ترجمة وتحرير نون بوست
يجلس ياسين في بيته المؤلف من مقصورة صغيرة، وأمامه نموذج مصغر عن طائرة تجارية، “إنها تذكار لرحلتي”، قال ياسين بابتسامة ساخرة، ظهرت على جانب واحد فقط من فمه.
رحلة ياسين انتهت أخيرًا في اللحظة التي طلب فيها حق اللجوء في قبرص، وهذا هو السبب الذي دفعه وعائلته – زوجة وثلاث بنات وولدين – للعيش حاليًا في كوفينو، المنشأة الوحيدة التي تستقبل طالبي اللجوء في جزيرة قبرص.
“بعد عامين من الحرب، الفلسطينيون لم يعودوا يستطيعون العيش في سورية بعد الآن”، قال ياسين، وتابع موضحًا السبب الذي دفعه للإبحار على متن قارب للاجئين مع عائلته، من ساحل تركيا في سبتمبر الماضي، “كلا الجانبين يعاملانا كأعداء”.
ولكن هذا ليس السبب الوحيد الذي دفعه لطلب اللجوء، حيث أبرز ياسين سلسلة من الوثائق الطبية بعضها من سورية والبعض الآخر يحتوي على طوابع رسمية باللغة اليونانية، وتوضح هذه الوثائق إصابة ابنة ياسين، نورا، بمرض الثلاسيميا “فقر الدم”، وارتفاع نسبة الحديد بشكل كبير في دمها، “لقد أجروا اختبارات لابنتي وحصلنا على ذات النتائج التي حصلنا عليها في سورية”، أوضح ياسين، وتابع “خيارها الوحيد هو أن تجري عملية جراحية”.
يُمنح اللاجئون داخل مركز كوفينو مبلغ 40 يورو – فضلًا عن 10 يورو لكل فرد من أفراد الأسرة المعالين – شهريًا، كما يتم تقديم وجبات الطعام المعبأة لسكان المركز، رغم أن الكثيرين يشتكون من نوعية الطعام الرديئة؛ سكان المركز لهم الخيار بالخروج إلى خارجه، ولكن موقع المركز الذي يقع بين بساتين الزيتون والحقول، ويبعد حوالي 25 كيلومترًا عن أقرب مدينة، وهي لارنكا، فضلًا عن محدودية وسائل النقل والمواصلات من وإلى المركز، يجعل خيار الخروج من المنشأة غير مطروق.
أوضح تقرير صدر مؤخرًا، حول قاعدة بيانات اللجوء أن “الأشخاص المعنيين يترددون بالانتقال إلى مركز كوفينو، لأنهم يعتبرون الظروف المعيشية هناك غير مرضية، في حين أن الغالبية العظمى الذين يختارون العيش خارج المركز لا يحصلون على أي دعم من الدولة”، وينص القانون أن اللاجئين في مركز كوفينو، يستطيعون المكوث في المنشأة لمدة أقصاها ثماني سنوات.
يشير ماتيس بوليدورو، رئيس نظام اللجوء في الجزيرة، أن مركز كوفينو هو مثال ساطع على سياسة استقبال اللاجئين، ويتابع حديثه لنا من مكتبه في نيقوسيا “مركز كوفينو يناسب المعايير المتطلبة، فالمركز ممول من المفوضية الأوروبية، ويناسب المعايير التي حددها الاتحاد الأوروبي”، ويردف قائلًا “تلقى المركز مؤخرًا تمويلًا من الاتحاد الأوروبي، لتوسيع قدرته الاستيعابية لتصبح 400 شخص، وهو ما يساوي خمسة أضعاف حجمه الأصلي، وهذا النظام هو كاف لملاقاة المتطلبات”.
في أوروبا، يجب على كل دولة أن تقدم سلسلة من الحد الأدنى من المعايير المشتركة للوافدين الجدد، ولكن تقيّد مركز كوفينو بذات مستوى المعايير التي تتقيد بها البلدان التي أصبحت مقصدًا شعبيًا للاجئين، مثل السويد وألمانيا هو موضع شك ومناقشة؛ ففي البلدين الأخيرين يخضع اللاجئون لدورات لغة مدعومة من قِبل الدولة، كما يتم إخضاعهم لدورات تحضيرية للاندماج ضمن المجتمع، أما في كوفينو، فيشكتي أبو عبد، وهو أب لأربعة أطفال، أن أبناءه تم إعطاؤهم كتب متقدمة المستوى باللغة اليونانية في المدرسة الحكومية التي يذهبون إليها، حيث يقول “ابني يذهب إلى المدرسة ويشعر بأنه لا ينتمي إلى هناك، فالجميع يتحدثون اليونانية، لقد أصبح يكره المدرسة الآن”.
بالنسبة للكثير من لاجئي القوارب، اللجوء إلى مركز كوفينو كان ضرورة وليس خيارًا، في ظل غياب أي طريق آخر، فعلى الرغم من أن معظم الموجودين لم يكونوا يرغبون بالقدوم إلى قبرص، بيد أن بعض اللاجئين يشعرون هنا بأنهم أقدموا على الخيار الصحيح من خلال طلب اللجوء، فالبديل كان إما أن يبقى وضعهم مؤقتًا ضمن الجزيرة، أو اللجوء إلى المهربين في محاولة لتهريبهم إلى باقي دول أوروبا الكبرى.
عمر وهو شاب سوري فلسطيني، يبلغ من العمر 27 عامًا، فر من البلاد هربًا من احتمال سحبه للخدمة العسكرية للمرة الثانية، ووصل إلى قناعة بأن وجوده في قبرص دون تقديم لجوء هو مجرد إضاعة للوقت، حيث يقول “أنا بحاجة لأن يكون لي وضع قانوني، يمكنني أن أجد وظيفة، أو أواصل دراستي، وهنا ربما أستطيع أن أواصل مستقبلي”، وأضاف “فقط إذا استطعت أن أزور أقاربي، الموجودين حاليًا في أوروبا، فإن الأمور ستكون على ما يرام بالنسبة لي، حاليًا أعيش أيامًا سيئة هنا في قبرص، ولكنني أشعر أنه بإمكاني أن أقوم بتحقيق شيء ما لنفسي هنا”.
من ناحية أخرى، ياسين يرادوه شعور قلق بشأن قراره الذي اتخذه بتقديم اللجوء في قبرص مع كل يوم يمر، حيث يقول بقلق بالغ “في بعض الأحيان أشعر أنه ربما كان من الأفضل عدم التقدم بطلب اللجوء هنا، أريد أن أقول للحكومة القبرصية شكرًا على خدماتكم، ولكن ماذا سأفعل إذا فقدت ابنتي، لأنهم كانوا بطيئين، ولم يوفوا بوعودهم؟”.
هذه بعض من قصص ما بعد قوارب اللجوء، وعواقب هذه الهجرة غير المسبوقة على حدود أوروبا، والتي أودت بالفعل بحياة أكثر من 1700 شخص في البحر المتوسط هذا العام، تؤدي إلى تقويض سياسة الهجرة في الاتحاد الأوروبي، وإقحامها ضمن أزمة لم تكن بالحسبان.
كثيرًا ما تركز الحوارات والنقاشات حول استجابة أوروبا لأزمة منطقة البحر الأبيض المتوسط على جهود البحث والإنقاذ، ولكن مع ذلك، حذر المجلس الأوروبي الاجئين والمنفيين في نوفمبر من العام الماضي قائلًا “إن المشاهد الدرامية التي تعصف في منطقة البحر الأبيض المتوسط، إضافة إلى قائمة التحديات الطويلة للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، تقف في وجه بناء وصيانة نظم لجوء عادلة وفعالة”، هذه التحديات التي تقبع بعيدًا عن المأساة التي تتكشف في البحر، آخذة بالتنامي خلال الفترة الماضية، مقوضة بذلك الآمال في صياغة نظام لجوء مشترك أو آلية تعامل موحدة مع الوافدين الجدد، فضلًا عن سياسة تقاسم المسؤولية بين الدول الأعضاء.
يقول أندريا ستوتشيرو، ضابط السياسات في اتحاد المنظمات المسيحية للخدمات التطوعية الدولية بإيطاليا (FOCSIV)، “من المقرر إطلاق جدول أعمال اللجنة الأوروبية الشامل بخصوص موضوع الهجرة في شهر مايو، والهدف منه هو محاولة المواءمة بين سياسات الهجرة الوطنية، ولكن التحديات التي تواجه دول الاتحاد الأوربي تقف في الطريق، مما يؤثر على فتح الممرات الإنسانية، والطرق القانونية إلى أوروبا، من خلال برامج اللجوء عن بعد، أو برامج إعادة التوطين”، ويتابع شارحًا “على سبيل المثال، فيديريكا موغيريني – الممثل الأعلى لسياسة الأمن والشؤون الخارجية في الاتحاد الأوربي – والموظفين التابعين لها، يرغبون في إنشاء ممرات إنسانية، وإعطاء طالبي اللجوء – في بلدان مثل مصر- فرصة للقدوم إلى أوروبا، ولكن الفريق يواجه مشاكلًا؛ بسبب أن العديد من الدول الأعضاء لا تفتح أبوابها لبرامج إعادة التوطين”.
“ربما يكون هناك أشخاص آخرين في اللجنة الأوروبية يحاولون أيضًا تحقيق توازن ما بين المقاربات الأمنية وإمكانية فتح ممرات عادية، ولكن القرار النهائي ليس للمفوضين، بل هو من اختصاص الحكومات الوطنية، التي لها وحدها القدرة على إنشاء ممرات عادية”، يوضح ستوتشيرو.
بدأت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أيضًا تعيد تفسير التزاماتها في ضوء الاستجابة لتدفقات الهجرة غير المسبوقة، والواقع أن نظام دبلن هو الذي يحكم ويحدد كيف ينبغي على الدول الأعضاء تسجيل بصمات الأصابع وسجلات اللاجئين الوافدين ضمن قاعدة بيانات يوروداك “النظام الأوروبي لمضاهاة بصمات الأصابع”؛ فبمجرد أن يتولى أي بلد ضمن المنظومة الأوربية معالجة طلب اللجوء، لا يمكن للاجئ الذي يتم معالجة طلبه أن يتقدم بطلب لجوء في دولة أخرى، وإذا حاول تقديم اللجوء في بلد آخر، بعد تسجيل بصمته، فيحق لهذا البلد إعادته إلى الدولة الأولى التي سجل فيها بصمة إصبعه.
بعض البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تتجاوز إجراء تسجيل البصمات، بغية تمرير مسؤولية اللاجئين إلى الدول الأعضاء الأخرى، وغالبًا ما يشار إلى إيطاليا على أنها البلد الأبرز المشهور بهذه الممارسات، وتعليقًا على هذه السياسة التهربية، ذكر تقرير في موقع فورين بوليسي، أن هذه الممارسات يمكن أن تشرع الأبواب أمام مسلحي الدولة الإسلامية للدخول إلى قلب أوروبا، وهذه الحجة تلقى أصداءً متزايدة لدى أحزاب اليمين المتطرف الأوروبية.
وفقًا لما جاء في موقع ستيت وتش، فإن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تناقش الخطوط العريضة لمعالجة حالة قيام اللاجئ بتسجيل بصمة إصبعه باستخدام درجة نسبية من الإكراه؛ وأحد الأمثلة على هذه الحالة هو علي، وهو سمكري يبلغ من العمر 43 عامًا من مدينة حمص السورية، أُجبر هو وزوجته وأطفاله، على تسجيل البصمة في إسبانيا، وهي نقطة دخوله الأولى إلى أوروبا حيث وصل إليها بعد عبوره من المغرب إلى مليلية على ساحل شمال أفريقيا.
يشير علي أنه أُجبر على البصم في إسبانيا بعد أن تعرض للتهديد بالاعتقال من قِبل الشرطة الإسبانية في حال لم يمتثل، “الحكومة الإسبانية لا تهتم باللاجئين، والناس هناك يعانون جدًا في محاولاتهم للاستحصال على حقوقهم وإقاماتهم” قال لنا علي من منشأة الصليب الأحمر في بلجيكا، شارحًا سبب اتخاذه لقرار التوجه إلى بلد أوروبي آخر، أما اللاجئون الآخرون الذين قابلناهم في ذات المكان، فذكروا لنا كيف قدموا من إيطاليا بدون أن يتم الاستحصال على بصماتهم.
ترى جوديث ساندرلاند، أحد كبار الباحثين في منظمة هيومن رايتس ووتش في أوروبا، أن أغلب المناقشات السياسية التي تجري حول موضوع اللجوء، تنتهي إلى كلمة واحدة، يتم استخدامها بشكل متزايد في اجتماعات الاتحاد الأوروبي، وهي “المسؤولية”، حيث تقول “يمكنك أن تلاحظ من خلال مجرد قراءة النتائج التي توصلت إليها القمة الاستثنائية، التي جرت الأسبوع الماضي حول الأزمة في منطقة البحر الأبيض المتوسط، إحجام الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي عن تحمل المسؤولية بصدد الأشخاص الهاربين من الاضطهاد والحروب، والأشخاص الذين هم بحاجة إلى الحماية الدولية”، وتتابع بقولها “هذا الإحجام يظهر عمليًا بشكل يومي على الحدود البرية للاتحاد الأوروبي، حيث نرى الأسوار المرتفعة، وإرجاع الوافدين، وسوء المعاملة، كما يمكننا أن نرى الإحجام من خلال الامتناع عن إنقاذ أرواح المهاجرين الغارقين في البحر الأبيض المتوسط”.
توضح سندرلاند قائلة “إن إنقاذ حياة الأشخاص أمر مختلف عن إنزالهم من السفينة وتحمل مسؤولية معالجة طلباتهم للحصول على الحماية الدولية، أو معالجة طلبات ترحيلهم”.
منتظرًا في بلجيكا، ومواجهًا لخطر احتمال إعادته مرة أخرى إلى إسبانيا، يعيش علي حياة مريرة وغير مستقرة مستقبليًا، “الجميع يحلم بالسفر إلى أوروبا، ولكن الواقع مختلف تمامًا”، قال علي معترفًا بأن القدوم إلى أوروبا كلفه حوالي 14.000 دولار لينتهي به المطاف إلى خيبة الأمل، “أوروبا هي حلم وهمي، لا ينبغي علينا مطاردته”، قال علي بحسرة واضحة.
يمكن لسياسة الهجرة الأوروبية أن تختلف من دولة إلى أخرى، فقد تبدو واعدة أو مربكة أو معقدة بشكل هائل، ومن بيته المؤلف من مقصورة مسبقة الصنع في مركز الاستقبال في الريف القبرصي، يشرح لنا علي محمد، وهو سوري فلسطيني آخر يعيش في كوفينو، تجربته في المركز بقوله “إن الأمور تبدو وكأنها وهم كبير، تجربتي هنا في كوفينو بعيدة عن أحلامي المثالية التي واجهت لأجلها الموت”، وأضاف “لقد سمعنا عن أوروبا، ولكننا لم نعثر عليها هنا، فهنا مثلًا لا يسمحون لنا حتى بالعيش في غرفة ما لم يعطوننا الإذن، لقد تحملنا مخاطر ترك سورية لكي نعيش، ولكن ما وجدناه هنا كان وهمًا كبيرًا”.
المصدر: ميدل إيست آي