خلفيات عامة
حضور القبائل الليبية في المشهد السياسي بحسب شهادات زعماء قبائل لم يكن بمبادرة ذاتية منها بقدر ما كان استدعاء سياسيا من الأنظمة السياسية التي عاصرتها ليبيا إبان نشأة الدولة وخروجها من طور الاستعمار والوصاية إلى طور الدولة.
فلم يكن استدعاء القذافي لهذه القبائل شيئا جديدا على المشهد العام، بل صار على سيرة المملكة الليبية قبل سقوطها على يد انقلاب أيلول / سبتمبر 1969، حيث عمد واضعو النظام السياسي للمملكة على إدخال القبائل ضمن المنظومة النيابية والتنفيذية، إذ أن المنظومة التشريعية انقسمت إلى مجلسين، أحدهما للنواب والآخر للشيوخ، وهذا الأخير قام بالأساس على تعيين برلمانيين من القبائل الكبرى بصرف النظر عن مدى استيعابهم لفكرة العمل التشريعي والرقابي السيادي من عدمه، وعرفت تلك الفترة نوابا في مجلس الشيوخ لا يجيدون الكتابة أو القراءة.
جاء نظام القذافي في بداياته متأثرا بالفكر القومي العروبي الناصري المولود في رحم الانقلابات العسكرية التي اجتاحت المنطقة العربية في نهاية أربعينات القرن الماضي، فلم يهتم بالمكونات الاجتماعية القبلية الليبية، بل اعتمد في هيكلة نظامه على ضباط جيش موالون لنظامه، أو تكنوقراط من العهد السابق سارعوا في تأييد نظامه.
بُعيد المحاولات الأولى لإسقاط نظام القذافي في سبعينات القرن الماضي تفطن النظام إلى المخاطر التي تحيط به، فعمد إلى استخدام سلاسل مختلفة ودوائر تتسع وتصغر في القرى والمدن الليبية في شرق وغرب ليبيا وجنوبها، ظاهرها سياسي، وباطنها روابط وأواصر دم تحمي النظام ممن قد يسعون لإسقاطه، بمعنى أن النظام حمى نفسه من المجتمع، بتسليط أصغر بنياته وأكبرها على بعضها البعض من خلال المنطق الذي تجيده هذه المكونات، وذلك كون المجتمع لم يؤطر نفسه في أحزاب سياسية ذات برامج ومرجعيات فوق قبلية.
ولعب النظام على تقريب وتبعيد زعماء هولاء القبائل متبعا سياسة العصا التي وصلت حد الإعدام والتشريد، والجزرة بحسب ما يقدمه الزعماء من خدمات أمنية واجتماعية تساهم في تثبيت أركان النظام.
مفارقة
حكم ليبيا في تاريخها الحديث بعد نشؤ الدولة رجلين لا ينتميان لقبائل كبيرة، فالملك الراحل إدريس لم يكن ينتسب لكبريات قبائل ليبيا شرقا أو غربا أو جنوبا، فلم تكن العائلة السنوسية من القبائل التي تملك نفوذا بسبب كثرة عددها أو أراضيها الواسعة، وإنما كان مصدر نفوذها في ليبيا دينيا.
قائد انقلاب سبتمبر/أيلول العقيد الراحل معمر القذافي هو الآخر لم تكن قبليته “القذاذفة” من القبائل الكبرى سواء في وسط ليبيا أو جنوبها، وإنما عاشت كباقي قبائل المرابطين في ليبيا تحت حماية قبيلة أكبر منها، بسبب الولاء أو الجوار.
وسيطر نظام القذافي على ليبيا عبر الجيش الليبي، ثم في فترات لاحقة عن طريق كتائب أمنية وتنظيمات سياسية كالاتحاد الاشتراكي، وحركة اللجان الثورية، ونظام التصعيد الشعبي، وأدخل إلى هذه التشكيلات المسلحة والسياسية من كل القبائل والتشكيلات الاجتماعية المختلفة.
قبيل الثورة
بعد اندلاع ثورة 17 ديسمبر/كانون الأول في تونس، وثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني في مصر ، تفطن نظام العقيد الراحل إلى إمكانية حدوث سيناريو مشابه للمصري والتونسي في ليبيا، فعلى الفور بدأ أوفد قادة أمنيين وكبار رجالات حركة اللجان الثورية إلى مناطق ليبيا المختلفة لعقد اجتماعات مع مكونات هذه المدن الرياضية والشبابية، لتقديم الوعود والتلويح بالقوة المفرطة، فمثلا أوفد القذافي، أحد كبار موظفيه الأمنيين إلى شرق ليبيا في بنغازي والمرج والبيضاء ودرنة وطبرق الطيب الصافي الذي عقد سلاسل لقاءات مختلفة مع كل المكونات شبه النقابية والأمنية والاجتماعية، وكان من ضمن من التقاهم الطيب الصافي “القيادات الشعبية الاجتماعية” وهي فكرة عمل من خلالها نظام القذافي إلى ربط القبائل بنظامه من خلال وظيفة تتبع الدولة وتخضع لرقابتها وأوامرها المباشرة، أدخل إليها الطامحون إلى المال والسلطة والمؤيدون لنظامه من شيوخ القبائل وممثليها.
كما طلب موفدو القذافي إلى المدن من كل مكوناتها الاجتماعية والمنتسبون لحركة اللجان الثورية، والأندية الرياضية، “وأمناء اللجان والمؤتمرات الشعبية ” الحضور إلى العاصمة طرابلس للقاء بالعقيد الراحل معمر القذافي ، والمؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية هي هياكل شبه تشريعية وتنفيذية اعتمد نظام التصعيد إليها أو الانتخاب فيها على توزيع الحصص بناء على ثقل كل قبيلة في المدينة أو القرية، بميزانيات محددة تصل في بعض المدن كبنغازي والبيضاء وطبرق ودرنة في شرق ليبيا أو الجنوب إلي مليارات، بدون أي نظام فاعل للمسؤولية والمحاسبة.
وفي هذه الاجتماعات خاطب القذافي هذه الوفود بالنبرة القبلية والاجتماعية، باعتبارها أحد مرتكزات حمايته بعد الكتائب الأمنية التي أدخل إليها أبناء القبائل المختلفة، بعد أن أصبحت العسكرة أحد أهم مصادر الرزق والحياة في بلد أغلق كل مصادر العمل الخاص فترة تجاوزت العشر سنوات.
وطلب من هذه القبائل صراحة التعهد بحماية نظامه ومنع أبناءها من القيام بأي عمل مضاد، أو إثارة الشغب والفوضى في البلد، ووجههم إلى عدو متوهم، وهو المصريين والتونسيين محذرا من استغلال الفوضى الأمنية في مصر وتونس ودخول الجياع منهم لليبيا واجتياحها والطمع فيها حسب قوله.
إلا أن زعماء القبائل التقليديين لم يستطيعوا منع اندلاع ثورة فبراير/شباط عام 2011 رغم دعوة بعضهم الخجولة فيما يُسمى شعبيا في ليبيا “المرابيع” إلى التهدئة والحفاظ على السلم الاجتماعي، أو في استثناء إخراج مظاهرات داعمة للنظام تحت لافتات قبلية، كما حدث في مدينة طبرق يوم 19 فبراير عندما خرجت مظاهرة يقودها أفراد من قبيلة “المنفي” كبريات قبائل طبرق. وكذلك بعض المظاهرات الليلية في مدينة بنغازي التي حركتها اللجان الثورية رافعة لافتات قبلية، وفي طرابلس العاصمة أيضا نفس السيناريو، رغم أنها مدينة تختلط فيها وتتعايش كافة التركيبات الاجتماعية على مستوى ليبيا. ولم يكن الجنوب الليبي بمعزل عن هذه المظاهرات المؤيدة للنظام والتي حركتها أجنحة أمنية وثورية تحت شعارات قبلية.
في المحطة الأخيرة من هذه المقدمة من المهم حتى لا نقع في شراك التعميمات السهلة، غير المبنية على وعي عام وكاف بالمشهد الليبي، يجب التنويه إلى أن زعماء القبائل ولا هي نفسها المحرك الرئيس في عموم الحياة السياسية الليبية، كما يحلو لبعض الدارسين الاستخلاص، فالعامل الرئيس هو التقاء المصالح أو تضادها، بمساندة عامل آخر لا يقل أهمية عنه، وهو المال السياسي الذي مصدره في غالب العموم خزينة الدولة، فمثلا لو تقدمنا بشريط الزمن إلى فبراير/شباط الماضي حيث وقعت عمليات انتحارية في مدينة القبة غرب درنة 50 كم، وأحد أهم تجمعات بيوت قبيلة العبيدات ومركزهم الرئيس، الذي ضحيتها عشرات القتلى والجرحى، حيث توقع كثيرون أن يتجمع أبناء قبيلة العبيدات في شكل مليشيات مسلحة والنزول إلى مدينة درنة حيث تنظيم الدولة الإسلامية ولاية برقة والاشتباك بهدف الانتقام لأبناء قبيلتيهم، إلا أن شيئا من هذا لم يحدث حتى الآن، حيث انصرف أفراد القبيلة إلى ممارسة حياتهم الاعتيادية اليومية.
وعندما قام شباب مدنيون من منطقة عين مارة غرب درنة 25 كم إلى إنشاء بوابة والدخول في اشتباكات مع مقاتلي درنة، طلب بعض سكان عين مارة وهم من عائلة “منصور” أحد بيوت قبيلة العبيدات من أبناء عمومتهم شرق درنة، من بيوت عائلة “بوجازية” في منطقة مرتوبة شرق درنة 30 كم، وعائلة “مزين” في منطقة أم الرزم 50 كم ، وعائلة ” رفاد” في منطقة التميمي شرق درنة 75 كم، التضامن معهم وإغلاق الطريق وإنشاء بوابات والاشتباك مع مقاتلي درنة، رفضت هذه البيوت التي تنتسب لقبيلة العبيدات ذلك، بسبب قربها من درنة وخوفها من انتقام مسلحي درنة، كما أن سكان منطقة مرتوبة من عائلة بوجازية خشوا من تضرر مصنع الأسمنت بمنطقتهم، حيث يعمل به أغلب سكان منطقة مرتوبة، وهو تغليب للمصالح الاقتصادية والأمنية على التضامن القبلي.
الحرب أسلوب حياة
تحولت الحرب في بلدي يعاني البطالة والفقر وانعدام فرص العمل الجيدة، وتدني المستويات التعليمية بين أبنائها، إلى أسلوب حياة وعيش، فأغلب المقاتلين مع قائد أركان الجيش التابع للبرلمان المنحل، دخلوا إلى عملية الكرامة، بوازع الحصول على السلاح الشخصي والامتيازات المادية، ومنها المرتب الشهري، مع عدم إنكار ولاء بعضهم لحفتر متأثرين بالحملة الإعلامية الشرسة، والتهويل الضخم ضد الإسلاميين، بعد اغتيالات طالت عسكريين وشُرطيين، ومدنيين، نسبتها وسائل إعلام إلى المتشددين الإسلاميين والمعتدلين على السواء، إضافة إلى أن عملية الكرامة أصبحت متنفسا لمدمني المخدرات ومعتادي ارتكاب الجرائم الجنائية.
موقف القبائل من الثورة الليبية
يمكن قياس موقف القبائل من الثورة الليبية إبان اندلاعها في فبراير/شباط 2011، على موقفها الحالي من عملية الكرامة التي تزعمها حفتر بدعوى محاربة الإرهاب عندما حاولت مليشياته الدخول إلى بنغازي في مايو/أيار 2014.
فأغلب القبائل تخشى تحمل مسؤوليات كبرى تزج من خلالها أبنائها في أتون حرب كبيرة ذات نتائج غير معروفة. فمن الممكن أن تتقاتل بيوت أو عائلات من قبائل حول أرض، لأي سبب ما، لكنها سرعان ما تحتوي خلافات ولا تتوسع فيها، إلا أن تاريخ ليبيا لم يعرف لها جسرة على اجتياح حروب تحت فكر سياسي، بمعنى أن بنية القبيلة وسلطتها في مثل هذه القضايا الكبرى تكاد أن تتحلل أو تتلاشى إلى ما دون النقطة صفر بقليل. فمثلا في شرق ليبيا انطلاقا من البيضاء وحتى الحدود المصرية لم تطلب قبائل ” البرعصي؛ الدرسي؛ الفايدي؛ الحاسي؛ العبيدات؛ المرابطون بتركيباتهم كافة من شاعري، قبائلي، عوامي، تركاوي، شلوي، جراري، منفي، قطعاني؛ قبائل الحضر من؛ مصراتة؛ زليطن؛ تاجوراء، ورفلة” الانضمام بشكل رسمي إلى ثورة فبراير، أو ضدها، وكذلك الالتفاف حول حفتر، أو الصد عنه.
رغم أن من يرى تحركات حفتر واجتماعاته بالقبائل في شرق ليبيا أو غربها، قد يظن أن مليشياته تكونت بالأساس من دعم زعماء القبائل له فقط، بمعنى أن شيخ كل قبيلة بقدرته واستطاعته أن يوجه أفراد وأبناء عمومته إلى هذا الطرف أو ذاك بمجرد قناعته بقضية سياسية أو اجتماعية ما، فهذا تبسيط مخل للقضية وغير مجد في فهمها، حيث أن الطرف الآخر المضاد لحفتر ولانقلابه العسكري، ينتمي هو الآخر لتشكيلات قبلية مختلفة الأصول، فلماذا عجزت القبائل مثلا عن إقناع أفرادها بالانسحاب من مجلس شورى ثوار بنغازي، أو تنظيم أنصار الشريعة، أو تنظيم الدولة الإسلامية.
فأبناء القبائل موزعون بين الأطراف المتقاتلة في شرق ليبيا وغربها إبان الثورة أو حاليا في الموقف من “الفجر” و”الكرامة” لا بموجب توجيهات قبلية، وإنما على أسس الإيمان بقضية ما، أو التكسب والتربح، والاستفادة المادية.
فاستعمال اللافتات القبلية في المواجهات السياسية، أو الأمنية لا يعني أن القبيلة هذه أو تلك مجمعة على الرأي المرفوع أو التوجه المضاد، فما يجمع المليشيات المسلحة هو المصالح وأسلوب العيش، والوعود بالسلطة أو المال أو بهما معا.
الأقليات
الاستثناء الأبرز فيما سبق أعلاه هو التجمعات الأقلية في ليبيا “الأمازيغ؛ التبو، الطوارق” إذ بسبب أقليتها وتميزها اللغوي أو الإثني اُضطرت هذه المكونات إلى التنسيق فيما بينها، وذلك ليس لكونها قبائل، بقدر ما هو الحرص والدفاع عن النفس، الوجودي الحياتي، والثقافي التاريخي.
فالحرب الدائرة بين “التبو” و”الطوارق” في جنوب ليبيا، هي أنموذج وعنوان للدفاع عن المصالح من خلال مظلة العرق والقبيلة، إذ أنه في ظاهره وباطنه صراع على منافذ التهريب بالجنوب الذي تنعدم فيه كل أو أغلب وسائل العيش والتكسب الكريم، حيث أن أسلوب العيش الأكثر رواجا في مناطق تفتقد إلى الخدمات الأساسية هو تهريب المخدرات والسلاح، والسلع الأساسية والوقود، إضافة إلى تجارة الهجرة غير الشرعية، في مناطق حدودية مفتوحة عجز نظام العقيد الراحل معمر القذافي في السيطرة عليها بالكلية، وإن كان نجح في إدارة صراع هذه المكونات ورقابة ما تقوم به من عمليات تهريب غير شرعية.
إن شبه الإجماع الأمازيغي على رفض الاصطفاف إلى جانب النظام السابق، كان بسبب التحدي الذي وضع فيه النظام نفسه أمام الثقافة واللغة الأمازيغية التي رفض الاعتراف بها وجعلها رافدا حضاريا ليبيا.
خطأ ثورة
أحد أهم الأخطاء التي ارتكبها القائمون على ثورة فبراير، هو الجنوح سريعا إلى وضع قبائل بأكملها في غرب ليبيا وجنوبها في خانة “عدو الثورة” وتحمليهم أخطاء نظام القذافي ومسؤولية الانهيار المؤسسي والسياسي في ليبيا بعد الثورة.
فمثلا سارع سياسيون وكتاب وصحفيون إلى تصنيف كبريات قبائل الغرب الليبي ضمن مربع الثورة المضادة حتى قبل أن تنضج هذه الثورة المضادة أو تتمأسس، كقبيلة “ورشفانة” وقبيلة “ورفلة” و”المشاشية” و”ترهونة”. وفي جنوب ليبيا قبيلة ” المقارحة” و”القذاذفة”.
بل واتهام بالخيانة لكل من سعى للتصالح ضمن مشروع وطني مع ممثلين عن هذه القبائل المنتمين للنظام السابق، كتلك المحاولة التي قام بها عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين علي الصلابي بتكليف من رئيس المجلس الوطني الانتقالي المستشار مصطفى عبد الجليل، الذي اجتمع في العاصمة المصرية القاهرة مع بعض رموز النظام السابق.
وبالتالي نتج عن وضع هذه القبائل في خانة العدو، قيام من يملكون المال والعلاقات الدولية والإقليمية من رموز النظام السابق باستغلال هذه الحالة التطهرية في مربع ثورة فبراير، وعدم قدرة سياسيها على دمج هذه المدن والقبائل ضمن تيار الثورة والعمل على تنمية مناطقهم محليا ومكانيا. استطاع رأس المال السياسي المحلي والدولي جذب قطاعات واسعة بذريعة حمايتهم من الخطر المحدق بهم، في الوقت الذي لم تُرسل لهذه المناطق والقبائل أية رسائل مطمئنة من ثورة فبراير، مما دعاهم للتجمع تحت قيادة الثورة المضادة التي استخدمتهم في حرب فبراير.
خلاصة
- زعماء القبائل التقليديين لا يملكون تحريك قبائلهم في اتجاه سياسي، وإنما المال والمصالح هي المحرك الرئيس.
- لم تجتمع قبيلة ليبية على حرب فبراير أو تأييدها بإطلاق، وكذلك المدن التي تعرف النظام العائلي.
- خطأ ثورة فبراير الفادح في تصنيف قبائل بأنها معادية، وأخرى موالية، أفرز تجمعات مسلحة تدافع عن وجودها البيولوجي. إضافة إلى فشل الحكومات المتعاقبة بعد فبرابر في تقديم خدمات معقولة لمناطق تلك القبائل.