ترجمة وتحرير نون بوست
غالبًا ما يُنظر إلى القضاء المستقل على أنه مرفق لا غنى عنه لسير الديمقراطية السليم، لذلك قد يستغرب المراقب العادي للوضع المصري من التناقض الذي يكمن في أن السلطة القضائية المصرية التي تبدو وكأنها تنفذ تعليمات الرئيس القمعي عبد الفتاح السيسي – قمع المعارضة، وسجن الآلاف، والحكم على مئات الإسلاميين بالاعدام – تعمل ضمن ساحة من الاستقلالية، فهذه البيروقراطية العملاقة تعمل لمصلحتها ومصالح أعضائها الذاتية فقط.
منذ الإطاحة بالرئيس الإسلامي محمد مرسي في يوليو 2013، تم اعتقال أكثر من 40.000 شخص، واختنقت السجون المصرية وضاقت بالسجناء، وأصبحت المحاكمات الجماعية القاعدة العامة ضمن البلاد، وفي يونيو من العام الماضي، قام القاضي المصري الأكثر إصدارًا لأحكام الاعدام محمد ناجي شحاتة، بإصدار قرار بحبس ثلاثة صحفيين من قناة الجزيرة بتهم نعتها المراقبون بأنها معيبة للغاية، ومؤخرًا أصدر شحاتة مئات أحكام الإعدام بمواجهة أنصار جماعة الإخوان المسلمين المحظورة، وهي الحركة التي كانت خلف تسلّم مرسي سابقًا لمقاليد الحكم.
ولكن بعض الخبراء القانونيين يحذرون من تفسير هذه القرارات على أنها نتاج ناجم عن ممارسة ضغوطات من قمة الهرم المصري، فهم يرون أن قرارات القضاء المصري نابعة من مصالحه الخاصة، وتتماشى مع الثقافة الشعبية التي تولي الأولوية للاستقرار والأمن، كما يشير بعض المحللين السياسيين أنه في بعض الحالات، تكون قرارات وإجراءات المحاكم متناقضة مع مصالح النظام.
“لا يبدو أن أحكام الحبس تكلف السلطات أي ثمن على الصعيد الداخلي، فالعاصمة السياسية للبلاد تبدو غير متأثرة على الإطلاق”، قال إتش إي هيلير، وهو زميل غير مقيم في مركز بروكينجز لسياسات الشرق الأوسط، وتابع بقوله “ولكن على الصعيد الدولي، الأمر مختلف تمامًا، فوسائل الإعلام الدولية، ومنظمات حقوق الإنسان، تُشهّر بالعقوبات القاسية التي يفرضها القضاء المصري، مما يقوض صورة مصر في الساحات الدولية، وهذا الوضع لن يتوقف ضمن المدى المنظور”.
“التعيين والاستقلال” هي الطريقة التي تصف فيها سحر عزيز، أستاذة القانون المشاركة في جامعة تكساس، العلاقة بين القضاء والرئاسة المصرية في بحثها الجديد، وتشير عزيز أنه على مدى العقود الماضية، كان القضاء صديقًا وعدوًا لرؤساء مصر على حد سواء، فمثلًا وزارة الداخلية التي تسيطر على قطاع الشرطة والأمن الداخلي، هي بيروقراطية عملاقة في مصر، وتدين بحجمها وقوتها وسيطرتها إلى حقبة بناء الدولة على الطراز الاشتراكي في ظل حكم جمال عبد الناصر، وبذات الطريقة، المرفق القضائي المصري ينتهج سياسات شكلية بالية، ويعتمد على مبدأ الاستيلاء على السلطة من خلال التوارث والتعاقب على الحكم.
وكان رد فعل هذا المرفق عنيفًا عندما تم تحدي سلطته، حيث قضى مرسي شهوره الأخيرة في السلطة وهو على خلاف حاد مع السلطة القضائية المصرية، عقب وقوفهم بوجه محاولته لدفع الآلاف من قضاة عهد مبارك إلى التقاعد، عن طريق تخفيض الحد الأقصى لسن القضاة.
الكثير من القضاة هم رجال شرطة سابقون
تقول عزيز “هددت ثورة يناير عام 2011 بإخضاع نظام المحسوبيات والوساطات والرشاوى ضمن المرفق القضائي للتدقيق، وفي السنوات التي تلت اندلاع الثورة، ألقت المؤسسة القضائية بكامل ثقلها وسلطتها ضمن القوى التي من شأنها أن تساعد على الحفاظ على هذه الممارسات، وفي الوقت الراهن، تمثلت هذه القوى بنظام السيسي”.
في مارس، أكد قاضٍ في مدينة الزقازيق التابعة لدلتا النيل الحادثة التي انتشرت كالنار في الهشيم، والتي تتمثل بقيامه قبل تبرئة ثمانية من كبار مسؤولي الشرطة المتهمين بقتل المتظاهرين، بتوجيه كلمة حميمية للمتهمين بقوله “عليكم أن تعرفوا أنكم لستم متهمين، لقد كنتم أبطالًا”.
عقلية السلطة القضائية يتم بالغالب تحديدها ورسم إطارها من خلال مجموعة من العوامل الهيكلية، تتعلق بشخصية القضاة، والمكان الذي يجرون فيه جلسات المحاكمة، فضلًا عن خلفيتهم الوظيفية السابقة، ففي كثير من الأحيان يتم تعيين القضاة من رجال الشرطة السابقين.
ويقول بعض المحامين إن أمن الدولة كانت يجري تحرياته عن أسر القضاة، قبل أن يتم تعيينهم لأول مرة في وظائفهم، كما يشير محامو الدفاع أن هذا التحيز غالبًا ما يجعل من الصعب مناقشة القضايا أمام قضاة مصر.
المحاكمات تعقد في الزنزانات ومراكز الشرطة
“الشخص الذي خدم الدولة لفترة طويلة، لا يمكن فجأة أن يغير موقعه، ويتحرك لخدمة العدالة”، يقول المحامي أحمد رمضان، ويتابع “القضاة يحكمون من وجهة نظر الدولة وعقلية الضباط”.
بالنسبة للكثير من القضاة الذين كانوا مسؤولين أمنيين سابقين، فإن المحاكمات تجري الآن على أرضهم ووسط جمهورهم، ففي خضم الكفاح الذي يعيشه النظام القضائي المصري للتعامل مع الحجم الهائل من السجناء الذين يتم محاكمتهم يوميًا، كثيرًا ما تعقد جلسات القضايا الحساسة داخل السجون المترامية الأطراف، أو حتى مراكز الشرطة، ويعلّق رمضان على هذا الموضوع بقوله “لا يمكنك رفع قضية ضد جارك، ليتم بعدها إجراء المحاكمة في بيته”.
تشير بعض الأدلة أن مكتب السيسي مارس في بعض الأحيان ضغوطات على المرفق القضائي، ففي ديسمبر الماضي، انتشر تسجيل مسرب يتضمن حديثًا ما بين عباس كامل، مدير مكتب السيسي، وممدوح شاهين، أحد جنرالات الجيش والمستشار القانوني للجيش، ويظهر التسجيل نقاش كامل وشاهين حول قضية أثارت حينها الكثير من الجدل، حين يقول شاهين مُطمئنًا كامل “أنا سأتكلم مع القاضي، لا تقلق”.
ولكن في كثير من الأحيان – كما يقول الخبراء – هذا الضغط لا لزوم له،”إن القانون ذاته ينطوي في كثير من الأحيان على نصوص سلطوية، كما أنه يترك سلطة تقديرية هائلة في المسائل الأمنية للمسؤولين الأمنيين والمدعي العام”، يقول ناثان براون، أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن، وأضاف قائلًا “التلاعب بالنظام القضائي يمكن أن يتم بوسائل أكثر مكرًا ودهاءً، مثل اختيار القاضي الذي سينظر بالدعوى، والطريقة التي سيتم فيها التعامل مع الأدلة”.
المرفق القضائي عبارة عن أسرة كبيرة
وفقًا للنظام القانوني المصري يلعب القضاة دورًا متكاملًا ضمن الدعوى القضائية، فالقاضي يضطلع بالدور التحقيقي، كما يشرف على جمع الأدلة ويختار ما يوافقه منها، فضلًا عن أنه مسؤول عن استجواب المتهم ضمن جلسات المحكمة مباشرة.
“كنا نعتقد أن النظام القضائي سيتغير برمته إبان الثورة، ولكن لا يمكنك تغيير هذا النظام من الداخل”، تقول هيام الجنايني وهي محامية تعمل ضمن حملة لزيادة تمثيل المرأة في مهنة المحاماة، وتضيف قائلة “المرفق القضائي عبارة عن أسرة، فمن يستطيع تغيير المرفق من الداخل؟”.
ولكن على الرغم مما تقدم، لايزال هناك ومضات من الأمل أمام آلاف السجناء الذين يخضعون للنظام القضائي المصري، فوفقًا لبراون، نظام الطعون المصري طويل ومعقد، وهذا النظام يوفر العديد من الفرص لتخفيض الأحكام أو حتى لنقضها وإلغائها نهائيًا، “خلال مسيرة المتهمين ضمن النظام القضائي المصري، ستتاح الفرصة أمامهم للمثول أمام قضاة أكثر مهنية وأرفع مستوى، ليصدروا الأحكام بمواجهتهم”، يقول براون.
ولكن حتى الوصول إلى هذه النقطة – إذا تم الوصول إليها أساسًا – يقول محامو الدفاع أن أفضل وسيلة للدفاع لا تتمثل بالدراسة الحريصة للأدلة القضائية، فوفقًا لرمضان “المحامي الجيد هو من يتقن القانون، ولكن المحامي الأفضل هو الذي يعرف القاضي”.
المصدر: كريستيان ساينس مونيتور