القاهرة مدينة فوضوية كما يعرف أهلها، ولا تعمل فيها كل الخدمات بكفاءة، فالمرور شديد السوء، وانقطاع الكهرباء في الصيف قد يصل لخمس مرات يوميًا، كما رأيت بنفسي على مدار السنوات الثلاث التي قضيتها هنا ككاتب صحافي، بيد أن القمامة هي واحدة من الأشياء التي تسير بشكل جيد في المدينة، فمنذ انتقالي إلى هنا لم يمر يوم إلا ويقوم عامل النظافة بجمع القمامة، والحق أن النظام الكفء الذي تسري به شبكات الزبالين هنا، وهي شبكات غير رسمية بالكامل، هو واحد من الأفضل في العالم.
سيّد وفنّ فرز القمامة
بدأت علاقتي بعامل النظافة المسؤول عن البناية التي أسكن فيها، سيّد أحمد، حين عَلِم من إحدى محادثاتنا القصيرة أنني عملت في الصين سابقًا، وطلب مني مساعدته في بعض الأسئلة عن الطب الصيني، وبالتحديد عُلبة حمراء صغيرة مزيّنة بحروف ذهبية صينية، كُتِب عليها “منتج لحماية الصحة يعزز النمو والقوة”، ففتحت العُلبة لأجد ورقة التعليمات بإنجليزية سيئة -كعادة الصينيين- وما بدا أنه منشّط جنسي من نوع ما، حيث أشارت الورقة إلى ضرورة تناول حبتين في المرة الواحدة، والتأني لعشرين دقيقة مع شريكك قبل رؤية النتائج!
“لقد حصلت عليها من قمامة رجل مسنّ يسكن بآخر الشارع، توفي مؤخرًا، وكان أبناؤه قد ألقوا كل أدويته في القمامة، فوجدت فيها منشطات جنسية عدة ومجلات فاضحة،” هكذا قال سيّد حين سألته عن مصدر العُلبة، وفي إشارة لقدراته الفذة في فرز القمامة، قال لي أيضًا أن الرجل، والذي عمل كسفير سابق، يمتلك في حسابه أربعة ملايين وأربعة وأربعين دولارًا، كما عرِف من الرسائل التي كان يتلقاها من البنك ووجدها سيّد في القمامة، فرُغم أنه لا يعرف القراءة والكتابة، إلا أنه يعرف تلك المعلومات بمساعدة مالك كُشك الحرية (ليس اسمًا حقيقيًا) في المنطقة التي يعمل بها.
في عام 2013، قررت أن أقوم بجولة مع سيّد في حي الزمالك حيث أسكن، لأتعرف على خبايا سكان الحي التي لا يعرفها إلا هو، وصعدنا إلى إحدى البنايات التي يجمع منها القمامة لنبدأ رحلتنا.
“هذه مدام هبة،” هكذا أشار سيّد إلى صندوق القمة الأسود الذي قابلنا لأول منزل، “هي أجنبية وليس مسموحًا لي أن أخد قمامتها نظرًا لوجود خلافات بينها وبين المالك،” في الطابق الثاني وقفنا عند قمامة ساكنة آخرى لديها مشكلة مع الكحول، وفقما قاله سيّد، “دائمًا ما أجد الكثير من الزجاجات في قمامتها،” ثم فتح الكيس وأشار لزجاجتي ويسكي ونبيذ فارغتين، بعد ذلك انتقلنا إلى صندوق آخر، “هذه قمامة حسن، وهو مريض، وأعتقد أنه يعاني من داء السكري،” كذا قال وهو يفتح قمامته ويُخرِج منها حُقنتَين، “إنه يأخذ واحدة في الصباح وأخرى في المساء، لأنني أجد اثتنين يوميًا.”
كيف دخل سيّد إلى عالم القمامة أصلًا؟ لقد رعاه ببساطة زبّال قبطي اسمه سلامة لم ينجب سوى الإناث ليخلفه في عمله على خط السير الذي كان يمشي فيه، وهو يعمل الآن مع “أيمن القط”، زوج ابنة سلامة الكبرى والذي يدير مشروع تدوير القمامة الخاص به، إذ يعطيه سيّد كل الورق والزجاج والبلاسيتك، بينما يقلّب في البقية محاولًا أن يجد أي شيء ذي قيمة؛ أحذية قديمة تناسبه، أو طعام بحالة جيدة، أو منشطات جنسية كالتي وجدها، أو ربما زجاجات نبيذ مستوردة يود أحدهم اقتناءها.
عالم الزبّالين
بدأت شبكة الزبالين في الظهور مع مطلع القرن المنصرم، حين حطت مجموعة من بدو الواحات الداخلة رحالها في القاهرة، ويُشار لهم بالـ”واحيّة،” وبدأوا في دفع الأموال لملاك العقارات مقابل احتكار حق جمع القمامة من البنايات في العاصمة، في حين حصّلوا أموال جمعها من السكان، وكانت القمامة آنذاك تُحرَق بشكل رئيسي كوقود لعربات الفول، وهو أمر تغيّر بالطبع مع تضاعف التعداد السكاني للمدينة، وتفوّق القمامة على الفول.
في الثلاثينيات والأربعينيات، أتت موجة جديدة من المهاجرين من أسيوط، وكان معظمهم من المسيحيين الأقباط، والذين اعتنوا بتربية الخنازير التي تتغذى على المخلّفات العضوية، وقد تعاقد مسيحيّو أسيوط مع الواحيّة، والذي تحوّل دورهم إلى إدارة تلك الشبكة وجمع الأموال فقط، في حين أصبح الأقباط مسؤولون عن جمع القمامة وتصنيفها، لتنمو شبكة الزبالين دون أي دور حكومي، وتصبح واحدة من أكفأ أنظمة التدوير في العالم، طبقًا لمجموعة هابيتات إنترناشونال، حيث يتم تدوير 80٪ من القمامة.
في عام 2008، تلقت شبكة الزبالين ضربة أيام مبارك بعد انتشار أنفلونزا الخنازير، والتي دفعت الحكومة آنذاك لقتل الخنازير كحل وقائي ضد الوباء، وقد كان حلًا غير مدروس بالطبع، وغير مبني على أي حقائق علمية عن كيفية انتقال الفيروس، واستخدمته الحكومة، كما قيل وقتها، لتكسب رصيدًا لدى القطاعات المسلمة المحافظة، لا سيما وأن الكثير من الزبالين استفادوا من بيع لحوم الخنازير للفنادق، إلا أن شبكة الزبالين استمرت، خاصة وأن أحدًا لا يملك لها بديلًا، ولا يستطيع تفكيكها ببساطة، فهي ربما أعقد شبكة خدمية موجودة في القاهرة.
سيّد في عالم الزبالين
سيّد أحمد
يجمع سيد القمامة من 27 بناية في الزمالك، وهي بنايات تنقسم بين سبعة من جامعي القمامي المتفقين معه، منهم أيمن القط، ومنهم واحية معروفون بأسماء شبيهة، مثل “الوحش” و”الثعلب”، وأحدهم في الحقيقة موظف حكومي ولكنه ورث عن أبيه “بزنس” القمامة، ولا يزال يتمتع بحقوق الحصول عليها، كما يوجد واحي آخر متوفي ويتحمل سيّد أعباء نقل الأموال إلى زوجته بشكل شهري.
يحفظ سيّد عن ظهر قلب كل تلك الروابط المعقدة، ويعرف كل السكان الذين يتعامل معهم بالاسم، والذين يفوق عددهم أربعمائة، كما يحفظ جيدًا البقشيش الشهري الذي يحصل عليه من كل منهم، ويدير بكفاءة العلاقات مع المسيحيّين، فحين ذهبت معه إلى المنطقة التي يسكنها ذات مرة، أملى عليّ ما لا يجب أن يُقال كي لا تكون إساءة لهم.
لا يعطي سيد قيمة كبيرة للوظيفة التي يقوم بها، ويقول عن نفسه أنه غبي رُغم الذكاء والانتباه الشديدَين اللذين وجدتهما فيه، فهو يعتبر جمع القمامة “وظيفة حمار” كما قال لي مرة، بيد أن المشكلة أن القمامة لا تحتاج فقط إلى الطاقة الذهنية، والتي يملكها سيّد، ولكن إلى الطاقة البدنية أيضًا، وهي تتبدد بطبيعة الحال مع التقدّم في السن، إذ يعاني سيّد، البالغ من العُمر أربعين عامًا، آلامًا مزمنة في قدميه ورُكبتيه، ويتوقع خلال السنوات العشر المقبلة أن يتوقف عن العمل.
رحلة إلى سيّد في العشوائيات
دعاني سيّد أنا وزوجتي ذات مرة لحضور سبوع ابنته حيث يسكن في أرض اللوا، وهي منطقة عشوائية يقطنها عمال النظافة بشكل كبير، وكان ذلك واضحًا بمرورنا عبر أكوام من القمامة بانتظار الفرز والتصنيف قبل أن نصل إلى بيت سيّد؛ أكوام من الزجاجات، وأكوام أخرى من الأقمشة، ثم كومة من البلاستيك المضغوط، وأخرى من بقايا الأطعمة، وهكذا.
بالطوب الأحمر والأسمنت تنتشر الآلاف من المباني بهذا الشكل، وهي التي يسكنها ثُلثا المصريين طبقًا للإحصائيات، ورُغم افتقاد تلك العشوائيات لأي جانب جمالي، إلا أنها تمتلك حياتها الخاصة، وعالمًا شديد الكفء وقابل للاستمرارية، كما قال الباحث ديفيد سيمز، المتخصص في التخطيط العمراني، في كتابه “فهم القاهرة” Understanding Cairo.
قبل أن أدخل إلى بيت سيد، كنت أظن أن الكثير من الأثاث سيكون مستخدمًا ومُجمَّعًا من القمامة، ولكن المفاجأة التي اكتشفتها هي أن منزله، والمكوّن من طابقين، مفروش كله بالأثاث الجديد، فالبقشيش الذي يحصل عليه، والذي يصل لحوالي ثلاثة آلاف جنيه شهريًا، كان كافيًا ليفرش منزله بحوالي مائتي ألف جنيه، ويمتلك تلفازَين، وجهاز كمبيوتر جديد في انتظار ابنه الأكبر زيزو ليستخدمه.
بينما سار احتفال السبوع كما هو معتاد، سألت سيّد ما إذا كان ينوي أن يقوم بختان ابنته كما يفعل كثيرون، فقال أنه سيفعل بالتأكيد، “لو لم نفعل، ستطارد الرجال في الشارع عندما تكبر، فالنساء مجانين،” كذا قال سيّد ببساطة، وهو ربما أمر منطقي بالنسبة له بالنظر للخلافات الشديدة بينه وبين زوجته وهيبة، والتي لم أرها سوى مرة واحدة أثناء السبوع قبل أن تغطي وجهها بالنقاب.
قامت وهيبة بتسجيل المنزل باسمها سرًا مؤخرًا وطردت سيّد، والذي لم يجد سوى جراج خاص لإحدى البنايات في الزمالك لينام فيه، وهي تبتزه كثيرًا لأنها تعرف القراءة والكتابة، وترسل له رسائل تهديد على هاتفه، وهي رسائل يساعده صاحب كشك الحرية أيضًا في قراءتها، في حين يبتزها هو بالمال، إذ امتنع عن الإنفاق على منزله، لتلجأ هي إلى أقاربها.
سيّد: بين الدولة والثورة
في إحدى الأيام، قررت اصطحاب سيد إلى الشهر العقاري لمساعدته على استعادة حقه في منزله، لينتهي بنا الحال في متاهة لساعتين من مكتب لمكتب، ومن طابق لآخر، ندفع الرشاوى هنا وهناك لمن رفضوا المساعدة بشكل واضح ما لم يحصلوا على مقابل لـ”تسريع المسائل”، ومن طلبوها بشكل غير مباشر بالجملة الشهيرة، “عايز شاي”.
لم يكن ذلك غريبًا على سيّد، والذي لم يعرف الدولة المصرية أبدًا كجهة لتقديم الخدمات، وقلما تعامل مع مؤسساتها، فهو أمي لم يذهب لمدرسة، ولا يمتلك وظيفة رسمية، ويعيش في العشوائيات التي بناها أهلها بأيديهم بعيدًا عن نظام الدولة، والمرة الوحيدة التي تعرّض فيها للدولة بشكل مباشر كان أثناء تجنيده، وهي فترة لم تكترث فيها السلطات العسكرية بتعليمه القراءة، ولكن اكتفت بتزويده ببندقية ليقف حارسًا في بورسعيد لثلاث سنوات.
مرارًا، تحاول الدولة أن تخترق عالم الزبالين، فقد قدم نظام مبارك عام 2003 عقودًا رسمية عبر شركات أجنبية مع الواحية والزبالين، ولكن الشركات فشلت في فهم المنظومة المعقدة التي سارت بها شبكات جمع القمامة، كما أن أصحابها بدورهم رفضوا في أحيان كثيرة أن يفشوا أسرار عالمهم الخاص، وهو ما يقوله لي أحمد حسن، مدير المشروعات بشركات “إيه أم إيه أراب” AMA Arab المملوكة لإيطاليا، والتي تحاول التوصل لاتفاق مع الزبالين دون جدوى، “إذا ذهبت لحي الزبالين وطلبت منهم أن يعطوني القمامة لديهم سيصفعوني على وجهي.”
بطبيعة الحال، أصبحت الشركة مجرد طبقة جديدة لا فائدة منها في الشبكة المعقدة، فالحكومة توكل مهمة جمع القمامة رسميًا لها، بينما توكل هي المهام لواحي اسمه أسامة مشمش، والذي يوكلها بالتبعية لأيمن القط، ليقوم سيّد بجمعها له، وبينما تقوم الحكومة بدفع الأموال من أعلى للشركة، فإن سيّد يحصل على الأموال من السكان، بينما يعطي أيمن نصيبه في صورة القمامة التي يريدها، ليبيعها إلى الواحي، والذي لن يحبّذ بالطبع أن تنقسم الأرباح بينه وبين الشركات التي أقحمتها الدولة.
حين قامت الثورة لم يكترث سيّد بكل ما كان دائرًا في التحرير، وهو كأغلب المصريين يسير مع الموجة السياسية الرائجة رُغم عدم اعتماده بأي شكل على الدولة كما يحدث مع شرائح اجتماعية عدة تعمل بالمؤسسات الحكومية أو غيرها، وبل عدم تقديمها لأي خدمات أساسية له، فقد انتخب محمد مرسي عام 2012 في جولة الإعادة بانتخابات الرئاسة، ثم انتخب عبد الفتاح السيسي في انتخابات العام الماضي، غير مبالٍ بأن الأول هو من أزاح الأخير، بل وحبسه أيضًا.
المصدر: نيويوركر