يقول الأخصائي والمحلل النفسي الإنجليزي جون بولبي John Bowlbly في نظريته عن التعلق، إن الطفل يستخدم علاقته القوية مع الشخص الذي يمنحه الرعاية والعطف الاهتمام كـ “قاعدة آمنة” لاستكشاف العالم الخارجي، ويوضح أن التعلق يمثل التوازن بين حاجته إلى الشعور بالأمان والاطمئنان وحاجته لاكتشاف محيطه، ولا يمكن أن يفعل هذين الأمرين إن لم يتأكد من وجود قاعدة آمنة يرجع إليها حينما يشعر أنه خائف أو مهدد أو محتاج إلى حماية.
فالطفل الذي يجلس في حضنك بحب وأمان، سيصل إلى نقطة معينة تحتم عليه أن يذهب ليكتشف المحيط من حوله، وفي مرحلة أثناء سيره، سيعود ليلتفت وينظر إليك، فلو قلت له: اذهب يا صغيري، العالم مكان رائع، اذهب إليه، هناك الكثير من المرح، هناك أشياء عظيمة للاكتشاف والاستكشاف؛ سيتمكن هذا الطفل من الذهاب وتجربة الاتصال والانفصال في نفس الوقت، وسينطلق خياله، وسينطلق جسده، ولعبه، وفي نفس الوقت يعلم أن هنالك أحد ينتظره عندما يعود.
لكن إذا كان هناك شخص يقول لطفل آخر، أنا قلق، أنا حريص، أنا خائف عليك، لا يوجد شيء هناك، لدينا كل شيء تريده هنا، أنا هنا سأفعل لك ما تريده معي؛ هذا الطفل سيفضل أن يفقد جزءًا منه على أن يفقد هذا الشخص المتعلق به، سيفضل أن يفقد حريته على أن يفقد الآخر، ولا يفقد الاتصال معه، وسيكبر ويحب ويتعلق مع قلق زائد، ولن يعرف كيف ينفصل ويترك ذاك الشخص من أجل الذهاب للعب وتجربة متعة الاستكشاف.
طفل آخر في نفس الوضعية قد يذهب لاكتشاف العالم، لكن سيظل يتساءل: هل سيقوم بتأنيبي؟ هل سيغضب مني؟ هذا الطفل قد يذهب، لكنه لن يكون قد ابتعد كثيرًا، لأنه يشعر بالذنب، ذنب الاكتشاف.
ترجموا هذه الوضعيات إلى لغة الكبار، لغة العلاقات بين الزوجين، وهذا من شأنه أن يفتح لنا أبوابًا لمواضيع كثيرة.
فلو أراد أحد طرفي العلاقة أن يستمر في استكشاف هذا العالم، سيكون أمام وضعين:
من جهة يريد الأمان من أجل أن يكون قادرًا على الذهاب، ومن جهة أخرى إن كان لا يستطيع الذهاب، لن يتمكن الحصول على متعة الاستكشاف، لأنه سيظل يشعر طوال الوقت بالذنب بسبب الطرف الآخر.
ما أريد الوصول إليه والتركيز عليه هنا أنه مثلما يؤثر خوف وقلق الشخص المتعلق به على اكتشاف الطفل للعالم الخارجي، يؤثر أيضًا على أي طرف في علاقة حب أو زواج ، فتقيد رغبته في استكشاف هذا العالم أكثر وأكثر.
كل هذا يعتمد على مدى توفر مسافة بين الطرفين، مسافة أمان تسمح بالاكتشاف، وتسمح بالاعتماد على الآخر مع العلم أنه هناك لايزال ينتظره بنفس الحب، هذا الأمر لن ينجح إلا إذا حافظ كلا الطرفين على هذه المسافة وقدسا أهميتها.
إنه ذكاء المسافة، المسافة التي تجعلك تختبر مع نفس الشخص: الأمان، الراحة، الحب، الثقة، الحماية، والاستمرارية، وفي نفس الوقت: المغامرة، المجازفة، الغموض، والمخاطرة.
هذه المسافة هي التي تسمح بالتوافق بين حاجات أساسية للإنسان، قد تبدو للوهلة الأولى أنها حاجات متناقضة يجب أن تتوفر في علاقة واحدة.
ومع ذلك ..
لا تقتحموا تلك المسافة باسم الحب.
تلك المسافة هي التي تضمن أنك لم تخسر نفسك وإن أحببت شخصًا آخر.
تلك المسافة التي تسمح لذاك الشغف أن يستمر، شغف الاستكشاف.
تلك هي المسافة الخاصة بك، وهي أيضًا المسافة الخاصة بالطرف الآخر.
هي تمامًا مسافة مقدسة.