسرائيل التي تريد بالطبع أن تستأثر بحصة قبرص ومصر من الغاز.
الجدير بالذكر أن تركيا واليونان تتنازعان منذ عقود على ترسيم الحدود البرية والبحرية والجوية بينهما في مناطق من بحر إيجة، ولم يتم تسوية هذا النزاع حتى الآن، في حين أن موقف تركيا من هذه الشراكة جاء مستهينًا بها، حيث جاءت تصريحات وزير الطاقة التركي تانر يلدز ردًا على مشروع نقل الغاز القبرصي عبر مصر بأنه توجه غير مجدٍ، مشيرًا إلى انحدر أسعار النفط في العالم، بالإضافة إلى التكلفة المرتفعة لتسييل الغاز الطبيعي.
وتؤكد تقارير أن تركيا لن تصمت حيال مثل هذا التحالف الذي تعلم جيدًا أن إسرائيل هي المحرك الرئيسي له بسبب سياسات تركيا الداعمة للقضية الفلسطينية في الآونة الأخيرة أمام إسرائيل، فقد وصفت تركيا التحالف بأنه سياسي، محتفظة بورقة نقل الغاز من خلالها باعتباره أنه الأجدى اقتصاديًا لقبرص، لأنها تعتبر بوابة شرق البحر المتوسط إلى السوق الأوروبي.
في حين أن هناك أصواتًا إسرائيلية معارضة للسياسة العدائية ضد تركيا التي كانت تتمتع بعلاقات إستراتيجية في السابق مع إسرائيل، حيث أكد محللون إسرائيليون في ردهم على التساؤلات حول مدى نجاح إقامة تحالف في البحر المتوسط ضد تركيا، بأن هذا الأمر ليس بالسهولة التي تتوقعها إسرائيل لأسباب عدة أهمها تلك التي ذكرها ألون لينيل، المحاضر في جامعة تل أبيب، الذي أكد على ضعف احتمالات التحالف ضد تركيا بسبب القوة الإستراتيجية التي تتمتع بها في كافة المجالات قياسًا بمجموعة الدول التي تنتوي التحالف ضدها في حوض البحر المتوسط، حيث أضاف ساخرًا في تعليقه على الأمر “أنه بمقدور تركيا أن تأكل مثل هذه الدول الثلاث بوجبة واحدة”.
كما أن اليونان تمتلك أسبابًا خاصة لعدم المضي قدمًا في هذا التحالف بسبب خلافاتها العميقة مع إسرائيل بعد تولي الحكومة الجديدة مقاليد الأمور في اليونان بالتزامن مع اشتداد وطأة الأزمة الاقتصادية اليونانية، فالدول المتحالفة ضد تركيا بالفعل لديها عدواة تجمعها مع تركيا لكن ثمة قضايا آخرى تفرقها، وبالطبع فإن رد الفعل التركي على هذا التحالف يجب أن يكون في أول الحسبان لأنه قد يكون عنيفًا ويعصف بهذا التحالف، أو أن تركيا لديها خيار أن تحسمه بالدبلوماسية القديمة بتصفير عداد مشاكلها مع هذه الدول.