اعتبر رئيس منتدى الشرق، والمدير العام السابق لشبكة “الجزيرة”، وضاح خنفر، أن التوسع الإيراني الراهن في المنطقة ناتج عن حالة الفراغ التي حصلت بسبب عدم وجود مشروع عربي، متوقعا أن يكون الصراع مع إيران في هذه المنطقة “طويلا لا يقتصر على عام أو عامين، ووفقا لقواعد لعبة جديدة”.
لكن خنفر قال -خلال كلمة ألقاها أمام منتدى الجزيرة في الدوحة- إنه في خضم الصراع الراهن مع إيران، ينبغي الانتباه إلى أنه “صراع سياسي استراتيجي وليس دينيا”، مشيرا إلى أن الصراعات السياسية تنتهي بالتصالح، بينما تنتهي الصراعات الدينية بالمذابح.
ورأى خنفر أن تحالف “عاصفة الحزم” لا يمكن أن يؤتي ثماره ويحقق أهدافه إلا إذا توسع ليشمل كل الملفات في المنطقة، بما فيها القضية الفلسطينية والسورية، والوضع في العراق، إضافة إلى اليمن، مشيرا إلى أن المنطقة لا يمكن أن تستقر دون التوصل إلى حسم هذه الملفات.
وبحسب خنفر، فإن السياسة الخارجية الأمريكية في الوقت الحالي تقوم على استراتيجية “الانسحاب الجزئي” من كل الملفات، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة لا تريد الدخول في الأزمات التي تشهدها المنطقة العربية، لكن خنفر يلفت إلى أن “الرؤية الأمريكية تجاه ملفات المنطقة متطابقة تماما مع الرؤية الإيرانية، وخاصة في العراق وسوريا واليمن”، مؤكدا أن “أمريكا لا تدعم عاصفة الحزم في اليمن، وإنما تريد وقفا فوريا لإطلاق النار، وهو المطلب الإيراني ذاته”.
ودعا خنفر في كلمته قادة دول الخليج إلى عدم تقديم أي تنازلات أو مكاسب سياسية للرئيس الأمريكي باراك أوباما بالمجان، مشيرا إلى أن أوباما يحتاج العرب في معركته داخل الكونجرس، وعلى الخليجيين ألّا يدعموه إلا مقابل تغيير سياساته في سوريا والعراق واليمن.
ورسم خنفر -في الكلمة التي ألقاها أمام نخبة من الحضور- صورة مشرقة ومليئة بالأمل للمستقبل العربي، مؤكدا أن منطقة الشرق تشهد تحولا كبيرا في الوقت الراهن، وأن القوى المضادة لثورات الربيع العربي لم تحقق حتى الآن أي انتصار، وأن من يريد الحرية فعليه أن يصبر وأن يتحمل، وأن تكلفة التغيير في هذه المنطقة التي تمثل قلب العالم وروحه ستكون مكلفة، ولن ينعم بها إلا من يتحمل هذه التكلفة.
وفيما يلي النص الكامل لكلمة وضاح خنفر أمام منتدى الجزيرة التاسع، في جلسة النقاش التي حملت عنوان: “الاستبداد ومستقبل الديمقراطية في الوطن العربي”:
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أولا، أقفُ اليوم بين أيديكم في هذا المنتدى الذي اعتبره بيتا وأعتبر الجزيرة فيه وطنا، وإن كنتُ لستُ اليوم في مقام الحديث لا باسم المؤسسة ولا باسم المنتدى، ولكني أعتقد أن الجزيرة وطن بلا حدود، يحبها كل من مر بها، وكل من استوطنها، وكل من استظل بظلها.
أذكر أنني وقفتُ في هذا المنتدى في عام 2006، في المنتدى الأول للجزيرة، مخاطبا جمعا من المشاركين من مختلف الجنسيات في ذلك الوقت، وكان هم الساعة يومها العراق، وهموم التحول في المنطقة، ومسارات الأحداث التي أعقبت احتلال العراق وانفجار صراعات طائفية فيها، وتأثير ذلك على المنطقة بأجمعها، وها هي الأيام تمر، تسع سنوات طوال وهموم الأمة تزداد تعمقا، ويزداد الانقسام وضوحا، وأود في كلمتي هذه أن أقف أربع وقفات: الوقفة الأولى مع المنطقة، والوقفة الثانية مع العالم، أي عالم هذا اليوم، والوقفة الثالثة مع الناس في عالمنا العربي، أما الرابعة، فوقفة أمل مع المستقبل الذي نرجوه لمنطقتنا هذه.
عندما استقلت من إدارة شبكة الجزيرة كرست جل وقتي لمؤسسة انطلقت مع مجموعة من الأصدقاء والباحثين والناشطين في العالم العربي سميتها “منتدى الشرق”، وعبارة الشرق لكثير من الناس الذين استفسروا عن سر هذه التسمية، هي المصطلح الذي أطلقه المؤرخون والكتاب والمثقفون على منطقتنا هذه بعد انهيار الدولة العثمانية، فكان “الشرق” هو المصطلح الذي استخدمه حافظ إبراهيم، واستخدمه عدد من الشعراء والأدباء في وصف هذه التركة التي تمتد عبر الأمم الأربع المكونة لمنطقة الشرق: العرب، الترك، الكرد، والإيرانيين.
وكلمة “الشرق” التي نأمل أن نعمل من تحتها من أجل صياغة مشروع جديد للمنطقة تحتاج في أيامنا هذه إلى مزيد من التركيز، لأن الإقليم كما ترون يعيش حالة انتقال جوهري وحقيقي وكأن القرن الماضي بطوله، منذ الحرب العالمية الأولى لم يفعل شيئا كثيرا إلا أن سكن الواقع، لكنه سكنه على غير أساس، فتفجر الواقع اليوم أمامنا بحدوده وأقلياته وأغلبياته وطوائفه ومذاهبه، في حالة يراها كثيرون حالة فوضى وحالة انفلات كامل، وأراها أنا حالة انتقال طبيعي وحالة تطور تاريخي باتجاه نقطة توازن ينبغي أن نسعى للوصول إليها بأقل قدر ممكن من الدماء، وأقل قدر ممكن من العنف والدمار.
الإقليم اليوم، خصوصا في الشهور القليلة الماضية، يعيش حالة جديدة، وأظن أن “عاصفة الحزم” التي انطلقت ضد الحوثيين في اليمن بعثت حسا جديدا في الإقليم بأن نظاما إقليميا ما ينبغي أن يتشكل أو أنه على قيد التشكل، وبتقديري أن هذا الشيء أو هذا الكيان أو هذا النظام أو هذا التفاهم الذي ينبغي أن ينطلق والذي أزف أوانه، والحقيقة أنه قد أزف منذ وقت طويل، لكنه تأخر كما تتأخر الكثير من المشروعات في بلداننا بفعل ضغط الماضي الذي يحاول دوما أن يوقف المستقبل بكل ما أوتي من قوة، أعتقد أنه بداية خلاص ينبغي لنا فعلا أن نتمسك به، وأن نبني عليه، وأن نحميه، وأن نطوره باتجاه مزيد من الاستقرار للمنطقة، وتأسيس واقع جديد يمكن لنا أن نبني عليه.
أساس الذي يحدث اليوم أننا في السنوات القليلة الماضية انشغلنا بأنفسنا، وأنا عندما أقول “نحن” فأعني العرب، حيث انشغل العرب بأنفسهم، واختلطت أولوياتهم، وانقضوا على ذواتهم تنكيلا وحبسا وتفجيرا للواقع بطريقة كان ينبغي ألّا تكون، لكنها صارت، لا سيما عندما تخوف الجميع من “الربيع العربي” والثورات العربية، فأرادوا إسكاتها أو اقتلاعها، وكانت النتيجة أننا انقضضنا على أنفسنا بذواتنا وضربنا مناعتنا الذاتية.
الإقليم عاش حالة من الفراغ الاستراتيجي في السنوات الماضية، وكنا نحن الطرف الأضعف بين مكونات هذا الإقليم، فلا الإيرانيون ولا الأتراك عاشوا التجربة ذاتها التي عشناها؛ لأن لديهم كيانات أكثر استقرارا تمثل أوطانا وتمثل دولا، أما كيانات التجزئة التي يعيشها العالم العربي مع الانقضاض على الذات واختلال الأولويات، فقد أدى بالفعل إلى عدم توازن جدي في المنطقة.
وفي هذه الأثناء لا شك أن إيران انطلقت في تطوير مشروعها التوسعي، وهذه حقيقة، وهنا عندما أقول إيران، فإنني أقصد “إيران الدولة” ولا أقصد المذهب، ولا لي صلة بمثل ذلك النقاش، لأنني أعتقد أنه في موازين الصراع والاستراتيجيا فإن الدول كيانات لديها عقل تحاول من خلاله تطوير مصالحها، وأحيانا تستخدم من أجل ذلك الدين والمذهب والطريقة، وتستخدم كل شيء من أجل تحقيق هذا الغرض. أنا اليوم أتحدث عن البعد الاستراتيجي من أجل تحقيق هذا الغرض.
إيران انطلقت في حالة فراغ، واستطاعت أن تتمدد في مسامات كانت -للأسف- فارغة بفعل واقعنا العربي المتشظي، ولكن إيران أيضا في تمددها ذهبت أبعد مما تستطيع هي أن تحمل، واستفزت فينا جميعا، في المنطقة عموما، سواء كنا عربا أو تركا أو مسلمين ممن نسمي أنفسنا “أهل السنة”، استفزت فينا شيئا جديدا لم نكن نأمل أن نصل إليه، وهو “الشعور بسنيتنا”، مع أنني أعتقد، وما زلت على قناعة تامة، بأن أهل السنة ليسوا مذهبا ولا ينبغي أن ينظروا لأنفسهم على أنهم أهل مذهب، لكن الذي حدث في واقع الأمر أن نوازع الصراع والتحفز وصلت إلى درجة مستفزة أدت إلى ما نقف ونتحدث عنه هذا اليوم، فإيران استطاعت أن تصل إلى مرحلة استطاعت فيها استفزاز كوامن الغضب وانطلقت هذه الحملة التي نسميها “مذهبية”، سنة وشيعة، في واقع صعب.
ويبدو لي أن الصراع مع إيران ومع النفوذ الإيراني لن يكون صراع شهر أو شهرين ولا عام أو عامين، بل نحن أمام حالة جديدة الصراع فيها سيكون على قوانين اللعبة في المنطقة، على شكل الشرق الأوسط الجديد، على شكل “الشرخ الجديد”، وهذا الصراع لن يكون صراعا يسيرا، بل سيكون صراعا طويلا يحاول فيه كل طرف أن يحقق القدر الأعلى من المكاسب إلى أن نصل إلى لحظة توازن تقتنع الأطراف فيها جميعا بأن مصلحة الشرق القادم هي مصلحة الجميع، وعلينا أن نجلس ونتحاور.
الذي أحذر منه هو أن يختلط الصراع الاستراتيجي من أجل المصالح والنفوذ بالصراع الديني الذي ينبغي جميعا أن نحمي أنفسنا من أن نتورط فيه، لأن الصراع الديني نهاياته مذبحة، والصراع السياسي نهاياته تصالح، ولا ينبغي أن يختلط ما نهايته المطلقة هو اقتلاع الناس أو تدمير وجودهم مع مصالح السياسة المؤقتة التي تختفي أو التي تنشأ وتنتهي وفقا للمصالح، فهذه قضية في غاية الأهمية، وأحمّل نخبنا وسياسيينا المسؤولية في أن ينجرفوا في مثل ذلك الصراع الدموي الذي يمكن أن يترك علينا جميعا أعباء ثقيلة لقرون قادمة.
النقطة الأخرى في هذا الموضوع، موضوع الإقليم، هي أن هناك دعوات لتأسيس تحالف سني، وأنا أريد أن أتوقف عند هذه الكلمة، حيث لا أعتقد أن محورا سنيا في العالم الإسلامي ينبغي أن يتشكل فقط من أجل التعامل مع إيران، لأن في ذلك خطأ استراتيجي وتاريخي وأيديولوجي.
إذا أردنا أن نشكل تحالفا في هذه المنطقة، فينبغي أن يقوم مثل هذا التحالف على حماية مصالح المنطقة وإعادة الاستقرار إليها، على أن يشمل كل القضايا التي يجب التعاطي معها من أجل الوصول إلى شرق مستقر، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، فلا ينبغي لتحالف مثل هذا أن يغفل الصراع الدائر اليوم على أرض فلسطين، أو الحصار الذي تعاني منه غزة، أو المشكلات التي يعبرها الواقع الفلسطيني، علما بأننا اليوم عالميا على المستوى الفلسطيني أفضل من أي وقت مضى، فهناك تفهم حقيقي بفضل الإعلام الجديد والأنواع الجديدة في التواصل مع الشعوب، فهناك تفهم أفضل للقضية الفلسطينية، لكن للأسف لا نستطيع أن نحصد ثماره، بسبب حالة التردي والانقسام والتشظي في واقعنا العربي، فتحالف مثل هذا ينبغي أن يضع القضية الفلسطينية في المركز، وتحالف مثل هذا ينبغي أن يضع سوريا في طليعة القضايا التي يجب أن نتعاطى معها، فإعادة الاستقرار إلى سوريا ومحاولة القضاء على هذا النظام الذي فجر المنطقة تفجيرا طائفيا وتفجيرا سياسيا ومذهبيا.
ينبغي لنا أن نضع العراق في صميم مثل هذا التحالف؛ لأن العراق هي درع الجزيرة العربية، ومن دون هذا الدرع فنحن منكشفون أمام إيران وأمام كل الصراعات التي يمكن أن تنشأ في المستقبل. وينبغي وضع أفغانستان أيضا في قائمة هذا التحالف لمحاولة التوصل إلى واقع في أفغانستان يجعل منها دولة مستقرة بمشاركة كل مكونات الشعب الأفغاني على اختلاف تصنيفاتها وتسمياتها في نظام سياسي أكثر استقرارا.
تحالف مثل هذا يمكن بالفعل أن ينجح، بل إن مقومات نجاحه اليوم أكثر من أي وقت مضى، والسبب في ذلك، وهذا هو الموضوع الثاني الذي أود التحدث عنه، هو أن الواقع الدولي لم يعد كما كان في السابق، فحديث عن حلف إقليمي يعيد الاستقرار في المنطقة اليوم لم يكن ممكنا عام 2006 أو عام 2010 أو حتى في العام الماضي، والسبب في ذلك أن الولايات المتحدة اليوم ليست كما كانت في السابق، والاتحاد الأوروبي ليس كما كان في السابق، فاليوم الولايات المتحدة اتخذت سياسة استراتيجية واضحة حيال الملفات الخارجية جميعها، وهي الانسحاب الجزئي من كمية التدخل التي كانت إدارة بوش والإدارات السابقة تحاول أن تقوم بها، وأنا الآن لا أتكلم عن الشرق الأوسط فقط، انظروا إلى أوكرانيا، وبالمناسبة فموضوع أوكرانيا من أكثر الموضوعات التي تؤثر في العلاقات الدولية، وتؤثر على توازنات القوى بسبب قربها من الاتحاد الأوروبي والعلاقة القديمة بين روسيا والغرب، فما الذي فعله الغرب من أجل أوكرانيا؟
لقد استطاعت روسيا أن تحتل القرم ثم اليوم تتدخل في المنطقة الشرقية من خلال المليشيات الأوكرانية، فماذا استطاع الاتحاد الأوروبي أن يفعل سوى بعض من العقوبات التي تحاول معظم الدول الغربية أن تتجنبها، لأن لها تأثيرا سلبيا على اقتصادياتها المتداعية، ثم ماذا بعد ذلك؟ لا شيء، فحتى تزويد الحكومة الأوكرانية بالسلاح ما زال محل جدل كبير في الأوساط الغربية وفي الولايات المتحدة الأمريكية.
فإذا كان القرار بالنسبة للإدارة الأمريكية هو عدم المواجهة، فيستطيع أي طرف إذن أن يفعل ما يشاء متنبئا بالعواقب، وروسيا تدرك ذلك جيدا، وأعتقد أننا في عالمنا العربي ينبغي علينا أن ندرك ذلك جيدا، الولايات المتحدة اليوم ليست كما كانت في السابق، اعتدنا نحن هنا في واقعنا العربي أن ننظر إلى أمريكا على أنها هي العالم، وهي الخارج، وهي المجتمع الدولي والإرادة السياسية، أما اليوم فأمريكا تقول: أنا لم أعد كما تريدون، فينبغي لنا ألّا نتمسك كثيرا، بل على العكس، ينبغي لنا أن نفرح؛ لأن الانسحاب الأمريكي الجزئي من هذه المنطقة بتقديري وبرأيي أفضل فرصة لبناء تحالف إقليمي ورؤية ذاتية لواقعنا متمحورة ومتمركزة حول مصالحنا نحن لا مصالح الغرب في بلادنا.. ينبغي لنا أن نواجه مثل هذه الحقيقة.
وأقول لقاصدي “كامب ديفيد” الأسبوع القادم من أجل اللقاء مع الرئيس أوباما، زعماء مجلس التعاون الخليجي، ينبغي أن تضعوا باعتباركم أن الإدارة الأمريكية الحالية تواجه اليوم معركة حقيقية في واشنطن ينبني عليها صورة مستقبل الرئيس أوباما، وهي معركة إقرار الاتفاق النووي “اتفاق لوزان”. وتعرفون أن الكونجرس سيجتمع غدا لتمرير قانون يقرر فيه أن “لا اتفاق مع إيران دون موافقة الكونجرس”، وسيمر هذا القانون غدا، والجمهوريون لأول مرة –ربما- في التاريخ المعاصر يتجرؤون على رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بأن يخاطبوا رئيسا أجنبيا كما فعلوا بالرسالة التي بعثوها إلى إيران محذرين من أن الاتفاق لن يمر.
أوباما اليوم في واشنطن همه الأول والثاني والثالث هو الاتفاق النووي، واللقاء المزمع في “كامب ديفيد” (وكامب ديفيد بالمناسبة مكان مشؤوم كما تعلمون، لم يأت للعرب منه أي خير)، ينبغي أن نذهب ونحن على يقين بأن أوباما يريد من هذا اللقاء أن يحصل على موافقة عربية يذهب بها إلى زعماء الكونجرس والى الجمهوريين، ويقول لهم: أنتم تقولون بأننا سنتخلى عن حلفائنا، وأن من ضمن السلبيات المثارة في الإعلام الأمريكي بأن الاتفاق مع إيران سيؤثر على العلاقة مع العالم العربي، فهذا ليس صحيحا، وجميعهم موجودون، ووافقوا، ولا مشكلة لديهم في الاتفاق مع إيران.
اللقاء في “كامب ديفيد” ليس الهدف منه منطقتنا ولا الخليج ولا الصراع مع إيران، وإنما الهدف منه إنقاذ الرئيس أوباما من المواجهة القادمة مع الكونجرس، فإذا عرفنا هذه النقطة، فنستطيع أن نذهب إلى هناك، بالتالي: أولا لا نعطي موافقة مجانية على الاتفاق مع إيران، ليس لأننا لا نريد الاتفاق مع إيران، بل برأيي لأن الاتفاق مع إيران في النهاية سيكون أمرا واقعا، لأن الولايات المتحدة الأمريكية لن ترسل طائراتها وبوارجها لتحارب إيران، وأوباما يعرف ذلك والجمهوريون يعرفون ذلك، لكن الموافقة هنا إن تمت ينبغي أن يكون لها ثمن، وثمنها: العراق وسوريا واليمن.
نريد من الإدارة الأمريكية أن تغير من مواقفها الحالية باتجاه هذه الملفات الثلاثة. البعض يقول أن الأمريكان يدعموننا في اليمن، لكن هذا ليس صحيحا.. الأمريكيون في اليمن يستخدمون منطقا ذا طابع مختلف عن الذي نريده، الأمريكيون في اليمن يقولون إنهم مع “عاصفة الحزم” من حيث المبدأ، لكنهم في الحقيقة ضدها، هذه حقيقة، ودول المنطقة كلها تعرف ذلك، تعرف أن الأمريكيين يضغطون باتجاهات مختلفة على الواقع في اليمن، فهم يريدون وقفا فوريا لإطلاق النار تعقبه عملية سياسة، وتعرفون أن هذا في النتيجة ليس في صالح اليمن.
أما في سوريا، فالأمريكيون منزعجون جدا من تقدم الثوار باتجاه دمشق، ويضغطون على كل الدول الداعمة للثورة لوقف التقدم نحو دمشق، حتى لا يسقط نظام بشار الأسد؛ لأن الأمريكيين يعتقدون أن سقوط نظام بشار الأسد هو قيام لنظام يعتقدونه إرهابيا، ولذلك لا يريدون لهذا الأمر أن يتم، ويطرحون بالمقابل صفقة ما تمكن بشار من البقاء سنة أو اثنتين كمرحلة انتقالية يحاربون خلالها تنظيم الدولة وجبهة النصرة وغيرها حتى يصلوا إلى الاتفاق النهائي.
أما في العراق، فالسياسة الأمريكية هي في الوقوف الكامل مع حكومة العبادي، وأنا أعتقد وأنتم تعرفون أن حكومة العبادي التي نتحدث عنها اليوم لا تختلف كثيرا عن حكومة المالكي فيما يتعلق بالسياسات والاستراتيجيات الكبرى في العراق، وما زال الواقع العراقي الذي رأينا مشهدا كئيبا منه في تكريت ماثلا أمامنا: جيش مذهبي وميليشيات متطرفة تمارس أبشع الممارسات، كما تمارس غيرها من التنظيمات، وبالتالي ليس هناك كيان رسمي حكومي عراقي نستطيع أن نقف خلفه ونقول إنه يمثل الدولة العراقية، بل هناك كيان رسمي عراقي يمثل طائفة ومذهبا ومصالح معينة لا يمكن بحال القبول بها.
إذن المقولات الثلاث لأمريكا في منطقتنا تلتقي حقيقة مع الرأي الإيراني، ولذلك قناعتي هو أن السقف الأمريكي اليوم في الشرق الأوسط هو سقف إيراني، فالرؤية الأمريكية في اليمن تقوم على وقف فوري لإطلاق النار من أجل بدء عملية السلام، وفي سوريا وقف الزحف نحو دمشق من أجل مفاوضات ومرحلة انتقالية، وثالثا في العراق دعم حكومة العبادي للقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية، هذا هو الموقف الإيراني.
وإذا ذهبنا نحن إلى واشنطن، فينبغي أن يكون واضحا لدينا أن المطلوب منا ينبغي أن يكون له ثمن، والثمن ينبغي أن يكون وقوف أمريكا مع تغيير حقيقي في سوريا، وتغيير حقيقي في العراق، وتغيير حقيقي في اليمن، ومن غير ذلك ينبغي لنا ألّا نعطي أوباما شيئا مجانيا من قبيل الموافقة المجانية على خطته لكي يستخدمها في صراعه مع الجمهوريين ومع الكونجرس.
النقطة الثالثة، مستقبل هذه المنطقة في ظل الصراع الداخلي بعالمنا العربي، للأسف مررنا بحالة مريرة، احتفلنا وانتشينا كثيرا بالواقع العربي عندما استطاع شبابنا أن يقفوا في ميادين العزة والكرامة والتحرير ويفجروا فينا كوامن الأمل، ثم انقضت القوى المعادية للثورة على القيادات الغضة الطرية من شبابنا ومن أحزابنا وتياراتنا السياسية، وربما كانت تنقصنا الخبرة والتجربة في إدارة كثير من الأمور، لكن الذي حدث أنتم تعرفونه.
اليوم نحن في واقع صعب، وأعتقد أن السهام التي توجهت إلى قلوبنا ينبغي ألّا تصل إلى نفوسنا وآمالنا، ينبغي أن نحتفظ بأن المشروع الذي ابتدأ بصيحة شاب في تونس من أجل الحرية والكرامة، ينبغي أن يستمر بنضج ووعي وإدراك تام لمتغيرات المنطقة، ومتغيرات الصراع وإدراك تام للمآلات التي نريدها.
مشروع التحرر والكرامة في عالمنا العربي مشروع ثابت مستمر، ومن يعتقد أننا قد هزمنا، وينبغي أن نرجع خطوة إلى الخلف، وينبغي أن نصمت عشرين أو ثلاثين سنة، فهذا كلام محبط وغير دقيق وغير موضوعي، لأننا وإن لم ننتصر في واقع الحرية والديمقراطية في عالمنا العربي، فغيرنا أيضا لم ينتصر؛ لأن القوى المضادة للثورة لم تنتصر، والآن تستطيعون أن تنظروا حولكم لتروا أن كل الأنظمة التي ولدت كمحاولة لوأد الثورة هي أيضا لم تحصل على الشيء الكثير، بل بالعكس تعاني من إشكالات أعمق وأكثر من الإشكالات التي تعاني منها القوى التي تطالب بالاستمرار بالحرية والديمقراطية.
ومن هنا، ينبغي لنا أن نقول بأن الأمل مستمر، وأن الواقع لم يبدأ بالأمس ولن ينتهي غدا، فهذه المنطقة منذ آلاف السنين كانت محطا للتغيير العالمي أجمع، والتغيير فيها له انعكاسات على العالم كله، وثمن التغيير فيها أكبر من ثمن التغيير في أي مكان على وجه الكرة الأرضية، فمن أراد أن يسعى من أجل استقرار حقيقي لمنطقة الشرق، ينبغي له أن يعلم أن الثمن سيكون باهظا، وأن الطريق سيكون طويلا، وأن الصبر سيكون ملزما، ومن لا يستطيع أن يفعل ذلك فعليه أن يتنحى اليوم، وألّا يكون عامل إحباط أو يأس.
التاريخ قال لنا إن الرسالات السماوية ولدت هنا، والمذاهب الفكرية ولدت هنا، وبالتالي هنا يكمن أعلى درجات التعقيد في المشهد الذي نعيشه، فعندما نتحدث عن الشرق إنما نتحدث عن روح الشرق، وروح الشرق ليست بعيدة عن الروح العالمي بفلسفته وسياسته وتاريخه واقتصاده، ولذلك نريد أن نفهم ذلك، ونفهم أننا نعيش في مركز الكون، وأن هذا المركز نحتاج فيه إلى فعل أعمق وأبعد وأذكى مما كان وربما ما زال موجودا حتى هذه اللحظة.
أقول هذا لأن اليأس الذي يتسرب إلى قلوب كثيرين، ربما يدفعنا إلى قدر كبير من الاستعجال، وأنا أعتقد أن الثمن الذي دفع من أجل الكرامة والعزة في عالمنا العربي لا يزال ثمنا قليلا إذا ما قورن بأن هذا الصراع هو صراع على المستقبل بأجمعه، فهو ليس صراعا على كرسي رئاسة، ولا على موقع في برلمان، وليس صراعا على حقيبة في وزارة.. هذا صراع على روح الشرق، هذا صراع على روح الأجيال القادمة، هذا صراع على روح التغيير في العالم أجمع، وينبغي لنا أن نفهم ذلك، وأن نعيشه، وأن نتعاطى معه كما ينبغي، رجالا ونساء، أن نكون مستعدين لمراجعة أنفسهم وأفكارهم، ويخرجون بمناهج وبرامج قادرة على أن تقف في مواجهة أي حلف عالمي وإقليمي. أما الجديد، فسيولد بنا أو بغيرنا، وينبغي أن يكون لنا شرف أن يكون مع من يقف إلى جانب هذا الجديد.
أود أن أختم بالقول بأن العالم اليوم والمنطقة ونحن في مجتمعاتنا نعيش حالة فريدة، وأستعيد مرة ثانية روح الصحفي التي عشتها، وما زلت أعيشها في ذاتي، والصحفي تطربه في كثير من الأحيان حالات الانتقال، ولا أقول الأزمات ولا التوترات، لكن الرتابة والنمطية الموجودة في القبور لا تطرب أحدا، وإنما التحول والتدافع هو الذي يطرب ويفتح الآفاق، ونحن نعيش حالة تحول الآن علينا أن نحتفي بها وألّا يصرفنا الألم عن العيش المستمر في دوائر الأمل بالتغيير، وينبغي ألّا تصرفنا الأثمان الباهظة عن أن نتمسك بالجوائز الكبرى المتحققة لأولادنا وأحفادنا والأجيال القادمة.
ثم ينبغي لنا أن ندرك أننا لسنا فقط في صراع جيوسياسي، بل نحن في صراع فكري وصراع من أجل اكتشاف ذواتنا، فكم فجر فينا الربيع العربي من ألم، وكم فجر فينا من مآسي، كم فجر فينا أيضا من عفن محتقن في أفكارنا ورؤانا وتصوراتنا، هل كان أحد يعتقد أن شعوبنا التي خرّجت هؤلاء الشباب الذين احتفلوا في الميادين من أجل العزة والكرامة خرّجت أيضا من يحتفي بقتل الناس وحرقهم وذبحهم.
نحن أيضا نعيش حالة أزمة في فكرنا ومنهجنا وواقعنا، وهذه فرصة جديدة لكي نعيش حالة انقلاب على كل هذه المفاهيم، وإعادة بعث جديد لمفاهيم جديدة ترتقي بنا لهذا المستوى الجديد. المستوى الذي أتحدث عنه من روح الشرق لا تحمله نفوس مأزومة، ولا عقول مضطربة، ولا أرواح تائهة، إنما تحمله عزائم رجال ونساء عرفوا هويتهم وثقافتهم وحضارتهم كما ينبغي أن تعرف، عرفوها بروح الفتح لا بوعود الذبح، عرفوها كما عرفها محمد صلى الله عليه وسلم الذي إن قاتل فإنما قاتل ليقول في ختام المشهد: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”..
هذه هي روح الفتح التي جاء الإسلام لكي يغذيها في أبناء الشرق، لا روح الذبح، وينبغي ألّا يدفعنا اليأس للحظة زمنية واحدة أن نختار الانتحار بدل حياة الكرامة، لأن الوجود في حد ذاته مقدس، والله خلقنا لكي نعمر الأرض لا أن نعمر المقابر، فان عمرنا المقابر يوما، فإنما نفعل ذلك لكي يعمر الأرض غيرنا من أبنائنا، لكن ليس هدفنا أبدا أن نعمر المقابر، فنحن عمار الأرض وعمار الحياة ونحن صناع الأمل، هذه هي ثقافة الشرق، أقول هذا لأن شبابنا اليوم موزعون مفرقون تائهون بين دعوات غريبة وبين شعارات عجيبة ترفع باسم الدين يوما، وترفع باسم الثأر وباسم المذهب وباسم الطريقة وباسم شيء من هذا وذاك، ولكن أين تلك الروح العميقة القديمة العتيقة الموجودة فينا جميعا؟ أين روح المحبة والإخوة من أبناء الشرق؟..
أنا عشتُ في فلسطين، وعاش كل واحد منكم من أبناء هذه المنطقة في بلده وقريته ودولته، عشنا وأصدقاؤنا وجيراننا مسلمين، شيعة سنة، مسيحيين ودروز وعلويين، عشنا عربا وكردا وعجما، عشنا جميعا في هذا الشرق، عشناه شرقا واحدا، هذه هي روحه والذي يعاند هذه الروح سينكسر، أما روح الشرق فستبقى فينبغي ألّا نعاندها، هذا الشرق هو التنوع، هذا الشرق هو التعدد، هذا الشرق هو الاستعلاء فوق كل الفروقات ومن أراد أن ينحدر إلى جحر يأوي إليه، فإنما ينحصر فيه ويموت ويذوي، أما الشرق بنوره ومستقبله، فباق بإذن الله تعالى لنا جميعا، وإن كنا سنحارب من أجل الحرية، فسوف نحارب من أجل الحرية لنا ولغيرنا، سنة وشيعة، عربا وتركا وكردا وإيرانيين.
هكذا سينتشر فينا الأمل وفي المستقبل، ولن يستقر هذا الواقع في الشرق إلا إن استقر لنا جميعا، وإلا إن كانت النتيجة خلاصا لنا جميعا، وأقول مرة ثانية: عجبتُ لنيلسون مانديلا عندما وقفتُ في العام 1994 أستمع إلى خطابه في جنوب أفريقيا عندما صار رئيسا وعندما أوقف إلى جانبه جلاديه، وقال “جئتُ اليوم لا لأحرر نفسي، بل لأحرر جلادي، لأن الحرية لا تقبل الاحتكار، وأقول هذا مرة أخرى ، وأسأل الله أن تكون لنا الحرية جميعا في هذا المكان العزيز العظيم الجميل الرائع المسمى “الشرق”.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.