ترجمة وتحرير نون بوست
“لا أحد يمكنه أن يحدد سعر النفط”، قال وزير النفط السعودي علي النعيمي في وقت سابق من هذا الأسبوع، وتابع “الأمر متروك لله فقط”.
هذا التعليق مثير للاهتمام، نظرًا للإصرار السعودي على الاستمرار بضخ كميات عالية من النفط في السوق العالمية منذ العام الماضي، محافظة بذلك على إستراتيجيتها الهادفة لإتخام السوق العالمية، ولعب دور رئيسي في التخفيض الدراماتيكي لأسعار النفط.
على الرغم من أن السعوديين رفعوا مؤخرًا أسعار البيع الرسمية للنفط بالتوافق مع زيادة الطلب، بيد أن تصريح النعيمي يوضح ألاّ وجود لخطط سعودية هادفة لخفض الإنتاج.
بلا أدنى شك، إن إتخام سوق النفط العالمي ليست ناتجًا مجردًا عن ديناميكيات سوق العرض والطلب، وإنما هو نتيجة مقصودة لتطور إستراتيجية أمريكية – سعودية لاستخدام النفط كسلاح.
وهذا لا يعني أن الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية قد اتفقتا أو حاكتا أو نسقتا لهذه الإستراتيجية معًا، بل إن التقارب غير المستقر للمصالح المتبادلة أدى إلى تحقيق تعاون إستراتيجي في هذا المنحى بين البلدين الحليفين، ويمكن القول إن الأهداف الإستراتيجية لهذا التعاون تشمل محاربة المنافسين الجيوسياسيين الرئيسيين، ونشطاء تغيير المناخ، ودعاة الطاقة المتجددة.
الهيمنة على الاقتصاد العالمي من خلال النفط
فكرة استخدام النفط للهيمنة على الاقتصاد العالمي ليست جديدة، ولكن بالنسبة لإدارة أوباما توضحت هذه الفكرة وتم رسم معالمها مع ازدهار صناعة الغاز الصخري في الولايات المتحدة؛ ففي صيف عام 2013، شرح مستشار الأمن القومي لأوباما حينها توم دونيلون لصحيفة فورين أفيرز، أن الزيادة في إنتاج الولايات المتحدة المحلي للطاقة سيسمح لواشنطن بالمشاركة في الشؤون الدولية من موقع القوة.
ومن الأمثلة الأساسية على هذه السياسة والتي كشفها دونيلون في حديثه، هي الإستراتيجية التي انتهجتها الولايات المتحدة للضغط على إيران بخصوص برنامج أسلحتها النووية – وهو البرنامج الذي تصر أجهزة الاستخبارات باستمرار ألّا وجود له حتى الآن -، حيث اشتملت الجهود الأمريكية على مساعٍ دبلوماسية حثيثة لإقناع الدول المعنية لإنهاء اعتمادهم على النفط الإيراني أو الحد منه بشكل كبير، مع التأكيد للموردين على أهمية الحفاظ على استقرار سوق النفط العالمية واستقرار المؤن النفطية، وهنا عملت العقوبات على تخفيض قدرة إيران على تصدير النفط إلى الأسواق العالمية، مع ضمان أن الزيادة الكبيرة في إنتاج النفط القادم من الولايات المتحدة وأماكن أخرى، سيخفض من عبء تقلب الأسعار على بقية العالم، واليوم يتم استخدام ذات النهج في سورية، كما تم استخدامه في ليبيا سابقًا في عام 2011.
الحرب الاقتصادية
بدأ الحافز لاستعمال هذه الإستراتيجية يدور في أروقة السياسة الخارجية للولايات المتحدة منذ أربع سنوات، تحت تأثير لوبيات “جماعات ضغط” المحافظين الجدد القوية.
مارك دوبويتز، المدير التنفيذي لمؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات (FDD) التابعة للمحافظين الجدد، والذي قضى فترة طويلة كمستشار لإدارة أوباما وللكونجرس ومجلس الشيوخ الأمريكي حول سياسة عقوبات إيران، أصدر من خلال مؤسسته في عام 2011، تقريرًا تم تبنيه مباشرة ضمن سياسة عقوبات أوباما، ودعا التقرير صراحة إلى عمل الحكومة الأمريكية مع منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) لزيادة العرض وبالتالي الحفاظ على انخفاض أسعار النفط.
التقرير الذي شارك في تأليفه متخصص وكالة الاستخبارات الأمريكية المركزية السابق في الشؤون الإيرانية رويل مارك جيريشت، دعا إلى انتهاج سياسات تهدف إلى تقليل عدد المشترين المحتملين للنفط الإيراني، بدون تخفيض كمية النفط في السوق، ووفقًا للاقتراح يجب على إدارة أوباما ضمان أن عرض وأسعار منتجات النفط الخام القادمة من الموردين – غير الإيرانيين – ستكون كافية للسماح لمشتري الطاقة للحد بشكل كبير من اعتمادهم على الخام الإيراني.
واختتم دوبويتز وجيريشت تقريرهما بأن “زيادة إنتاج المملكة العربية السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة من النفط، يمكن أن يساعد على تعويض الزيادات في الأسعار التي قد تنجم عن استبعاد النفط الإيراني”، وشددا على أن السعودية بحاجة للعب دور محوري ضمن هذه الإستراتيجية، وكشف التقرير أن صناع السياسة الأمريكيين أُحبطوا إزاء عدم رغبة السعودية بزيادة العرض لتعويض ارتفاع أسعار النفط، وأكد التقرير أيضًا أن أوباما كان قد ضغط على السعودية لاتباع هذا النهج لفترة معينة من الزمن.
لذا، ووفقًا للتقرير “يجب على واشنطن الحصول على الدعم من منتجي أوبك الآخرين – المملكة العربية السعودية بشكل خاص – لتحقيق هذه الإستراتيجية، بما في ذلك ضرورة حصولها على تأكيدات سرية – وعلنية إن أمكن – لاستمرار هذه البلدان بزياد إنتاج النفط”.
التقارب الجيوسياسي الأمريكي – السعودي
أكد توم دونيلون في رسالته الخطية لصحيفة فورين أفيرز في عام 2013، بأن الإستراتيجية الأمريكية حول النفط كانت جارية على قدم وساق في ذاك الحين، مستهدفة إيران وليبيا وسورية.
دونيلون ذاته كان مقربًا من كبار المسؤولين السعوديين، وفي كثير من الأحيان، لعب دورًا هامًا بوصفه مبعوث أمريكي غير رسمي وقناة خلفية سرية ما بين أمريكا والسعودية خلال السنتين السابقتين، حتى إنه كان دائمًا ما يحضر إلى السعودية لتوصيل الرسائل الأمريكية الخاصة للملك السعودي المتوفى عبد الله بن عبد العزيز آل سعود.
في مارس 2014، أوصى مستشار الحكومة الأمريكية السابق بيتر فيرلاجر – وهو محلل اقتصادي رائد في مجال النفط وترأس مكتب الرئيس جيمي كارتر لسياسات الطاقة – بضرورة إفراج الولايات المتحدة عن احتياطي النفط الإستراتيجي، وضخه ضمن الأسواق العالمية، وذلك للحفاظ على انخفاض الأسعار الذي سيؤدي إلى تقويض الاقتصاد الروسي، الذي يعتمد بشكل مركزي على صادرات النفط والغاز.
“إستراتيجية قيادة النفط يجب أن تُنفّذ بالتعاون مع المملكة العربية السعودية، بحيث لا تعمد الأخيرة إلى قطع إمداداتها بغية رفع الأسعار، ويوجد حظوظ جيدة حول مضي المملكة في تنفيذ هذه الخطة”، قال فيرلاجر في حديث له لموقع كوارتز.
في ذات الشهر، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية عن إستراتيجية جديدة تهدف إلى استخدام الغاز الصخري المحلي الأمريكي كسلاح لتقويض النفوذ الروسي على أوكرانيا وأوروبا، وبحلول نهاية شهر مارس 2014، كان أوباما قد التقى مع الملك عبد الله، وتكهن مراقبون حينها فيما إذا كان قد تم التطرق لإستراتيجية مكافحة بوتين جديدة خلال هذه الزيارة.
وفقًا لمسؤول في أوبك شارك في اجتماعات مع مسؤولين سعوديين في وقت لاحق من عام 2014، سعى السعوديون لتخفيض سعر النفط العالمي لدحر منافسيهم المحتملين الذين يحتاجون لبقاء سعر النفط مرتفعًا للحفاظ على حد معين من الربح قادر على تمويل نفقاتهم الوطنية، وعلى الرغم من أن انخفاض الأسعار من شأنه أن يقلص عائدات النفط السعودية، بيد أن هذه الخطوة سمحت للسعوديين بالاحتفاظ بأكبر حصة في سوق النفط، وصرّح ذات المصدر من أوبك لصحيفة رويترز بقوله “السعوديون يرون أيضًا أن انخفاض الأسعار هو فرصة لتطبيق المزيد من الضغوط على إيران وروسيا لدعمهما لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، العدو اللدود للرياض، في الحرب الأهلية الدائرة في سورية”.
حينها كانت الولايات المتحدة تأمل أن تستطيع تفادي الأضرار الجانبية التي قد تصيب قطاع صناعة الغاز المحلي، ووفقًا للاري إليوت، المحرر الاقتصادي لصحيفة الغارديان، فإن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري كان قد توصل إلى اتفاق مع الملك عبد الله الشهر السابق، يتعهد السعوديون بموجبه أن يطرحوا النفط الخام بأسعار تقل عن السعر السائد في السوق.
في الواقع، عندما سُئل عمّا إذا تطرقت مناقشات الولايات المتحدة مع الرياض إلى حاجة روسيا إلى بقاء أسعار النفط مرتفعة لموازنة ميزانيتها، لم ينكر كيري ذلك، بل ابتسم وقال حينها “السعوديون يدركون بشكل جيد للغاية قدرتهم على التأثير على أسعار النفط العالمية”.
تدمير أوبك
إن تقويض قوة أوبك من خلال إغراق الأسواق العالمية بالنفط كان حلم المحافظين الجدد لفترة طويلة، ومن المفارقات، أن الإستراتيجية النفطية للولايات المتحدة والسعودية تلعب دورًا رئيسيًا في تحويل هذا الحلم إلى واقع وشيك.
وفقًا لأحدث الاحصائيات الصادرة عن صندوق النقد الدولي، فإن انخفاض سعر النفط سيعمل على تحويل حالة فائض الميزان التجاري المستمرة منذ فترة طويلة في الدول المصدرة للنفط في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلى حالة عجز تقدر بمبلغ 22 مليار دولار في عام 2015، مع عائدات نفطية متوقعة بمبلغ حوالي 380 مليار دولار، وهو رقم يقل بشكل كبير عن الرقم الذي كان متوقعًا قبل تراجع أسعار النفط.
بالنسبة لأعضاء أوبك من مجلس التعاون الخليجي، فإن فائض الميزانية الذي بلغ في 2014 نسبة 4.5% من الناتج المحلي الإجمالي، سيتقلص ليصبح عجزًا وسطيًا يبلغ 8.5% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2015، وبعبارة أخرى، إيران وروسيا لن تتأثرا لوحدهما من انخفاض أسعار النفط، بل معظم الدول المصدرة للنفط في المنطقة التي لا يمكنها تحقيق التوازن في ميزانياتها مع انخفاض أسعار النفط لتقترب من مبلغ 60 دولارًا للبرميل.
ولكن السعودية هي قوة أوبك الوحيدة التي لديها هذه القدرة، نظرًا لثروتها الهائلة، واحتياطي النقد الأجنبي المهول الذي تمتلكه، فإنها تستطيع مواجهة الانخفاض المستدام والمطرد في الإيرادات نتيجة لانخفاض أسعار النفط العالمية.
إستراتيجية سلاح النفط تسحق قدرة أوبك على السيطرة على أسعار النفط العالمية، وتقوم بنقل هذه القدرة والنفوذ إلى التحالف الأمريكي – السعودي، كما أنها تصفّر أرباح الدول المصدرة للنفط في المنطقة.
على المدى القصير، فإن كلًا من صناعة الغاز الصخري الأمريكي وعائدات النفط السعودية ستعانيان من انخفاض بالأسعار، ولكن على المدى الطويل، فإن تدمير أوبك سيمهد الطريق أمام الأمريكيين والسعوديين للسيطرة على سوق النفط والغاز العالمي، وهذه العملية يمكن أن تقوض جذريًا سيطرة أوبك على أسواق النفط العالمية، وستمنح الشركات الأمريكية والغربية فرصًا غير مسبوقة للانقضاض على هذه الأسواق.
الإستراتيجية النفطية الأمريكية – السعودية تعجّل أيضًا من سيناريوهات الانقسام الجيوسياسي في المنطقة، فانخفاض إيرادات الدول، سيدفعها إلى تخفيض الدعم المحلي للنفط والمواد الغذائية؛ مما سيؤدي إلى تأجيج المظالم الداخلية، التي ستذكي التحريض السياسي المحلي، منتجة بذلك اضطرابات شعبية عارمة؛ وهذا بدوره سيؤدي إلى بلقنة الشرق الأوسط على أسس عرقية وطائفية، وهذه النتيجة يتصادف أنها تتلاقى تمامًا مع السيناريوهات التي وضعها مخططو دفاع الجيش الأمريكي منذ فترة طويلة!
إطالة الموت المحتم لإمبراطورية النفط
ساعد تراجع أسعار النفط أيضًا على درء أكبر تهديد ربما على جميع الدول المصدرة للنفط، ألا وهو التحول عن الاعتماد على الوقود الأحفوري؛ فالضغوط على هذه الجبهة أطردت امن زاويتين، الأولى، من خلال تطور مصادر الطاقة المتجددة على نحو متزايد وبتكلفة تنافسية، والثانية، من خلال تزايد الدعوات لسحب الاستثمارات من صناعات الوقود الأحفوري للتصدي لمخاطر التغير المناخي التي أصبحت أكثر انتشارًا، وهاتان الزاويتان تم دعمهما من خلال وصول أسعار برميل النفط إلى 100 دولار وما فوق.
لذا أعطت مرحلة هبوط أسعار النفط متنفسًا غير متوقع لصناعة الوقود الأحفوري، كما استطاعت إعادة إحياء أسطورة أن عصر النفط الرخيص يمكن أن يستمر – بشكل أو بآخر – إلى أجل غير مسمى.
في الواقع، غطى هبوط الأسعار الحالي على ذروة ارتفاع الأسعار الحقيقية للنفط التقليدي التي حدثت في عام 2005، فمنذ ذلك الوقت استقر إنتاج النفط الخام، في حين أن إنتاج النفط والغاز غير التقليديين بدأ بالتناقص على نحو متزايد، وعلى الرغم من انخفاض سعر السوق، ارتفعت تكاليف الإنتاج إلى أرقام فلكية، وتم تخفيض كمية النفط التي يتم إنتاجها بشكل كبير.
منذ عام 2000، ارتفعت الاستثمارات في القطاع النفطي بنسبة 180%، وعلى الرغم من هذا الارتفاع الهائل بالاستثمارات، بيد أن هذه الزيادة لم تولّد زيادة مماثلة في إمدادات النفط العالمية، حيث ازدادت فقط بمقدار ضئيل يبلغ حوالي الـ14% فقط.
بناء عليه، فإن زيادة الإنتاج والعرض السعودي للحفاظ على انخفاض الأسعار لا يمكن أن يستمر لفترة طويلة، كما أنه وفي عام 2012، توقع تقرير صادر عن سيتي جروب أن تعمد السعودية إلى تخصيص المزيد والمزيد من إنتاجها النفطي لتلبية الطلب السريع والمطرد على الكهرباء محليًا؛ مما سيضطر المملكة للحد من صادراتها على نحو متزايد.
يشير التقرير أيضًا أنه بحلول عام 2030، وفي غضون 15 عامًا فقط، فإن صادرات المملكة من النفط ستنخفض إلى الصفر، مما سيجعلها مستوردًا صافيًا للطاقة، وهكذا أظهر التقرير أن قدرة المملكة العربية السعودية بالحفاظ على مستوى عالٍ من الصادرات النفطية إلى الأسواق العالمية، من المرجح أن تنتهي خلال السنوات القليلة المقبلة.
أخيرًا، إن السيطرة على النفط يدعم خطة الهيمنة الأمريكية، ولكن فناء الامبراطورية النفطية أمر لا مفر منه، والرغبة بالهيمنة على الشؤون العالمية، أنتجت إستراتيجية سلاح النفط الأمريكية – السعودية، في محاولة يائسة وأخيرة لبث الحياة في نظام الهيمنة الجيوسياسية المرتكز على الوقود الأحفوري والمحكوم عليه بالفناء.
المصدر: ميدل إيست آي