أثارت زيارة الرئيس الفرنسي “فرانسوا هولاند” إلى كوبا تساؤلات عدة حول ما إذا كان تحمل نفس أهداف التقارب الأمريكي الكوبي في الفترة الأخيرة، فهذه الزيارة الرسمية الفرنسية تعد هي الأولى من نوعها لرئيس فرنسي منذ أكثر من 100 عام تقريبًا من القطيعة، هذه التساؤلات والتكهنات حول الزيارة وأهدافها تأتي في ظل تقارب بين كوبا والغرب تقوده الولايات المتحدة.
وصل “هولاند” إلى مطار “خوسيه مارتي” في العاصمة الكوبية هافانا بصحبة خمسة وزراء ونحو عشرين من رؤساء الشركات ورجال الأعمال الفرنسيين، وقد كان في استقباله روجيليو سيارا نائب وزير خارجية كوبا، حيث من المفترض أن يتلقي الرئيس الفرنسي بنظيره الكوبي “راؤول كاسترو” العائد من روسيا.
هذه الخطوة الفرنسية يبدو وأنها بضوء أخضر أمريكي وبتنسيق غير خفي على المتابعين، فالرئيس الأميركي “باراك أوباما” صرح بأن زمن التدخلات الأميركية في شؤون أميركا الجنوبية قد ولى للأبد، وذلك بعد مصافحة أثارت الجد ووصفها العالم بأنها تاريخية جمعت بين الرئيس الكوبي “راؤول كاسترو” والرئيس الأمريكي “أوباما” وذلك خلال افتتاح قمة الأميركيتين التي بدأت في بنما شهر إبريل الماضي بمشاركة كوبا للمرة الأولى منذ نحو 60 عامًا.
عقب هذه المصافحة التاريخية أعلن البيت الأبيض الأمريكي أن الرئيس الأميركي “باراك أوباما” قد أبلغ الكونجرس اعتزامه شطب دولة كوبا من اللائحة الأميركية للدول الداعمة للإرهاب، في قرار اعتبرته هافانا “صائبًا” في هذا التوقيت ليسجل مرحلة أساسية نحو تطبيع العلاقات بين الغرب وكوبا، وقد أكد من جانبه “جون كيري” وزير الخارجية الأمريكي نفس الأمر وقال إن الظروف قد تبدلت منذ إدراج كوبا على لائحة الإرهاب عام 1982، والعالم اختلف اليوم مقارنةً بما كان عليه قبل 33 عامًا حينما أدرجت الولايات المتحدة كوبا على لائحة الإرهاب.
هذا التقارب الكوبي الغربي سعى فيه البابا “فرانشيسكو” بابا الفاتيكان، وقد قدم له كاسترو الشكرعلى وساطته لتحسين العلاقات بين هافانا وواشنطن، الأمر وصل إلى أن أدلى كاسترو بتصريحات مثيرة للجدل في كوبا حيث قال أن البابا أثر فيه بشدة لدرجة أن “كاسترو” قد يفكر بالعودة إلى الكنيسة الكاثوليكية، رغم اعتناقه الشيوعية.
هذه المصالحة المفاجئة أعادت إلى الأذهان ذكريات الحرب الباردة بين المعسكرين السوفيتي والأمريكي، إذ مرت كوبا بسنوات عصيبة وعدة أزمات أمام الولايات المتحدة، فأزمة “خليج الخنازير” في بداية ستينيات القرن الماضي ورئيس الوزراء الروسي “نيكيتاخروشوف” أمام الرئيس الأمريكي “جون كنيدي” وضعا هذه المنطقة على حافة مواجهات عسكرية دامية تعيد ذكريات الحروب العالمية.
يذكر أن القطيعة بين الغرب وكوبا وبالتحديد مع الولايات المتحدة بدأت في أكتوبر من العام 1960 بعد تولى “فيدل كاسترو” الزعيم الكوبي مقاليد الحكم في هافانا المعروف بموالاته للمعسكر الشيوعي، بعدها أعلنت الولايات المتحدة حظرًا اقتصاديًا على كوبا، فيما فكرت بعض الأطراف في الولايات المتحدة في مهاجمة كوبا عسكريًا، إلا أن التدخلات الدولية حالت دون وقوع ذلك لأنه كان من المتوقع أن هذا التدخل العسكري سيوقع حربًا عالمية ثالثة، حتى استقر الوضع على الحصار الاقتصادي والعسكري الذي ظل حتى هذه الفترات.
ويعتبر حكم “كاسترو” حكمًا شيوعيًا مثل تحديًا للولايات المتحدة والغرب للقضاء عليه في أمريكا الجنوبية، فقد أطاح كاسترو بمساعدة الاتحاد السوفيتي بحكومة “فولغينسيو باتيستا” المدعومة من الولايات المتحدة بانقلاب عسكري، ومنذ هذا الحين وقد وضعت الولايات المتحدة كوبا في خانة الأعداء ورأت في هذا الحكم الشيوعي خطرًا عليها، وكانت دائمًا ما تحاول الإدارات الأمريكية المتعاقبة التخلص من الزعيم الكوبي “كاسترو”.
هذا وتسير أوربا على خطى الولايات المتحدة في النهج الحديث في التعامل مع كوبا، فالاتحاد الأوربي قد وقع عقوبات دبلوماسية على كوبا منذ العام 2003، بالإضافة إلى أن ثمة رواسب قديمة بين الاستعمار الأوربي القديم وحركات التحرر الشيوعية التي كانت تنطلق من كوبا باتجاه مستعمرات الشرق، وهو ما أدى إلى تآكل النفوذ الأوربي المواجه بحركات التحرر في مستعمرات الشرق، وهو ما تسبب في الموقف الأوربي القديم من كوبا، بالإضافة إلى سير أوربا بعد ذلك في ركب الولايات المتحدة في حربها الباردة مع الاتحاد السوفيتي.
مع الأخذ في الاعتبار أن هذه ليست المحاولات الأوربية الأولى لتحسين العلاقات مع كوبا، حيث عرض الاتحاد الاوروبي مساعدات لمواجهة الأعاصير ومعونات آخرى على كوبا، في أول محادثات بين مسؤولين من الجانبين منذ فرض الاتحاد عقوبات دبلوماسية على الجزيرة الواقعة في البحر الكاريبي عام 2003.
وكانت كوبا وأوروبا قطعت الحوار بينهما حينما فرض الاتحاد الاوروبي عقوبات دبلوماسية عام 2003 بعد أن اعتقلت الحكومة الكوبية 75 منشقًا، وقد تم تعطيل هذه العقوبات في عام 2005 لكن لم ترفع رسميًا إلا في 2008، وكان إلغاؤها محاولة للتشجيع على مزيد من الإصلاحات من جانب الرئيس “راؤول كاسترو” الذي تولى الحكم بعد تقاعد شقيقه “فيدل”، وقد أكدت أوربا على لسان دبلوماسييها أن هذه الخطوات الأمريكية سوف يسهل محادثات أوربا مع كوبا، وهو ما سيساعد الجميع على صياغة اتفاق سياسي مع الدولة الشيوعية.
هذا التقارب الغربي وخاصةً الأمريكي لم يكن محل رضا من الجميع، خاصةً في صفوف الأمريكيين الجمهوريين المعارضين لهذا التقارب، إذ صرح السناتور والمرشح للرئاسة “ماركو روبيو” بأن هذا القرار مريع بالنسبة للأمريكيين، مؤكدًا أنه ما زال متمسكًا بوصف كوبا دولة راعية للإرهاب، في حين وصف بعض أعضاء الكونجرس أنها خطوة متهورة من أوباما برفع كوبا من لائحة الإرهاب، مؤكدين أن أوباما كان عليه التريث قبل استصدار مثل هذا القرار، الأمر يشير إلى أن التعامل الأمريكي سيظل على المحك وعرضة للانفجار والارتداد للخلف في أي لحظة إذا ما وصل الجمهوريون في الانتخابات الأمريكية المقبلة إلى البيت الأبيض.
كذلك الحال في أوربا التي لا تخل من معارضة هذا التقارب أيضًا، خاصةً وأن دولة مثل إسبانيا ترى أن هذا الأمر ليس في مصلحة أوربا، وذلك بسبب وقوع توترات سابقة بين إسبانيا وكوبا، وفيما لا تزال الأصوات تتصاعد في هافانا لتحسين وضع الحريات وحقوق الانسان في الجزيرة بالتزامن مع مساعي مدريد الرامية لتغيير الموقف المشترك الذي تبناه أوروبا من كوبا، فالعديد من الأصوات الأوروبية ترى أن الأمور بقيت على حالها في كوبا حتى بعد وصول “راؤول كاسترو” إلى سدة الحكم، وأن الأمر لم يتغير كثيرًا.