اعتادت صغيرتي “لين” أن تمشي بالحجلة وتذهب إلى خزانات المطبخ وتفتحها تباعاً لتعبث بها دون أن أراقبها أو أحاسبها، كنت قد أفرغت محتوياتها الخطيرة والحادة لتكون سهلة عليها في البحث والاستكشاف. هكذا قرأت!
لين التي بلغت من العمر عاماً متعلقة بي لدرجة كبيرة حينما نكون خارج البيت فلا ترضى أن يحملها أحد أو يتكلم معها من دون وجودي، تصرخ إذا ما رأتني ابتعدت عنها متراً واحداً، أما في البيت فلا تسأل عني ولا تبحث فهي تعلم أن والدتها “تمسك هاتفها” تتحدث مع صديقاتها او أخواتها في مكان ما.. فتذهب لتلعب و تعبث مطمئنة.
أصبحت لا تنتظر مني ألعابا كثيرة فألعابها في السلة الصفراء موجودة بغرفة الجلوس، لا تنتظر مني قفزاً أو غناءً كما كانت في السابق.. لا تنتظر مني سوى إطعامها إن جاعت و تغيير ملابسها وقراءة بعض الآيات عند النوم، حتى أن صوت القرآن أصبح لديها يعني وقت الرضاعة والتنويم!
ومع أنني في الأشهر الأولى من عمرها كنت أمنحها من الوقت الذي جعلها تُميزني عن غيري بوقت مبكر، أصبحت لها حركات خاصة معي لا تقوم بها مع والدها أو جدتها اللذان يتواجدان معنا في البيت، أشعر بذكائها الذي أعتقد انه نتاج حديثي الطويل معها، أما الآن فعلى ما يبدو ويصدم أن لين بدأت تعتمد على ذاتها في كثير من الأمور بما فيها الأكل الذي تطاله من الأماكن المنخفضة، لا تنتظرني كثيراً فالجهاز النقال الذي لا يفارق يداي اصبح بالنسبة اليها مثل الخاتم الملتصق بيدي اليسرى!
صحيح أن الاهتمام والعناية بالطفل في بداية أيامه هي ليست كالاهتمام به بعد العام الاول، فأوقات الرضاعة تكون أكثر في أيامها الاولى من الان، صحيح أن الرضيع بحاجة الى أصوات وأحاديث كثيرة، إلا إن حاجته الى أمه بعد العام الاول تعد أهم بل وأخطر من كل ذلك، لم تعد بحاجة الطعام والشراب والنوم فقط، هي بحاجة الى غرس كل ما نريده نحن، ما نطمح ان يكون في جيلنا، ما نحلم به من صفات تلتصق بأولادنا، أصبحت بحاجة الى تعليمها الصغيرة والكبيرة من خلال حركاتنا واساليبنا وتصرفاتنا التي تكون أوضح اليها من الكلام والإرشاد والتوجيه، هي مرحلة صعبة من عمرها ومن عمري انا أيضاً، ما يدخل عقلي من أفكار يخرج لها على هيئة سلوك تلتقطه كالطير وتمضي به في سنواتها، ما أقوله لأبيها يعتبر بالنسبة لها أسلوب حياتنا، فحقا هي تضحك الى درجة جذب الانتباه عندما نكون نضحك سوية، وتراقب بعيون ملؤها الخوف والغرابة عندما تسمع نبرة صوت تُشير الى مشكلة ما، نتاج ما تعلمته في حياتي يتضح لها الان بكل التصرفات، وهنا يظهر دور الام المثقفة بالمعرفة والمتسلحة بالصبر والقدرة على العطاء والإبداع اكثر، يتضح دورها عن غيرها من التي لا تفقه من الأمومة سوى مبتدآت حياة الرضيع الاولى. المسألة أكبر بكثير من طعام وشراب..
مع كل يوم ندرك أكثر خطر الإفراط باستخدام الهواتف المحمولة على حياتنا، ولكن ماذا بالنسبة لخطر استخدامها من قبلنا على أطفالنا ؟
ففي أوقات الفراغ نتجه جميعا لتصفح الفيسبوك ورسائل الواتساب لنترك الأبناء على التلفزيون أو الآيباد فتضيع منا أوقاتاً نتمنى لو أنها تعود، وربما يضيع منا أطفالنا فلن ينفع التمني ولا الندم!
مُتيقنة أن ابنتي التي تشبه والدها شكلاً وعيوناً ولا تُشبهني، ستشبهني طَبعاً وتصرفاً وسلوكاً حين تكبر، ستشبهني حديثاً وفكراً، حريصة انا اليوم على مراقبة نفسي أكثر من مراقبتها المستمرة لي، أكثر من نظراتها التي تلاحقني حيث ذهبت، أكثر من تقليد غنائي لها وحركاتي وتصفيقي..
لنضع لكل كلمة وحركة امام أطفالنا مائة حساب، الام قدوة طفلها، ومرآته التي يجب ان تسعى لإتقان صناعتها وجودتها أكثر من تنظيفها وتلميعها أمامه.
لا أجهزة تغني عن معنى العائلة ولا صديق يُعوض عن الابن، لكل وقته ولكل مقامه، فلنحرص على احترام أوقات اللعب والحديث مع أبناءنا بقدر احترام أوقات الحديث مع أصدقاءنا وأكثر، وإذا كنا نطالبهم باحترامنا والإحسان إلينا، فلنتذكر أن الإحترام يبدأ من الوالدين أولاً.