في إطار التأسيس لعلم الاستغراب نشرنا على هذا الموقع سلسلة من المقالات، بدأت بموجز عن تاريخ العلاقات بين الإسلام والغرب، فتحدثنا عن تاريخ الصدام بينهما في أربعة أجزاء (الأول، الثاني، الثالث، الرابع) ثم ما نبت على ضفاف هذه الحروب من تاريخ الاتصال: في السفارات (ج1، ج2) والرحلات والبحث العلمي (ج1، ج2، ج3)، ثم عن بدايات التفكير في دراسة الغرب، وانطلاقته ورواده الأوائل: الطهطاوي والتونسي والشدياق، ولماذا لم ينضج علم الاستغراب في بلادنا حتى الآن، ثم في ضرورة علم الاستغراب ولماذا ينبغي أن يدشن في أربعة أجزاء أخرى (العلم – الدعوة – التعاون – المواجهة) وعن ضرورة أن يتأسس على رؤية إسلامية أصيلة (ج1، ج2) وعلى قاعدة من الشعور بالتميز الإسلامي (ج1، ج2).
وعرجنا بالحديث عن تجربة الاستشراق لنستفيد منها، فتحدثنا عن رحلة الاستشراق: ولادته، وطفولته، ونضوجه، وموقفه من الإسلام، وما قيل عن موته، وتجدده. ثم طالعنا حصاده: إنجازاته وإخفاقاته، وأهم دروس هذه التجربة.
ونسأل الله أن يعيننا في هذا المقال والمقالات التي تليه لوضع ملامح هذا العلم: علم الاستغراب.
***
لقد شكل الإسلام عقل المسلم بحيث تترتب فيه الأولويات بوضوح، فالمسلم يعرف من دينه أن العقائد مقدمة على العبادات، وأن الفرائض مقدمة على النوافل، والأصول مقدمة على الفروع، وأن ما يتعدى نفعه مقدم على ما لا يتعدى نفعه، وأن مصلحة الأمة مقدمة على مصلحة الفرد، والمصلحة المتيقنة مقدمة على المصلحة المظنونة، والمصلحة الدائمة مقدمة على المصلحة العارضة، وأن مقاومة الشرك أولى من مقاومة الكبائر، ومقاومة الكبائر أولى من مقاومة الصغائر، وإذا عرض للمرء مصلحتان اختار أكبرهما، وإذا عرض له مفسدتان دفع أكبرهما، وإذا تعارضت المصلحة والمفسدة قدم ما كان أصلح، فإذا استوت المصلحة مع المفسدة كان درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، والمصلحة نفسها – كما قسمها بعضهم – ثلاث مراتب: الضروريات والحاجيات والكماليات، والذنوب – كما قسمها بعضهم – ثلاثة: شهوات وشبهات وشرك، ويُدفع الضرر الأعلى باحتمال الضرر الأدنى، ويُدفع الضرر العام باحتمال الضرر الخاص، والضرر يُزال بقدر الإمكان ولا يزال بضرر مثله أو أكبر منه.. وهكذا!
والقصد أن المسلم حين يلج إلى موضوع فإنه لا يدخله مدخل التائه الحيران، بل ينظر إليه نظرة المتأمل المتفحص، الذي يجمع أطراف الأمر من أقطاره حتى يتكون ويستوي تصوره في نفسه فيعرف له مدخله، أو يتخير لنفسه أحسن المداخل وأولاها.
والأمر دائمًا محل تقدير ونظر، ولكنه التقدير والنظر مع الاجتهاد وبذل الوسع، وقد ضمن النبي – صلى الله عليه وسلم – الأجر لمن اجتهد وإن أخطأ، بينما ضمن الإثم لمن لم يجتهد وإن أصاب كما في حديث القضاة، فوحده الذي اجتهد فقضى مأجور، أما من لم يجتهد فآثمٌ ولو أصاب، فالأمر، كما يقول أستاذنا جلال كشك، ليس مقامرة مأمونة الخسارة، والدول تعاقب من انتحل مهنة الطب ولو أصاب بينما لا تعاقب الطبيب ولو أخطأ [1]!
وفي موضوع الاستغراب الذي نحن بصدده، أدى بنا اجتهادنا الذي نحسب أنه يسعنا في هذا المقام إلى أن نرتب منهجه وطريقته في قسمين؛ الأول: تأسيس الأصول، والثاني: وضع معالم في طريق هذا العلم: مجالاته وأولوياته، صعوباته ومحاذيره، إجراءاته ووسائله، والمحاذير التي ينبغي التنبه لها.
ونبدأ في هذا المقال، والمقالات التي تليه بـ: تأسيس الأصول.
***
نعني بـ “تأسيس الأصول” لعلم الاستغراب تنزيل القواعد الكلية الإسلامية على موضوع هذا العلم، وقد سبق وقدمنا في المقالات السابقة أن العلم في الإسلام – كمنهج – ينطلق من قاعدة “التميز الإسلامي” التي هي دليل الإيمان بأن الله هو الحق وأن الإسلام حق وأن محمدًا – صلى الله عليه وسلم – حق وأن هذه الأمة هي خير أمة أخرجت للناس طالما حققت شرط الله منها كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما أن العلم – من حيث كونه عملية إنسانية تبدأ بالتأمل والنظر وتنتهي بالاستنتاج والحكم – محكوم بغايات وضوابط شرعها الإسلام لا يجوز الخروج عنها، وكتبناها هناك في ثلاثة عشر عنصرًا [راجع: فلسفة العلم في الإسلام ج1، ج2، ج3].
بغير هذا التأسيس لا يكون “علم الاستغراب” إسلاميًا، ولا يؤمن أن تنحرف رؤيته ومساره وغاياته، وحينها ينقلب صورة أخرى من صور الجاهلية التي تخبط في الأرض على غير هدى وتتبع الهوى {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50].
أما من قد يظن أن “تأسيس الأصول” إنما هي عملية حجر على الفكر أو تضييق على الإبداع أو نحو ذلك من شعارات مكرورة مملولة، فهذا لا يعنينا في هذا المقام إذ ليس هو بالـمُخاطب فيه، وإنما غايتنا في هذا البحث أن نحقق “التأصيل الإسلامي” لعلم الاستغراب.
إن التأصيل الإسلامي لعلم الاستغراب يحتاج إلى هضم أمور ثلاثة؛ الأول: الإسلام كدين ومنهج حياة، والثاني: الغرب كواقع وحقيقة بشرية تحتاج إلى استكناه، والثالث: الفوارق المؤثرة والـمُفَرِّقة بين الإسلام والغرب.
وهذه المقارنة بين “الإسلام” و”الغرب” هي المقارنة الصحيحة، فالإسلام ليس مجرد دين، ولذلك ليس مقابله المسيحية، وهذا أمر مفهوم وفي محل الحقيقة لدى الباحثين في التاريخ والحضارة، ويقوله المسلمون والغربيون على السواء، فهذا المستشرق الشهير هاملتون جِب يقول: “الحق أن الإسلام ليس مجرد نظام من العقائد والعبادات، إنه أعظم من ذلك كثيرًا، هو مدنية كاملة، ولو بحثنا عن لفظ مقابل له لقلنا: العالم المسيحي ولم نقل المسيحية، ولقلنا الصين بدل أن نقول ديانة كونفوشيوس” [2].
وانطلاقًا من هذا تكون أصول التأسيس لهذا العلم ثلاثة:
- “الانطلاق من الإسلام”: وما معنى ذلك وما آثاره؟
- إدراك الفوارق الجوهرية بين “الإسلام” و”الغرب”: وأين يمكن اللقاء وأين يتحتم الافتراق.
- البحث عن الثوابت والكليات الكامنة خلف الفروع والمتشابهات والمتغيرات.
فنسأل الله أن يوفقنا لبيانها في المقالات القادمة، فالله المستعان..
————————————-
[1] جلال كشك: خواطر مسلم حول الجهاد والأقليات والأناجيل ص7.
[2] جب: وجهة العالم الإسلامي ص 9.