في إيران، وقعت ثورة مكتملة الأركان، بالغة العنف، ولكنها لم تأت بالحريات والنظام الديمقراطي.
وفي تركيا، ناضل الشعب طويلاً ضد نظام الاستبداد والنخبة المدنية العسكرية الحاكمة، حتى استطاع أن يؤسس دولة الحرية والديمقراطية، التي يرى البعض أنها لم تصل بعد، بالرغم من الإنجازات الكبيرة، إلى لحظة الحسم النهائي مع الماضي، وإن أصبحت قريبة منها.
فأي مصير ينتظر دول المجال العربي، بعد أن تعثرت حركة الثورة والتغيير، طرح من الأسئلة والشكوك حول المستقبل أكثر مما توفر من اليقين.
أحد أبرز هذه الأسئلة اليوم أن ما شهدته دول مثل تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية، إضافة إلى الأردن والمغرب، لم يكن ثورة بأي حال من الأحوال، بل مجرد حراك شعبي، مسلح وغير مسلح، جاء بنتائج غامضة ومختلطة، ولم يكن باستطاعته وضع أسس مستقرة لنظام ودولة جديدتين، ولا أن يحقق مطالب الأغلبية الشعبية بصورة مرضية.
في تونس ومصر واليمن، انتهى الحراك الشعبي إلى أنظمة قلقة، اجتمعت فيها، بدرجات متفاوتة، قوى التغيير مع قوى الأنظمة السابقة، وتحولت الدولة إلى ساحة للكراسي الموسيقية.
وبالرغم من التعديلات الدستورية الشكلية في المغرب والأردن، فليس ثمة شك أن مركز القوة والقرار في البلدين لم يتزحزح من مكانه.
أما في ليبيا وسورية، فقد كانت نتائج النزاع المسلح كارثية، سواء على صعيد التدخلات الأجنبية، أو على صعيد وحدة البلاد، ومقدراتها، وتماسك جماعتها الوطنية.
قد لا يكون هذا التشخيص لواقع دول الثورة والتغيير العربية خاطئاً كلية، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة الاعتراف بالفرضيات التي يستند إليها مثل هذا التشخيص.
ثمة دلالات تاريخية بالغة الأهمية خلف مناخ الثورة والتغيير الذي سيطر على المجال العربي منذ اندلاع الثورة التونسية في ديسمبر 2010، لابد من وضعها في الاعتبار قبل محاولة تحديد طبيعة اللحظة التي تعيشها هذه الحركة العربية الكبرى، ومحاولة قراءة المصير الذي يمكن أن تنتهي إليه.
ليس من الصحيح بالطبع القول بأن الحيوية الشعبية العربية، المسلحة وغير المسلحة، تمثل تطوراً غير مسبوق في تاريخ العرب الحديث.
الحقيقة، أن هذه الشعوب خاضت نضالاً مريراً من أجل الاستقلال الوطني ودحر السيطرة الأجنبية، طوال النصف الأول من القرن العشرين.
في بعض حالات التحرر الوطني، كما في العراق وسورية وفلسطين، واجهت الشعوب الأنظمة الإمبريالية مباشرة وبدون انتظار. وفي حالات أخرى، قدم الشعب، كما في الجزائر، مئات الألوف من الشهداء، خلال سنوات قليلة من النضال من أجل الحرية والاستقلال.
كما شهد العالم العربي، سيما في عقدي الخمسينات والستينات، حراكاً شعبياً هائلاً باسم الوحدة وفلسطين. هذه محطات تاريخية في سجلات الشعوب العربية لا يجب نسيانها أو تجاهلها.
ولكن الحراك الشعبي الراهن، والمستمر منذ ما يقارب الثلاث سنوات، يختلف قليلاً؛ ليس بمعنى أنه أكثر نبلاً، ولكن من جهة اختلاف دوافعه وسياقه وأثره على مستقبل العرب.
حكمت هذه المنطقة من العالم خلال العصور الإسلامية الوسيطة والحديثة المبكرة من قبل أنظمة سلطانية؛ تشكلت قواها الحاكمة من نخب عسكرية أو سلالية.
ولكن لا الجند الأتراك ولا المماليك، ولا طبقة السباهي والإنكشارية العثمانية، ولا العائلات السلطانية، أقامت حكماً استبدادياً، وذلك لسبب رئيس، يتمثل في طبيعة الدولة التقليدية في التاريخ الإسلامية، الدولة التي لم تكن تتمتع بسلطة تشريعية، ولا هيمنت على المجال العام، تعليماً وصحة وتجارة، إلخ.
منذ منتصف القرن التاسع عشر، وبإرادة النخب الحاكمة، كما في إسطنبول وتونس والقاهرة، أو بقوة الإدارات الاستعمارية المبكرة، كما في الهند والجزائر، بدأت عملية تحول جذرية وبالغة الأثر في بنية الدولة، التي تحولت، تدريجياً وبصورة حثيثة، من دولة تقليدية محدودة السلطات، إلى دولة حديثة، مركزية، ذات سيطرة شاملة على الشعب والأرض.
ولكن عملية التحول تلك، التي استمرت حتى مطلع القرن العشرين، لم يصاحبها تطور جوهري في بنية الطبقة الحاكمة.
بمعنى أن نطاق سيطرة الدولة قد اتسع بصورة غير مسبوقة في تاريخ الاجتماع العربي الإسلامي، من دون أن تصبح الطبقة الحاكمة أكثر ديمقراطية وتمثيلاً لعموم الشعب، حتى بعد أن أسست مجالس بلديات المدن وسنت الدساتير وولد مفهوم المواطنة.
وظلت الطبقة الحاكمة أقرب إلى الأقلية الاجتماعية منها إلى التعبير عن الأغلبية الشعبية، تنوعاً وإرادة. خلال القرن العشرين، وسواء في عهد الإدارات الإمبريالية، أو في ظل دولة الاستقلال الوطني، لم تتغير الطبيعة الأقلوية للطبقة الحاكمة، وإن تغيرت هوية هذه الأقلية، من مرحلة إلى أخرى.
في مرحلة مبكرة، وبعض الكيانات العربية الجديدة، كما في الدولة الجمهورية التركية، تسلم مقاليد الحكم أبناء طبقة أعيان المدن العثمانية السابقة، الذين تلقوا تعليماً حديثاً في مدارس ومعاهد الدولة العثمانية المتأخرة، أو شبيهتها المصرية والتونسية، إداريين سابقين كانوا أو عسكريين.
في مرحلة تالية، وبلدان أخرى، أطاح الجيش بالطبقة الحاكمة السابقة وأقام نظام حكم عسكري صريح أو مقنع. في مجموعة ثالثة من البلدان العربية، هيمنت على الحكم أقلية طائفية، بقوة الجيش أو للطبيعة الخاصة التي ولد بها الكيان السياسي، أو أسر ملكية.
مع نهاية القرن العشرين، وحتى في البلدان العربية التي عرفت الانتخابات والتعددية الحزبية، الحقيقية أو الصورية، كانت الساحة السياسية العربية لا تختلف كثيراً عما كانت عليه في نهاية القرن التاسع، حيث تقبض أقليات مختلفة على مقاليد الحكم والسلطة دون اكتراث كبير بمشاركة الشعوب في تقرير مصيرها.
الاختلاف الجوهري كان في طبيعة العلاقة بين نظام الحكم وجهاز الدولة؛ إذ استطاع الترويض الحثيث على مدى عقود، ومنذ ستينات القرن العشرين، على الأقل، إخضاع الدولة بأذرعها المختلفة لأنظمة الحكم، بحيث لم تعد ثمة مساحة فاصلة بين الاثنين.
ومنذ هبت رياح تحرير السوق والتجارة على دول المجال العربي في سبعينات القرن الماضي، صنعت الفئات الحاكمة طبقتها الخاصة من رجال الأعمال والتجارة، التي سرعان ما أصبحت شريكة في الحكم أيضاً.
باختصار، بدلاً من التحول التدريجي من حكم النخب التقليدية إلى النظام التمثيلي الديمقراطي، ولدت أنظمة حكم استبدادية مغلقة، تسيطر عليها أقليات من أصناف مختلفة، تهيمن بصورة شبه مطلقة على نظام الحكم والدولة والثروة.
أحد أبرز سمات حركة الثورة والتغيير العربية، خلال السنوات الثلاث الماضية، أنها لم تحمل شعارات إيديولوجية معينة ولم تقدها قوى سياسية إيديولوجية، أو فئات اجتماعية، بعينها.
كان ثمة إسلاميون وقوميون وليبراليون ووطنيون بين صفوف الشبان والشابات الذين ازدحموا في شوارع المدن العربية، ولكن حركة الثورة لا يمكن تصنيفها باعتبارها تجلياً لهذه المعتقدات المرجعية؛ وكان هناك أبناء طبقة وسطى، وعمال، وفلاحون، ومهمشون، ولكن أياً منهم لم يستطع أن يصبغ الحراك الشعبي بصبغته.
تعلقت القوة الرئيسية المحركة لهذا الحراك الشعبي بقيم اجتماعية سياسية أولية: الحرية، الديمقراطية، الكرامة الإنسانية، والحكم الرشيد.
وهذه، بكلمة أخرى، حركة تطالب بوضع نهاية لحكم الأقليات، الاجتماعية والعسكرية والسياسية والطائفية، وما أفرزته من استبداد وفساد واحتكار للثروة.
وبهذا المعنى، لابد من فهم هذه الحركة الشعبية الكبرى باعتبارها رداً تاريخياً على البنية الأقلوية لسلطة الدولة الحديثة في المجال العربي، البنية التي لم تتغير سوى صورياً طوال أكثر من قرن من الزمان.
قد تتعثر هذه الحركة قليلاً هنا أو هناك، قد تتراجع، أو ترتبك، ولكن، وكما شهدت شعوب أخرى، في مناطق أخرى من العالم، ليس ثمة سبيل لتوقفها، ولا لمنعها من الوصول إلى أهدافها النهائية.
كانت الحرية، ولا تزال، إحدى القيم الكبرى للحياة الإنسانية، وكما استطاعت الشعوب العربية قبل نصف قرن تحقيق الحرية من السيطرة الأجنبية، انطلقت أخيراً لتحقيق الحرية من سيطرة الاستبداد وأنظمة الأقليات الحاكمة.
هذه هي اللحظة التاريخية التي يعيشها العرب، بغض النظر عن الغموض والتردد والارتباك الذي يشوب صورتهم ونضالهم من أجل التغيير.
بعض هذا الغموض والارتباك، بالطبع، يعود إلى التدافع السياسي الاجتماعي داخل البلدان العربية، نظراً للتفاوت الكبير في مصالح وتوجهات وولاءات القطاعات الشعبية المختلفة.
ثمة قوى وفئات ارتبطت مصالحها، أو تشكلت رؤيتها لذاتها والعالم كلية، من خلال أنظمة الاستبداد وحكم الأقليات، بغض النظر عن الجدل المحتدم حول حجم وفعالية هذه القوى والفئات. ولكن الواضح الآن أن قدراً ملموساً من هذا الغموض والارتباك يعود إلى التكوين الفريد للمجال العربي.
فرغم أن العرب لم يعيشوا مطلقاً ضمن دولة عربية واحدة، وأن الدول العربية القطرية، التي ولدت من نظام ما بعد الحرب الأولى، باتت عميقة الجذور، هناك ارتباط وثيق بين دول وشعوب المجال العربي، ارتباط ثقافي وسياسي، وارتباط استراتيجي وأمني.
وهذا ما يجعل تدخلات الأحزاب والأفراد والدول في حياة ونشاطات الدول الأخرى، ووحدة آمال وآلام الشعوب في البلدان المختلفة، أمراً طبيعياً ومعتاداً.
ولذا، فإن حركة التغيير العربية، على الأرجح، لن تحقق أهدافها كاملة حتى تطال المجال العربي كله. من دون ذلك، ليس ثمة قوة يمكنها أن تمنع فئة حاكمة في بلد ما من محاولة إحباط عملية التغيير في بلد آخر.
في النهاية، سيخط العرب طريقهم نحو الحرية ضمن ظروفهم الموضوعية، وخصوصيات الزمان والمكان. كل حركات الثورة والتغيير في العالم الحديث تتشابه بهذا القدر أو ذاك، ولن يكون غريباً أن تجمع الحركة العربية مشتركات ما مع الشعوب الأخرى. ولكن المجال العربي اليوم ليس إيران ولا تركيا، وسيصنع تجربته ومستقبله ضمن شروطه الخاصة.