بعد نهاية الانتخابات البريطانية يظهر للساحة مدى تدهور وضع حزب العمال البريطاني، فلم يتوقع أحد خسارته المروعة في إسكتلندا على يد حزب إسكتلندا الوطني الطامح للانفصال عن المملكة المتحدة، وخاصة بعد خسارة الأخير قبل أقل من سنة في معركة الاستفتاء على استقلال إسكتلندا، أضف إلى ذلك خسارة العمال لمقاعدهم التقليدية في وسط وجنوب المملكة، ولكن كل هذه الخسائر لا يمكن مقارنتها بما حدث لحزب الليبراليين الديمقراطيين – الحليف التقليدي للعمال – الذين سُحقوا في كل مناطقهم التي حافظوا عليها لعقود، حيث لم يتمكنوا إلا من الحفاظ على 8 مقاعد فقط من أصل 62 مقعدًا حصلوا عليه في الانتخابات السابقة.
انتصار الوطنيين في إسكتلندا لم يكن صنيعة أيديهم بل لفقدان الثقة في حزب العمال لمواجهة الليبراليين والمحافظين في لندن، فما كان بالإسكتلنديين إلا التصويت للوطنيين رغبة منهم لإسماع أصواتهم للبرلمان البريطاني، فالإسكتلنديون أشبه ما يكونوا بدول غرب أوروبا مثل إسبانيا وإيطاليا التي أنهكتها السياسيات التقشفية بعد انهيار السوق العالمية في 2008، ولكن هذا التذمر غاب عن أذهان العمال فهم من وافق على خطط المحافظين التقشفية ولم يظهروا أي نية لتغييرها بعد وصولهم للحكم، فما الذي يدفع الإسكتلنديين للتصويت لهم؟
ولكن حتى لو كسب العمال كل مقاعد إسكتلندا الـ 59 لما وصلوا للحكم إذ إن خسائرهم في قلب مقاعدهم الإنجليزية أعمق بكثير مما كان يتصوره أكثر المحللين سلبية، فكما حدث في إسكتلندا لم تكن هناك ثقة عميقة في خطط العمال للحكم، كانوا مرتبكين ومتخبطين على عكس المحافظين والوطنيين الإسكتلنديين اللذين أظهروا ثقة عميقة في خططهم وسياساتهم؛ فكانت الخسائر متتالية وما تم الحفاظ عليه كان على حساب الليبراليين الذين يصفهم البريطانيون حاليًا بأنهم “باعوا أرواحهم” للمحافظين بعد انتخابات 2010، إذ وافقوا على إقامة تحالف للحكم مع المحافظين بدلًا من العمال على غير عادتهم، وبعدها غيروا كل سياسات حزبهم ليتناسب مع قرارات المحافظين وخاصة في ملفات الرعاية الاجتماعية والتعليم.
فماذا يعني كل هذا؟
العمال خاضوا معركة تقليدية منادين بالعدالة الاجتماعية وتخفيف التقشف والحفاظ على الخدمة الصحية ولم ينظروا إلى الصورة الكبرى من حولهم، أما المحافظون والوطنيون القوميون فكانوا يخوضون معركة من سيقود البلاد بقوة وبرزانة بدون تعليق كل شيء على التفاصيل كما فعل العمال.
أضف إلى ذلك الرعب الذي عاشه المحافظون التقليديون في الجنوب على يد حزب استقلال بريطانيا – الحصان الجديد في الساحة السياسية – والذي يعتبر حزبًا محافظًا متشددًا، إذ يعارض الهجرة والانتماء البريطاني لأوروبا، مما يغري المحافظين القدماء، هذا الرعب دفع العديد للتصويت للمحافظين خشية من ارتفاع أصوات الاستقلاليين مما سيضعفهم أمام العمال والليبراليين.
لم يتمكن العمال من استغلال هذا الرعب لصالحهم، بل لم يهتموا بالاستقلاليين أصلًا، فطبيعة العمال الحالية تملي عليهم محاربة الجميع وعدم التحدث مع أحد أيًا كانت ميوله السياسية، فتعاليهم يوهمهم بأنهم هم فقط من سيحطم المحافظين، وربما هذا ما دفع الليبراليين إلى حضن المحافظين بعد 2010، ودفع الإسكتلنديين إلى التصويت للوطنيين رغم معارضة نصفهم لأطماع الحزب الاستقلالية.
معضلة العمال الحقيقية هي أنهم فقدوا هويتهم وابتعدوا عن جذورهم، ليصبحوا حزبًا في الوسط بلا أي ميول واضحة بدلًا من أن يكونوا حزبًا قويًا للطبقة العاملة من المجتمع كما كانت مبادئه التأسيسية تنص عليه، فلقد ولد حزب العمال سنة 1900 في زمن القبعات وعربات الأحصنة ليمثل الفقراء ويتحدث بصوتهم أمام جشع الأثرياء من ملاك الأراضي والشركات، ما أكسبه ثقة الناخبين وجعله بعد عقدين فقط من تأسيسه ثاني أكبر حزب في البلاد، ولكن مع الوقت تحول الحزب من اليسار إلى الوسط بشكل متذبذب ومن داعمٍ للعمال والفقراء إلى داعمٍ للشركات الكبرى ورجال الأعمال.
وصل الحزب إلى أسوأ مراحله بعد خسارته المزرية في انتخابات 1992 – والتي يمكن مقارنتها بالهزيمة الحالية وخاصة أنها أيضًا كانت على يد المحافظين – ليظهر توجه جديد في الحزب ليحاول إعادة بناء نفسه على يد قيادة جديدة، الأمر الذي جلب ثماره في 1997 بقيادة توني بلير واكتساح العمال التاريخي للانتخابات بـ 418 مقعدًا، ولكن كعادته تدهور حزب العمال بشكل ميكيافيلي وغامر في حرب العراق وأفغانستان وصرف الأموال بجنون وأدخل البلاد في مستنقع من الديون المتراكمة، الأمر الذي أضعفها بشكل كبير فلم تحتمل انهيار السوق العالمية في 2008 الأمر الذي أجهز على حكم العمال.
على عكسهم، يقف المحافظون راسخين على مبادئهم التأسيسية العامة، فالحزب يقوم منذ تأسيسه بالمحافظة على التقاليد العامة للبلاد لتأمين سلامة المجتمع البريطاني، فهو ضد المغامرات والقرارات المتسرعة التي قد تضعف البلاد في المستقبل، وعليه فهو يؤمن بالتطوير المتأني، إضافة إلى حزمه ورزانته في اتخاذ القرارات الصعبة للحفاظ على مصالح ومكتسبات البلاد، المحافظون يؤمنون أيضًا باستقلالية التاج البريطاني ومجلس اللوردات والكنيسة مع دفاعهم عن كبار رجال الأعمال والشركات والملكية الخاصة والحفاظ على وحدة البلاد وحماية السوق التجارية، هذه المبادئ الراسخة للحزب تجعله الأفضل للقيادة في الأوقات الحرجة وغير المستقرة وتدفع الكثير من المصوتين التقليديين الليبراليين أو العمال أكثر ميولًا إليهم رغبة منهم على الاستمرارية والاستقرار الاقتصادي.
الوضع الحالي لحزب العمال يجعله في موقف وجودي خطير، فلا يمكنه البقاء كحزب وسطي مثل الليبراليين وفي نفس الوقت لا يمتلك قواعد راسخة يمكنه البناء عليها كما المحافظين، الحل الوحيد هو التوجه يسارًا والتحالف مع الوطنيين الإسكتلنديين وغيرهم من القوميين، وتحريك سياسة الحزب كلها إلى حزب تنموي قومي مناهض للتقشف ولكن ذو نظرة مستقبلية راسخة أعمق من نظرة المحافظين، هذا التحول شبه مستحيل حاليًا في ظل القيادة الجديدة التي لا تمتلك مهنية البليريين الذين تم سحقهم وإخراجهم من قيادة الحزب بعد مغامرات توني بلير، إضافة إلى أزمة القيادة الحالية، يعيش الحزب أزمة هوية حقيقية في ظل غياب فلاسفة سياسيين يمكنهم توجيهه نحو تغيير حقيقي واضح.
إن كان حزب العمال البريطاني جادًا في طموحه لحكم بريطانيا مرة أخرى فعليه الحصول على غالبية مقاعد شمال ووسط البلاد بالإضافة إلى مقاعد إسكتلندا وويلز، وعليه أيضًا أن يُنشئ تحالفات طويلة الأمد مع الليبراليين والوطنيين والقوميين لتكوين كتلة حزبية واحدة ضد المحافظين، وكما أعاد العمال بناء أنفسهم بعد هزيمة 1992 يمكنهم تحويل الهزيمة الحالية لنصر مستقبلي باهر ولكن هذا أشبه ما يكون بالخيال العلمي في ظل الوضع الداخلي للحزب.