دائمًا ما كنا نسمع في إسرائيل أن كل شيء من حولنا مركّب أكثر مما نعتقد، وأن المواقف التي نمر بها غامضة أو معقّدة أو مُبهَمة، حتى أصبح الحديث بشكل ضمني هو القاعدة في تناول السياسة والدين والفعل العسكري وحقوق الإنسان وغيرها، بيد أنني أعتقد أن الوضع في إسرائيل قد تغيّر على مدار السنة الماضية، حيث أصبحت الأمور الآن أكثر وضوحًا على ما يبدو، وصار الحديث عنها صريحًا جدًا.
هذا الأسبوع، ستشهد إسرائيل تكوين بنيامين نتنياهو لأكثر حكومة يمينية دينية صريحة وضيقة الأفق في تاريخها، كمزيج من الأحزاب الأرثوذكس المتطرفة مع القومية الشوفينية لحزب إسرائيل بيتنا بقيادة نفتالي بينيت، والذي لا يخفي طموحاته بشأن المزيد من الاستيطان، وهي حكومة يقودها بالطبع حزب الليكود، الأكبر في إسرائيل الآن، وحزب كلانو (وتعني كُّلنا) المنشق عن الليكود، ليكوّن كل هؤلاء كتلة يهودية قومية بشكل واضح.
منذ عشرين عامًا، كان الفيلسوف روبرت براندوم قد قدم لنا في كتابه “أن نقولها صراحة” (Making it Explicit) طريقة جديدة لتناول اللغة والمعنى، وكتب عن كيفية الانتقال من العرض إلى الاستدلال، ومن الجزئي إلى الكُلي، ومن الفردي إلى المجتمعي، ومن الحقائق التفصيلية إلى المعايير والتوجيهات، ليكشف لنا أن كلماتنا تكتسب معناها من القيم الاجتماعية التي نعطيها إياها، وأننا ككائنات عقلانية نبحث دومًا عن أسباب ودوافع تُلزمنا بتلك الروابط بين ما نقوله كجزء من محاولة التعبير بشكل صريح عما هو كامن بالفعل في منظومتنا الأخلاقية والاجتماعية والسياسية.
في إسرائيل، يمكن القول أن هذا التحرّك نحو الصراحة بدأ في يوليو 2014، حين بدأت إسرائيل عملية “الجرف الصامد”، والتي ترجمها المتحدث العسكري للإنجليزية بشكل غير دقيق لـ”حد الوقاية” Protective Edge، وهي كلمة تشير بالطبع لموقف دفاعي، وهي عملية لم تتحدد أهدافها بشكل واضح، وتحوّلت من إيقاف صواريخ حماس إلى تدمير الأنفاق ثم إلى إضعاف حماس وتأمين المجتمعات الإسرائيلية في الجنوب وحتى محاولة إيجاد سلطة سياسية ضعيفة في غزة.
بنهاية العملية، كانت حصيلة الشهداء في غزة أكثر من ألفين، أغلبهم من المدنيين، وحوالي 500 منهم من الأطفال، مقابل 73 إسرائيليًا كلهم من الجنود، وكان الكثير من الأكاديميين والدبلوماسيين والسياسيّين قد اتجهوا إلى الموقف المعتاد بأن ما جرى ليس بجديد، وأنه جزء من الصراع الأزلي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والذي طالما شهد بين الحين والآخر تصعيدًا بهذا الشكل، بيد أن الواقع هو أنه في صيف 2014 كان هناك شيئًا مختلفًا يلوح في الأفق، وبالتحديد بعد خطف الشبان الإسرائيليين الثلاثة واكتشاف جثثهم في يونيو، والذي تبعه قتل شاب فلسيطيني كانتقام.
خلال هذه الفترة، تحدث القادة في إسرائيل بشكل واضح عن ضرورة “العقاب”، في حين استشهد نتنياهو في خطاب له بكلمات الشاعر القومي حاييم ناخمان بياليك، “الانتقام من أجل دماء طفل، هو أمر لم يبتكره الشيطان بعد”، وهو اتجاه تعزز بعد بدء عملية الجرف الصامد، حيث امتلأ الإعلام الإسرائيلي برسائل عنصرية وكريهة تجاه العرب والفلسطينيين، ليخرج شعار “الموت للعرب” من حيز مناوشات مباريات الكرة ومحادثات المتطرفين إلى العلن بشكل غير مسبوق.
قبل ثلاثة أيام من الانتخابات الإسرائيلية التي جرت في مارس المنصرم، أظهرت الاستطلاعات أن نتنياهو متخلف عن منافسه، إسحاق هرزوج (قائد الاتحاد الصهيوني اليساري)، ولكن ليس بعد أن أطلق نتنياهو العنان لتصريحَين مدهشين، أولهما في مقابلة صحفية قبل يوم الانتخابات، والتي قال فيها بأنه لن تكون هناك دولة فلسطينية خلال فترة رئاسته للوزراء، والثانية يوم الانتخابات، حين دعا أنصاره للخروج والتصويت لليكود محذرًا من إقبال العرب على التصويت.
ماذا كان يفعل نتنياهو بالضبط؟ لقد كان يقوم في الحقيقة بأمر خارج عن إطار المتعارف عليه سياسيًا، وبعيد عن القيم الديمقراطية التي طالما تغنّت بها إسرائيل بشكل رسمي: التعبير بشكل صريح عن الرؤى الصهيونية لحقوق اليهود الخاصة كشعب دون العرب، وهي ؤرى طالما كانت كامنة في المجتمع الإسرائيلي، بل وهي من القواعد المؤسسة للمجتمع اليهودي في إسرائيل، وقد كان التعبير عنها بمثابة توجيه للناخب الإسرائيلي.
بالطبع، كان رفض الدولة الفلسطينية واحدة من تلك الأشياء الخارجة عن إطار العُرف السياسي والتي ضربت عرض الحائط سنوات من الجهود الدبلوماسية، والتي لم تكن في الحقيقة سواء غطاء هش لنوايا نتنياهو الحقيقة البعيدة كل البعد عن تحقيق هذا الهدف على الأرض، وهي نوايا خرجت للعلن، ليقولها نتنياهو صراحة هذا العام، وهي ليست رؤاه وحده، ولكنها الأفكار الحقيقية لإسرائيل اليهودية الصهيونية، أو لقطاع واسع من مواطنيها على أقل تقدير.
قد نتسائل نحن أيهما أفضل؛ نفاق التغني بالقيم الديمقراطية؟ أم الحديث الصادق المتمسك بالرؤى العنصرية؟ الحديث بشكل ضمني أم صريح؟ يقول لنا براندوم أن “السياسة.. ينتهي بها الأمر لتصبح التعبير صراحة عن الأمور الكامنة في حياتنا،” ولكن ماذا لو كانت تلك الأمور الكامنة مُخزية؟ ثم ما هي الفائدة من التعبير بشكل صريح عما هو كامن إذا كان بعضه على الأقل مضادًا للقيم الإنسانية العالمية؟ هنا تكمن المعضلة.
قصة إسرائيل في الحقيقة هي قصة بائسة، وقد أصبح بؤسها صريحًا الآن، وبارقة الأمل الوحيدة التي يعطينا إياها براندوم هي “أننا عندما نقول أمرًا ما صراحة، نصبح في وضع أنسب لانتقاده،” والتعبير صراحة عن كل الرؤى الكامنة في إسرائيل، وإلى جانب الصدمة التي يمثلها لضمير الإنسانية، سيفتح نقاشًا مهمًا كنا نفتقده في الولايات المتحدة، والأمر بالطبع ليس فلسفيًا فقط، كما يقول براندوم، بل سياسي أيضًا (بخصوص دعم الولايات المتحدة لإسرائيل).
كما يقول براندوم، “إذا كان يمكنك أن تُخرج شيئًا للعلن لمناقشته، فإن كل ما هو ضمني ومتعلّق بمفاهيمنا عنه لا يتحكّم فيك بعد الآن، بل يصبح هو أيضًا خاضعًا للنقد الواعي،” وفي أي سياق سياسي صريح كالذي نمر به الآن، قد يتيح لنا ذلك في الحقيقة القوة الكافية لتغييره.
المصدر: نيويورك تايمز