ترجمة وتحرير نون بوست
منذ حوالي العامين، وفي الوقت الذي كان الجميع فيه يتوقعون ازدهاراً للأنظمة الديمقراطية في الشرق الأوسط، تفجر التدخل العسكري في مصر الذي أطاح بالحكومة المنتخبة ديمقراطياً للرئيس محمد مرسي، الانقلاب وما بعده ولّد رد فعل هائل من الجمهور التركي والسياسيين الأتراك، وعلى الرغم من أن البعض في تلك الفترة اعتبر موقف الأتراك من الانقلاب المصري مجرد تعبير عن التضامن من قِبل الحكومة التركية مع الإخوان المسلمين في مصر، بيد أن رد الفعل التركي على الانقلاب العسكري له دلالات مختلفة، تغور عميقاً في جذور الصدمات والندوب والذكريات المؤلمة للانقلابات العسكرية السابقة في تركيا، حيث كان سيناريو الانقلاب مألوفاً بشدة للجمهور التركي، الذي يدرك تماماً مخاطر هذا الطريق، وكنعان إيفرين كان أحد مهندسي التجربة والذكريات المؤلمة التركية.
من الصعوبة بمكان بالنسبة لمواطني البلدان ذات التجارب الديمقراطية الطويلة وغير المنقطعة، أن يستطيعوا إدراك وفهم تأثير الانقلاب العسكري على ضحاياه، فبالنسبة للكثيرين في الغرب، عادة ما تكون الانقلابات العسكرية عبارة عن خيالات في قصص الروائيين في أمريكا اللاتينية، أو مشاهد سينمائية لمخرجي الأفلام التي تتحدث عن الحكام المستبدين في الشرق الأوسط، أو حتى قصة من “مغامرات تان تان”، ولهذا السبب من الصعب أحياناً تخيل الآثار العميقة التي يحفرها الانقلاب العسكري ضمن ضمير الأمة، وتداعياته المدمرة على العلاقات الاجتماعية ومؤسسات النظام السياسي.
الآثار التي يحدثها أي انقلاب عسكري على ضحاياه هي آثار عالمية تقريباً، فضحايا الانقلابات في أمريكا اللاتينية يواجهون ذات الشكل من الاضطهاد الذي يواجهه ضحايا المجالس العسكرية في أفريقيا، والطرق والأساليب والإستراتيجيات التي ينتهجها صناع الانقلابات، متشابهة ومتطابقة تقريباً سواء في الشرق الأوسط أو في جنوب شرق آسيا، حتى أن تخطيط وتنفيذ الانقلابات تُظهر أنماطاً متماثلة في جميع أنحاء العالم؛ فالانقلابات توقف سريان وتدفق الزمن، وضحايا هذه الأحداث في جميع أنحاء العالم، يعيشون تحولاً جذرياً في حياتهم، ويعانون لسنوات طويلة من الصدمات والندوب الغائرة بعمق ضمن مخيلتهم.
المجتمع التركي عانى من عدة انقلابات عسكرية مختلفة، ومع ذلك، فإن انقلاب عام 1980 كان له المكانة الأكثر بروزاً في تاريخ الديمقراطية التركية، وفي الذاكرة الجماعية للمجتمع التركي، علماً أن هذا المجتمع هو على دراية حقة بصور التدخل العسكري ضمن السياسة؛ ففي عام 1960، أوقف انقلاب عسكري العملية الديمقراطية في تركيا للمرة الأولى، وحينها تم إعدام رئيس الوزراء عدنان مندريس، جنباً إلى جنب مع حسن بولتكان وفطين روستو زورلو، إثر محاكمة صورية من قِبل المجلس العسكري، تم من خلالها توجيه اتهامات لا صلة لهم بها، وفي وقت لاحق في عام 1971، تدخل الجيش مرة أخرى في السياسة مع انقلاب عام 1971، ولكن رغم تاريخ الانقلابات التركي، ومن حيث الطول والآثار والتأثيرات، يعتبر انقلاب عام 1980 الذي قاده الجنرال كنعان إيفرين، الذي توفي أمس عن عمر يناهز الـ 98 عاماً، الانقلاب الأكثر دموية والأشد تدميراً من بين جميع الانقلابات والتدخلات العسكرية الأخرى في تركيا.
انقلاب 1980 لم يعمل على تقويض واستئصال كافة المؤسسة السياسية في تركيا فحسب، بل أسس أيضاً لنظام سياسي قمعي يحد من الحقوق والحريات الأساسية، بما في ذلك حرية التعبير والصحافة والمؤسسات في تركيا، وفي تلك الفترة أصبح الاحتجاز والاعتقال والإعدام دون سند أو مسوغ قانوني، رمزاً لسنوات حكم المجلس العسكري للبلاد بقبضة من حديد، وفي غضون هذا الحكم، تم حظر العديد من الأحزاب السياسية، كما مُنع عدد كبير من السياسيين السابقين من الترشح للمناصب العامة.
منذ انقلاب عام 1960، فشل السياسيون بالتأسيس لنظام رقابة مدنية فعّال على الجيش، وعلى النقيض، برع الجيش في إسقاط الحكومات المدنية، وفي الثمانينيات، حاول المجلس العسكري إثبات وتعزيز الهيمنة العسكرية على المرافق المدنية التركية، حيث عمد صناع الانقلاب على تحصين أنفسهم ضد المحاسبة، وتثبيت انقلابهم قدر الإمكان، كما تم إنشاء مؤسسات من شأنها ضمان بقاء السيطرة العسكرية النشطة على الحياة المدنية والسياسية التركية على المدى الطويل.
بعد الانقلاب، بقيت تركيا جاثمة في ظل إيفرين- الذي تحول من رئاسة مجلس الأمن القومي إلى رئيس للجمهورية عقب انتخابات مشكوك بها- ومجلسه العسكري لسنوات طويلة، وشهدت حقبة الثمانينيات تطورات هامة جداً على صعيد الاقتصاد والتكنولوجيا والبنية التحتية إثر إصلاحات رئيس الوزراء تورغوت أوزال، بيد أن أوزال لم يتمكن من تحقيق ذات المستوى من التطور على صعيد الديمقراطية والإصلاحات السياسية، حيث عمل إيفرين حينها من منصبه كرئيس جمهورية، على تعظيم السلطة الدستورية للمنصب الرئاسي، بحيث يحق له الاعتراض على أي قرار من شأنه أن يعرّض دعائم نظام الوصاية العسكرية للخطر.
بقي إيفرين رئيساً للجمهورية التركية حتى عام 1989، ولكن حتى بعد انتهاء ولايته، بقيت المؤسسات التي بناها، مثل مجلس الأمن القومي الذي يسيطر عليه العسكر، معقلاً لقوة الجيش، ومع ازدياد سطوة القطاع المدني في تركيا في تسعينيات القرن الماضي، حاول تخفيض الهيمنة العسكرية على السياسة التركية، ولكن مع ذلك استمر بعض الجنرالات بممارسة كم هائل من الضغوط على السياسة من خلال مختلف الممرات والقنوات.
إيفرين كان مسؤولاً عن التدخل العسكري الأكثر شمولية في السياسة التركية، ومن بعده، أصبح صناع الانقلابات أكثر ابتكاراً وإبداعاً، ففي عام 1997، تدخل الجيش في السياسة عن طريق انقلاب “ما بعد الحداثة”، وسمي الانقلاب بهذا الاسم لأن الجيش حشد الجماهير ووسائل الإعلام واستخدمها من أجل توليد دعاية سلبية حول الحكومة المنتخبة ديمقراطياً لنجم الدين أربكان، مما اضطر الحكومة إلى الاستقالة تحت هذا الضغط، كما عملت السلطة القضائية –الحليف الأهم للجيش لفترة طويلة- على ختم هذا التدخل العسكري من خلال إغلاق حزب الرفاه.
منظمو انقلاب ما بعد الحداثة كان لهم صلات وثيقة مع إيفرين، فالجنرال الأكثر شهرة، والذي اعتبره الكثيرون السلطة الأقوى في الجيش، والوجه الأهم للانقلاب، الجنرال شفيق بير، كان يشغل منصب رئيس هيئة الأركان لمكتب إيفرين عندما أعد الأخير لانقلاب الثمانينيات، وفي وقت لاحق، وبعد أن أصبح إيفرين رئيساً للجمهورية، انتقل بير معه إلى قصر كانكايا، وأصبح المساعد الشخصي الأول لإيفرين.
وتماماً كما تلقى إيفرين ومجلسه العسكري رداً عنيفاً من الجمهور في انتخابات عام 1983، تلقى بير وانقلاب ما بعد الحداثة أيضاً رداً قاسياً من الشعب في انتخابات نوفمبر 2002، ولكن مع ذلك، بقي بعض الضباط داخل صفوف الجيش آملين بالتأسيس لتدخل عسكري من شأنه كسب تأييد غالبية الجمهور، وهذه الآمال تم إحياؤها في عام 2007، عندما باشرت بعض المجموعات العلمانية والقومية المتطرفة بتنظيم تجمعات جماهيرية بغية التدخل لإجراء انتخابات رئاسية من خلال سياسة الشارع وليس من خلال الديمقراطية الانتخابية، وفي تلك الفترة تم حمل لافتات من قِبل بعض المتظاهرين تدعو الجيش إلى أداء وظيفته، مما شجع بعض الجنرالات في الجيش على إصدار مذكرة أخرى في أبريل 2007 أسفرت عن إجراء انتخابات مبكرة.
ولكن ما لم يستوعبه إيفرين، ومن بعده رفاقه، هو أن كل تدخل عسكري كان يخلّف لدى الجمهور رد فعل قوي معارض لتدخل الجيش، وفعلاً تماماً كنتيجة التدخلات العسكرية السابقة، أدت انتخابات عام 2007 إلى تحقيق فوز انتخابي لصالح حكومة حزب العدالة والتنمية، وبعدها عمد الحزب من خلال حزمة من الإصلاحات المختلفة والتعديلات الدستورية، إلى محاولة فرض السيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية.
التدخلات العسكرية المتواصلة على مدى الـ60 عاماً الماضية ضمن الديمقراطية التركية، خلّفت سلسلة من الضحايا نتيجة للانقلابات المختلفة، فالمجالس العسكرية لم تعمد فقط إلى قمع الحقوق والحريات الأساسية، بل حطمت أيضاً أحلام الملايين من الشباب؛ فالبعض خسر حياته، وآخرون خسروا حرياتهم، والباقون حرموا من تكافؤ الفرص في التعليم والسياسة والاقتصاد، وكل انقلاب خلق تصورات لتهديدات مختلفة، ليجبر المجتمع على تبني واحتضان نظام الوصاية، والنظر إلى الجيش على أنه المنقذ الوحيد للاستقرار الوطني، وكل انقلاب ولّد جماعات تم استبعادها واضطهادها وقمعها، وكل انقلاب نثر بذور العداوات بين الجماعات المختلفة، وأدى إلى نفور بعض الشرائح من بعضها الآخر في المجتمع، كما عمل كل انقلاب على إبعاد تركيا عدة خطوات إلى الوراء من معايير الديمقراطية، فضلاً عن قيام كل انقلاب بخلق خطوط تماس جديدة بين مختلف مكونات المجتمع التركي.
إيفرين توفي أمس، ولكن في كثير من البلدان الأخرى لا يزال هناك جنرالات يبحثون ويسعون لفرصة للإطاحة بالمدنيين وبالقادة المنتخبين، وعلى الرغم من أن بعضاً من قادة المجالس العسكرية كانوا مخيفين، والبعض الآخر كانوا محترمين، بيد أن التاريخ لا يكتب اسم هؤلاء بحروف من ذهب، كون الانقلاب ذاته، هو شكل غير أخلاقي لتغيير السلطة، وفي أي مكان من العالم يتم نعت تداعيات الانقلابات المدمرة والدامية على أنها أحلك أيام تاريخ الدول، وانقلاب عام 1980 كان أحد هذه السنوات الحالكة السواد بالنسبة لتركيا.
المصدر: ديلي صباح