حادث أليم، ولكنه متوقع ومُخطط مُسبقًا، ذلك الذي شهده كوكب عطارد الأسبوع الماضي، حيث ارتطم مكوك الفضاء ماسنجر MESSENGER التابع لوكالة الفضاء الأمريكية ناسا، بسطح الكوكب بسرعة حوالي أربعة كيلومترات في الثانية الواحدة، ليخلق فوهة جديدة على سطح الكوكب تُضاف إلى الخريطة الدقيقة التي رسمناها على مدار إحدى عشر سنة مستندين فيها إلى المعلومات القيّمة التي حصل عليها ماسنجر، قبل أن تنفذ طاقته وفق الخطة، ويهوى إلى الكوكب.
ماسنجر هو ثاني مكوك يُلقي نظرة عن قرب على كوكب عطارد، بعد مكوك مارينر 10 الذي اقترب من الكوكب ثلاث مرات في سبعينيات القرن الماضي، بيد أن ماسنجر هو الوحيد الذي خُصِّص بالكامل لعطارد، ليدور حوله 4100 مرة على مدار 1504 يوم، قاطعًا أكثر من 13 مليار كيلومتر، وملتقطًا 289،265 صورة بالضبط، ليفتح مكتبة جديدة من المعلومات والبيانات تفوق 10 تيرابايت.
“إنها أول مرة في التاريخ نمتلك فيها تلك المعلومات الصلبة عن عطارد، والتي كشفت لنا عن عالم مُذهِل يقع على مقربة من الشمس، وبينما نحتفل اليوم بنهاية ماسنجر كمهمة فضائية ناجحة، فإننا سنبدأ رحلة طويلة لتحليل الكم الهائل من المعلومات التي جاد بها المكوك لنكشف عن المزيد من خبايا الكوكب الذي رصده ماسنجر بدأب،” هكذا قال جون جورنسفِلد، المدير المساعد بوحدة المهمات العلمية بمقر ناسا في واشنطن.
كان ماسنجر قد تم إطلاقه في أغسطس 2004 وعلى متنه سبعة أجهزة علمية، ليصل إلى عطارد في مارس 2011 بعد أكثر من ست سنوات، ويبدأ في الدوران لمدة عام أنهى فيها كل ما كان مطلوبًا منه علميًا، ولكن العلماء قرروا مد عُمر المهمة مرتين خلال الأعوام القليلة الماضية للحصول على المزيد من الصور والمعلومات بدقة غير مسبوقة على ارتفاع 5 إلى 35 كيلومتر، للاقتراب من السطح بشكل أكبر.
يوم الثلاثاء الماضي، التقط ماسنجر آخر صور له، وجمع ما أمكنه من معلومات عن المجال المغنطيسي الغريب لسطح عطارد والفوهات المليئة بالثلوج على القطبين، قبل أن ينفد وقوده ويضطر للاستسلام لقوة جاذبية عطارد ليتحطّم على سطحه، وهي حادثة لم ينجح أحد على سطح الأرض من التقاط صورٍ لها نظرًا لوقوعها على النصف غير المواجه لنا من الكوكب لحظة وقوعها.
إحدى أبرز نجاحات ماسنجر كانت في اكتشاف وجود مياه مجمدة تحت السطح في القطبين الشمالي والجنوبي للكوكب، وهي مياه مُغطاة بطبقة رفيعة داكنة كما تشير دراسات ماسنجر، مما يعزز موقف النظرية القائلة بأن المركبات الكيميائية العضوية، بالإضافة إلى المياه، أتت إلى سطح عطارد والكواكب الداخلية (الزهرة والأرض والمريخ) عن طريق الجزء الخارجي من المجموعة الشمسي والذي يضم الكواكب الأكبر.
“لقد أتت تلك المياه إلى قطبي عطارد في الأغلب عن طريق ارتطام المذنّبات والكويكبات المحملة بالمواد العضوية بسطح الكواكب الداخلية، والتي جلبت كما نعتقد أيضًا تلك الطبقة الداكنة،” هذا ما يقوله شين سولومون، المُشرف الرئيسي على مهمة ماسنجر، ومدير مرصد لامونت-دوهيرتي التابع لجامعة كولومبيا في نيويورك، وهي نظريات قوية تدفع العلماء إلى الاهتمام بشكل أكبر بالكويكبات والمذنّبات، إذ يرى البعض أنها مصدر الحياة على الأرض بجلبها للمواد العضوية لكوكبنا، وهو ما ستدرسه مهمة رشيد الفضائية التي احتفى بها العالم بعد وصولها منذ أشهر لسطح المذنّب 67P تشوريوموف جيراسيمنكو.
بعد نهاية ماسنجر الأليمة، ستتوجه الأنظار إلى مهمة بپي كولومبو BepiColumbo، وهي مهمة فضائية تشترك فيها وكالة الفضاء الأوروبية مع نظيرتها اليابانية، والتي ستنطلق إلى عطارد في 2017 وفق الخطط الحالية، لتبدأ الدوران حول الكوكب في 2024، وتدور لعام أو عامين على الأكثر، لتجلب المزيد من المعلومات عما تغيّر خلال عقد على سطح الكوكب الصغير، بعد أن كشف لنا ماسنجر عن تاريخ الكوكب الجيولوجي، ومجاله المغنطيسي، والثلوج على قطبيه، وهي معلومات ستساعد بالطبع في فهم تاريخ المجموعة الشمسية، وربما تفك بغض الألغاز عن تاريخ كوكبنا الصخري أيضًا، والذي تشكل مع عطارد في نفس الوقت.