تحتل الانتخابات البرلمانية في تركيا مكانة هامة في السياسية الداخلية؛ لكون النظام المعمول به في الجمهورية التركية نظامًا برلمانيًا، حيث توكل مهمة تشكيل الحكومة – والتي تعتبر الجهاز التنفيذي للدولة – للحزب الحاصل على أعلى نسبة مقاعد.
وإن كانت الانتخابات البرلمانية ذات شأن مهم في تحديد شكل الحكومة راسمة آفاقها ومحددة طبيعة سياساتها، إلا أن الانتخابات المزمع عقدها في السابع من يونيو القادم لها طابع خاص لاجتماع جملة من الأسباب التي تجعلها مختلفة عن غيرها من الانتخابات البرلمانية.
أولًا: المساجلات الداخلية وقضايا الفساد
تأتي هذه الانتخابات بعد أحداث عديدة شهدتها الساحة التركية، كان لها أثر كبير على السياسية الداخلية التركية، وأحدثت مساجلات حادة بين الأحزاب السياسية المختلفة، وكان لها تداعيات ملحوظة على الشارع التركي الذي لم يكن بعيدًا عن وقع هذه الأحداث.
وتعتبر مظاهرات غزي بارك في مايو – يونيه عام 2013، نقطة مهمة في علاقة المجتمع التركي بحزب العدالة والتنمية الحاكم، حيث إن المظاهرات العنيفة، التي انطلقت بعد رفض العديد من المتظاهرين قطع بعض الأشجار في ميدان التقسيم من قِبل الحكومة من أجل مشروع تجاري كانت تنوي الحكومة إقامته في حديقة تابعة للميدان، عمت العديد من المدن التركية ودامت لأسابيع عديدة.
وكانت ردة فعل الحكومة تجاه هذه الاحتجاجات قاسيًا بعض الشيء، حيث استخدمت الحكومة قوات كبيرة من الشرطة مهددة باستخدام الجيش في الوقت نفسه إن لزم الأمر، ورغم أن الحكومة استطاعت إخماد فتيل المظاهرات من خلال قوات الشرطة، ومن خلال تصريحاتها التي أوضحت للشعب التركي وجود أيادٍ خارجية حاولت العمل على خلخلة الوضع الداخلي، إلا أن الكثير من الأتراك، وخصوصًا من الشباب رأى في طريقة فض المظاهرات عملًا ينافي الديمقراطية وحقوق الإنسان ويعزز تسلط الدولة.
وبعد عدة أشهر من أحداث غزي بارك دوت أحداث ما يعرف بعملية 17 ديسمبر، والتي قامت بها بعض الدوائر في الدولة بدون إذن من الحكومة، باستهداف وزراء ورجال أعمال تابعين لحزب العدالة والتنمية، متهمة إياهم بقضايا فساد ورشوة، وكانت طريقة تعامل الحكومة مع الأحداث معقدًا بعض الشيء؛ حيث انتقلت من بحث هذه القضايا إلى التركيز على العملية ذاتها والتي قادت إلى اتهام الحكومة، وعلى رأسها أردوغان، تنظيم فتح الله كولن بالتخطيط لهذه العملية بهدف الانقلاب على الشرعية خدمة لدول خارجية، وكانت نتيجة هذه الأحداث أن قادت لفتح معركة حامية الوطيس مع ما أطلق عليهم اسم التنظيم الموازي داخل الدولة، استهدفت الدولة من خلال العديد من العمليات أعضاء جماعة كولن الذين يشغلون مناصب داخل أجهزة الدولة.
هذه الأحداث المتتالية وإن كانت لم تؤثر في نسبة تأييد حزب العدالة كما أظهرته الانتخابات المحلية للبلديات والانتخابات الرئاسية إلا أنها أحدثت نوعًا من الشرخ داخل المجتمع التركي، ورفعت من حالة الاستقطاب الداخلي، وأفقدت الحزب بعضًا من الزخم الذي كان يتمتع به، وبعضًا من الثقة التي نالها عن جدارة خلال أول عشر سنوات من حكمه.
هذه الأحداث والتي لربما ستؤثر سلبًا وبشكل ضئيل على النسبة التي سيحصل عليها حزب العدالة والتنمية، إلا أنها بالتأكيد ستقوض الزيادة المضطردة التي كان يحظى بها الحزب الحاكم، في كل انتخابات يخوضها جنبًا إلى جنب مع عدة عوامل أخرى قد تؤثر على خيار شرائح من المجتمع التركي، والتي ترى أهمية كبح جماح الحزب وعدم إعطائه فرصة الحكم المطلق.
ترؤس داوود أغلو حزب العدالة والتنمية
يتمتع أردوغان بمكانة رفيعة في تركيا نظرًا للكاريزما العالية التي يتمتع بها، وكذلك لكونه واجهة الحزب الذي استطاع وعلى مدار أكثر من عقد من الزمان إحداث نهضة حقيقية في تركيا، والارتقاء بها إلى مستوى الدول المتقدمة، ورغم الانتقادات التي قد يبديها الكثيرون بالنسبة لطريقة حكم أردوغان، إلا أن الرجل اختط لنفسه طريقًا ومذهبًا خاصًا به جعلته وبلا شك شخصية استثنائية في التاريخ التركي الحديث، حائزًا بذلك على إعجاب وثقة الكثيرين من المجتمع التركي.
ونظرًا لأن اللوائح الداخلية للحزب تقيد الفترات التي يسمح فيها بالترشح؛ فقد غادر أردوغان الحزب تاركًا رئاسته لأستاذ السياسة الخارجية، أحمد داوود أوغلو، والذي كان أستاذًا للعلاقات الدولية في عدة جامعات قبل أن يضحى مستشارًا لأردوغان ثم وزيرًا لخارجيته وأخيرًا رئيسًا لوزراء تركيا.
ولا يمكن مقارنة شخصية الرجلين ولا الكاريزما التي يتمتعان بها علاوة على الشعبية الجماهرية لكل منهما، إضافة لقدرة كل منهما على التأثير على خيارات الناخبين قبيل فترة الانتخابات، والتي تشهد مناقشات ولقاءات حادة بين الأحزاب المختلفة، ولذلك فإن الدور المناط بالبرفيسور داوود أغلو يبدو صعبًا للغاية، حيث يشك الكثيرون بقدرته على ملء الفراغ الذي تركه أردوغان جماهيريًا وحزبيًا، والذي قد يؤثر على أداء حزب العدالة والتنمية في الانتخابات القادمة.
دخول حزب الشعوب الديمقراطية (الكردي) الانتخابات
يعتبر قرار حزب الشعوب الديمقراطية الكردي دخول الانتخابات البرلمانية بشكل حزبي – خلافًا للانتخابات السابقة التي كان يخوضها نوابه بشكل مستقل ومن ثم يكونون كتلتهم الانتخابية تحت قبة البرلمان – قرارًا مؤثرًا على مسار الانتخابات البرلمانية وذلك لسببين؛ أولهما إيجاد خيار جديد للمواطن الكردي خصوصًا والتركي بشكل أعم – يمتلك أجندة مختلفة عن بقية الأحزاب السياسية، قد يكون قادرًا على جذب أصوات الناخبين من الأحزاب الأخرى ورفع نسبة المشاركة في هذه الانتخابات، وثانيهما أن إمكانية حزب الشعوب الديمقراطية تجاوز عتبة العشرة في المئة، قد يكون كفيلًا بخفض عدد المقاعد التي يحصل عليها حزب العدالة والتنمية في المناطق الكردية، رغم أن هناك احتمالية عكسية، فإذا لم يستطع حزب الشعوب الديمقراطية تجاوز عتبة العشرة في المئة، فإن نسبة المقاعد التي كانت ستحسب لحزب الشعوب الديمقراطية ستوزع على الأحزاب الأخرى، وخصوصًا حزب العدالة والتنمية الذي سيحصل على النسبة الأكبر منها.
هذه الأسباب وغيرها ستؤثر بمستويات وأشكال مختلفة على مجريات الانتخابات البرلمانية القادمة وسيكون لها أثر مهم في توجيه الناخب التركي، وتبقى فترة ما قبل الانتخابات مليئة بالمفاجآت التي من الممكن أن تقلب الطاولة وتحدد سير الانتخابات.