ظهور داعش على مسرح الأحداث في السنة الماضية بدا لمعظم الناس حالة متطرفة غير مفهومة، غير مفهوم لماذا يندفع هؤلاء الشباب إلى التطرف بهذا الشكل، وما الذي يجدونه في هذا المنهج وهم يعلمون أنه لا يستجدي لهم سوى عداوة العالم ومرارة العيش؟! ولكن وبالرغم من ذلك يبدو أنها حققت الحد الأدنى من أسباب وجودها، فالأعداد التي التحقت بها ليست قليلة أبدًا.
يجب أن نعلم أولاً أن ذلك النوع من الأفكار ليس نتيجة استنباطات واستنتاجات فكرية ومنهجية محضة، وإنما هو حالة نفسية واجتماعية فرضتها ظروف معينة، صاحبها نوع من التبرير والتعليل الذي غالبًا ما يكون مستندًا إلى نص شرعي أو قياس فقهي أو ربما حالة تاريخية لها حضورها، وفي معظم الحالات يوازي ذلك عملية نشوء جماعة أو حزب أو حركة تكون بعض المفاهيم التي تستطيع من خلالها القيام بعملية الحشد الشعبي، والتي هي ركيزتها الأولى ولا وجود لها إلا بها، حيث لا يتم ذلك إلا استنادًا على المرجعية الثقافية للمجتمع، وهي في الحالة العربية على سبيل المثال دينية بالدرجة الأولى.
ذلك الفكر ليس وليد اللحظة، وإنما وجد وتغير وازداد عبر عشرات السنين ليبلغ قمته ويتخذ شكله الحالي، ولكن إذا نظرنا إلى الفكر المتطرف المقابل والذي أدعي أنه لعب الدور الأساسي في عملية تشكل التطرف عند الجهاديين، فسنرى أنه أيضًا تطور وازداد بالتوازي مع ازدياد الأول ونموه، فالقاعدة تقول إنه لا تطرف إلا و له تطرف يقابله.
قد لا يرى معظم الناس ذلك التطرف المقابل لأنه لا يظهر بشكل فج واضح كما يظهر تطرف التنظيم، ولكنه واقع نعيشه كل يوم، فإذا نظرنا إلى عدد الدول الإسلامية التي غزتها أو قامت بقصفها أمريكا في العقدين الأخيرين، إضافة إلى بعض المظالم القائمة كسجن غوانتانامو وأبو غريب على سبيل المثال، ناهيك عن المستبدين الذين هيأوا الأجواء لمثل ذلك التطرف، إذا نظرنا إلى كل هذا نستطيع أن نرى ذلك التطرف المقيت بشكل واضح جليّ، ربما كلنا يعرف ذلك، ولكن الفرق أن هؤلاء الذين نهضوا بالتطرف عندنا لم يستطيعوا تقبل ذلك أبدًا واختاروا الرد بنفس الآلية، آلية القوة، وتلك هي بعض التبريرات والأدلة التي يقدمها أصحاب ذلك الفكر.
عامل آخر لعبت عليه داعش لتتخذ لها الشرعية اللازمة، وهي أنها توجت حالة التطرف تلك بإعلان الخلافة، ونستطيع أن نقول هنا إنها أدارت حالة التطرف بشكل جيد، فالخلافة هي الهدف الذي دعت وتدعو إليه كل الجماعات والحركات الإسلامية خلال المئة سنة الأخيرة، فحاولت أن تقطع الطريق عليهم جميعًا، وهم يستدلون في ذلك بأدلة شرعية متعلقة بشرعية الأسبقية بالبيعة، على سبيل المثال كما في حديث {إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما}، ولكن مؤكد أن الكثيرين سيتداعون لإنكار ذلك وادعاء أن الخلافة ليست كذلك وليس هذا وصفها، ولكن ذلك الخلاف لا يلغي حقيقة أن عشرات الآلاف وربما أكثر قد هاجروا من أنحاء العالم لإيمانهم بتلك الخلافة، أما ما نراه من أمور يستنكرها معظم المسلمين، فما أسهل التبرير عند الإنسان، وما أقدره على أن ينتقي ما يصدق وما يكذب!
إعلان الخلافة والذي يشكل عند المسلمين هدفًا يجاهدون من أجله ويضحون بأنفسهم في سبيله، كامن في وعي الشعوب الإسلامية، وليس في مقدور أحد أن يقنعهم أن تلك الصورة التي رأوها عند إعلان الخلافة ليست صحيحة بالكلية، خصوصًا أن التصور المهيمن على عقول المسلمين عن الخلافة له مظاهر شكلتها عوامل كثيرة عبر السنوات الماضية، وقد عمل تنظيم الدولة على استغلالها بشكل جيد على الصعيد الإعلامي تحديدًا، فما قامت به داعش أنها أظهرت الهدف وأعلنته بكل وضوح بطريقة منسجمة مع الواقع الاجتماعي، في الوقت الذي تتسم فيه أهداف بقية الحركات الإسلامية بالإبهام والتشويش وإن ادعوا أن ذلك من السياسة، لأنك عندما تخاطب شعبًا ما فأنه سيفضل الخطاب الأول بكل تأكيد، فهو ليس معني بتفسير قول وتحسين الظن بكلامك.
لا ينفي ذلك بالطبع الخطأ القاتل الذي وقع فيه تنظيم الدولة وهو قتله للمسلمين السنة بالتحديد، فاستعدى بذلك قاعدة جماهيرية ضخمة وكان من الممكن أن يظفر فقط لو تجنب الحكم عليهم بالردة و قتلهم بناء عليه، و لو فعل ذلك لبدا الوضع مختلفا تمامًا، وأظن أن ذلك كان ممكنًا لولا أن لأحدهم مصلحة في أن يستعدي المسلمين على تلك الدولة الوليدة.
يقف تنظيم الدولة على مفترق طرق مهم جدًا، فهو إما أن يتوقف عن تكفير غيره من حركات ودول إسلامية، وذلك يعني تخفيف حدة التوتر إلى درجة كبيرة، وقد يتيح له ذلك لعب دور مهم في مستقبل المنطقة، أو أن يستمر في تطرفه واستعدائه للآخرين، وذلك يعني أنه سيصل إلى يوم يضطر فيه إلى حرب المسلمين السنة بالدرجة الأولى، وذلك يعني خسارته بكل تأكيد، ولكن بعد أن يلحق بنا من الأذى ما الله به عليم.