“لطالما استُخدِمت كلمة “التاريخي(ة)” بشكل مبالغ فيه لوصف مختلف الأحداث السياسية، بيد أن ما شهدناه على مدار الأيام القليلة الماضية يستحق هذا الوصف بالفعل، وبغض النظر عن مستقبل السياسة الإسكتلندية والبريطانية، فإن الساعات الأولى ليوم الجمعة الماضية هي لحظة سنظل نقف أمامها طويلًا ولعقود.. نتائج الانتخابات في إسكتلندا تحديدًا كانت أكثر من تاريخية، إذ أنها تدشن عهدًا جديدًا بحجم التحول الذي أحدثه حزب إسكتلندا الوطني؛ حيث كان النجاح الذي حققه بإزاحة حزبي العُمال والليبراليين الديمقراطيين عن مقاعدهما الواحد تلو الآخر ببساطة نجاحًا مذهلًا.”
بهذه الكلمات، أرسلت رئيسة حزب إسكتلندا الوطني، والوزيرة الأولى الآن لإسكتلندا، نيكولا سترجون، أولى الإشارات القوية للحكومة المحافظة الجديدة في وِستمينيستر، بمقال كتبته في الجارديان بالأمس وعنوانه “نحن، الشعب الإسكتلندي، لا يمكن تجاهلنا بعد الآن”، وهي إشارات كاشفة عن النهج الذي ستنتهجه رئيسة الحزب الوحيد الذي خرج منتصرًا مع ديفيد كاميرون، والذي اعتقد الكثيرون أنه تلقى ضربة قاضية بفشله في استفتاء الاستقلال العام الماضي.
إسكتلندا وإنجلترا: عقد زواج جديد
قد تُربِك النتائج الإسكتلندية الكثيرين للوهلة الأولى، فإن كان حزب إسكتلندا الوطني هو الحزب المفضل للأغلبية في الشمال، فلماذا رفضوا الاستقلال إذن؟ ولماذا أبقوا على وجود إسكتلندا في الاتحاد البريطاني الذي يبدو الآن منقسمًا، بين شمال ليبرالي وجنوب محافظ، أكثر من أي وقت على مدار القرون الثلاثة التي ظل كائنًا فيها؟
لقد كانت نيكولا، وهي رئيسة الحزب القومي المعروف دومًأ برغبته في الاستقلال بإسكتلندا عن بريطانيا، حريصة في مقالها على التمسّك بتلك النتيجة، حيث قالت أن التفويض الذي مُنحَت إياه بذلك الانتصار الكبير لا يعني أبدًا إعادة الاستفتاء في المستقبل القريب، وهو أمر عبثي بالطبع أن يقرر الحزب إعادة خيار الاستفتاء إلى الساحة بعد تلك الفترة القصيرة، بل وسيكون في الحقيقة بمثابة استخفاف بإرادة الناخب الإسكتلندي الذي انتخب سترجون منذ أيام.
نيكولا سترجون مع رئيس الوزراء ديفيد كاميرون
ماذا تنوي سترجون أن تفعل إذن؟ كما يشي مقالها، ينتوي حزبها أن يدفع نحو سياسة بريطانية أكثر توافقية، لا تسير بالأغلبية المطلقة، والتي تدفع بالكفة تلقائيًا لصالح الإنجليز الأكثر عددًا على حساب الإسكتلنديين البالغ تعدادهم خمسة ملايين فقط، بل تسير بالأخذ في الاعتبار أن الاتحاد ليس “أمة واحدة” كما يقول ديفيد كاميرون، ولكن أربعة بلدان مشتركة يجب أن تتساوى حصتها في قيادة بريطانيا، وهي إنجلترا وإسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية، وإسكتلندا بطبيعة الحال هي اللاعب الأساسي نظرًا لحجمها الكبير نسبيًا مقارنة بالبلدين الصغيرَين، ونظرًا للخلافات السياسية الواضحة التي تفصل بين الشمال والجنوب.
يدرك الكثيرون، بما فيهم سترجون وكاميرون، أن استفتاء إسكتلندا، وأزمة الشرعية في الشمال بشكل عام، هي جغرافية وأيديولوجية أكثر منها قومية، وهو ربما السبب الرئيسي في رفض الإسكتلنديين للاستقلال الوطني كحل لمشاكلهم، وسبب أيضًا في عدم جدوى اللعب على وتيرة القومية الإسكتلندية والتي لا تلجأ لها كثيرًا سترجون، على عكس خطابها المعادي للمحافظين وسياساتهم المتعجرفة في الجنوب.
لا يدلل على ذلك أكثر من شعبية حزب إسكتلندا الوطني النسبية في شمال إنجلترا، والتي تتسم بمزاج سياسي أقرب لإسكتلندا من جنوب إنجلترا، وهو ما يعني في الحقيقة أن الحزب في بريطانيا الموحّدة سيتسنّى له لعب دور أكبر مما يمكن أن يلعبه بقيادة بلد صغير منفصل على شاكلة دول إسكندنافيا، فبالنظر للدعاوى المتزايدة لسحب السلطات من لندن إلى المدن والولايات في الشمال، يبدو وأن عقد الزواج الجديد، إن جاز القول، المتوقع التوصّل له بين لندن وأدنبره، لن يقتصر فقط على إسكتلندا، بل سيكون بمثابة قطعة الدومينو التي ستقع معها المنظومة المركزية الإنجليزية تدريجيًا، تاركة اتحاد فضفاض أكثر، وربما فيدرالي كما يطمح البعض.
أي دور لأدنبره بين لندن وبروكسل؟
في هذا السياق، وبالنظر لدعم الإسكتلنديين لعضوية بريطانيا للاتحاد الأوروبي وتخوّفهم من تصويت أغلب الإنجليز على الخروج منه عام 2017، وهو الاستفتاء المنتظر طبقًا لوعود ديفيد كاميرون الواضحة أثناء الحملة الانتخابية لحزبه، تسعى سترجون لأن يكون خروج بريطانيا مرهونًا، ليس بأغلبية مطلقة من سكان بريطانيا، ولكن بأغلبية مزدوجة في كل من البلدان الأربعة، أي موافقة 51٪ من إسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية قبل انسحاب بريطانيا، وهو مطلب يتفق كما ذكرنا مع رؤيتها لبريطانيا كاتحاد متعدد البلدان.
مطلب كهذا بالطبع سيخلق الكثير من التوتر بين لندن وأدنبره، إذ تبدو الأجواء في لندن أقرب للخروج على عكس الشمال، وهو مأزق لا حل له بالنظر لوجود البلدين في إطار دولة واحدة، ولكن إذا ما سارت الأمور كما هو مخطط لها، وصوّت الإنجليز لصالح الخروج بالفعل، فإن لندن لن تستطيع بطبيعة الحال قطع الروابط السياسية والاقتصادية المتشابكة مع بلدان أوروبا في ليلة وضحاها، وستحتاج إلى خلق علاقة جديدة للحفاظ على مصالحها، إما على شاكلة النرويج، وهي غير عضوة بالاتحاد ولكنها جزء من المنطقة الحرة الأوروبية، أو ربما باتفاق جديد من نوع خاص.
في هذا الإطار، سيكون لأدنبره بالطبع دور كبير في صياغة ذلك الاتفاق الجديد بين لندن وبروكسل، خاصة وأن لندن حينئذ ستكون على دراية بأن خروجها بأصوات أغلبية إنجليزية على حساب رغبة إسكتلندية في البقاء يعني أنه يجب أن يتم تعوض الإسكتلنديين بضمان بقاء علاقة خاصة مع أوروبا تسمح لأدنبره بالاستمرار في التمتع بمزايا التعاون السياسي والاقتصادي مع أوروبا، ومرة أخرى، سيكون قدر اللامركزية، أو الفيدرالية، التي سيتيحها العقد الجديد بين إنجلترا وإسكتلندا، هو المحدد الرئيسي للدور الذي يمكن لأدنبره أن تلعبه في هذا الصدد.
من ناحية أخرى، ستكون السياسات الفيدرالية لإسكتلندا مفيدة لبلد مثل أيرلندا الشمالية مرتبط بشكل كبير بجمهورية أيرلندا ثقافيًا ولغويًا، وهو ارتباط سيتمكن من تعزيزه إذا ما حصل على المزيد من السلطات من لندن، بل وسيتيح للندن أن تنسج علاقة أكثر قوة مع جارها الأيرلندي، وهي علاقات لا مفر منها للطرفين، كما ستعزز من علاقة لندن بأوروبا، بغض النظر عن عضويتها في الاتحاد من عدمها، نظرًا لوجود جمهورية أيرلندا في الاتحاد الأوروبي، وجدير بالذكر أن أيرلندا كبلد سيتتضرر كثيرًا بالطبع إذا ما خرجت بريطانيا من الاتحاد بشكل شامل.
***
في المُجمَل، يدرك ديفيد كاميرون أنه سيحتاج إلى لعب دور سياسي مكثّف في مرحلة حرجة من تاريخ بريطانيا، ستخرج منها إما موحدة ولكن بشكل أكثر تعددية ولامركزية، وبعلاقات من نوع مختلف مع أوروبا، سواء بقيت العضوية أم لا، وإما سيكون هو رئيس الوزراء الذي أنهى الاتحاد البريطاني وعضويته في أوروبا، ليجعل من إنجلترا بلدًا أصغر وأقل نفوذًا في العالم، وهو مآل لا يريده كاميرون بالتأكيد، وهو ما ستسعى سترجون من ناحيتها إلى استغلاله لتحقيق أكبر قدر من الحكم الذاتي، مما يعني صعود لدور إسكتلندا على الساحة بشكل غير مسبوق ربما منذ أصبحت جزءًا من بريطانيا.