الجيوسياسي والطائفي في الحرب البرية اليمنية

سيكذب عليك الساسة وسيقولون إنها مسألة أمن قومي وربما قالوا بأن خطر ما محدق يهدد وحدتنا الوطنية، إنهم دائمًا يملكون المبررات، إلا أن الحروب غالبًا لا تقوم من أجل الدفاع عن حدودنا من التهديدات الخارجية ولا من أجل إحلال السلام ولا من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية ولا من أجل مستقبل الإنسانية، إنما تقوم من أجل أن يبقى الأسياد أسيادًا والعبيد عبيدًا، إن الحروب كما يقول الفيلسوف بيرتراند راسل “لا تحدد من هو صاحب الحق وإنما تحدد من تبقى في النهاية”، وأنهم مهما أوجدوا لها المبررات فإنها تبقى في أنطولوجيتها لا أخلاقية، يبدأ بها الأغنياء ويموت فيها الفقراء كما يرى سارتر.
هنا في الشرق الأوسط حيث لا صباح ينتظر المساء ولا مساء ينتظر الصباح، تقوم المعارك الطاحنة التي وقودها الناس والرصاص ومآلها اللاجئين والبيوت المهدمة والكثير من المفقودين الذين طوى التاريخ صفحتهم وتاهوا في سراديب المنسي من ذاكرتنا المثقلة بالألم، لا لشيء إلا لأن الناس هنا أرادوا أن يعيشوا بعزة وكرامة، ولم يمض الكثير حتى تحول الربيع الهادئ إلى خريفٍ دامٍ ودارت الأيام دورتها الجديدة يعقبها شتاء قارس من اللجوء وها هو الصيف يعود إلينا محملًا بالحروب والمعارك.
النصر العسكري والهزيمة السياسية
لقد ذاقت الولايات المتحدة الأمرين جراء تدخلاتها العسكرية في الشرق الأوسط عسكريًا وسياسيًا والأهم من ذلك بشريًا، فأي حرب – كما في المثل الألماني – في النهاية تخلف وراءها ثلاثة جيوش: جيش من المشاليل وجيش من المشيعين وجيش من اللصوص، مما جعل أوباما يفكر مليًا قبل التورط عسكريًا في أي بقعة من العالم، لكن المتغيرات اليومية في الشرق الأوسط تأتي بما لا تشتهي الإدارة الأمريكية، فمنذ ظهور داعش وإعلانها إقامة دولتها وتمددها على أراضٍ شاسعة في سوريا والعراق وفشل حفتر المتكرر وصعود الحوثي واندلاع الحروب في كل الجبهات، يبدو أن الولايات المتحدة تفقد سيطرتها يومًا بعد يوم، مما يثبت فشل الحل السياسي على المدى البعيد في مواجه شرق أوسط متقلب بين أيدي اللاعبين؛ الأمر الذي يؤكد ما ذهب إليه فرانز فانون حينما قال “إن أي حرب محلية في أي مكان ستتحول لحرب باردة “، وربما يؤدي هذ الفشل إلى تعزيز وجهة نظر السير ديفيد ريتشاردز رئيس أركان الدفاع السابق والجنرال في القوات البريطانية وقائد في العمليات العسكرية في جنوب أفغانستان في مواجهة طالبان، الذي يرى بأن الإستراتيجية العسكرية بالهجوم غير المباشر أي عبر الضربات الجوية لن تكون ذات فائدة ترجى أمام الدفاع المباشر كالذي تقوم به داعش الذي يرتكز على التحرك الدائم والسيطرة على الأرض، كما أن تراجع داعش في العراق خصوصًا في تكريت أمام القوات العراقية وقوات الحشد الشعبي المدعومة من طيران التحالف وتراجعهم في كوباني أمام البيشمركة في وقت سابق أواخر العام المنصرم يثبت صحة الرأي القائل بأن الحروب ضد الجيوش غير النظامية لا تحطمها الضربات الجوية دون جيش يقاتل ويسيطر على الأرض.
إلا أنه وبالرغم من كل شيء فإن الولايات المتحدة الأمريكية لن تخاطر بجنودها بعد اليوم أو لنقل في القريب العاجل في حروب لم تعد واضحة المعالم، إن مستقبل الحروب التي ستندلع ها هنا يبشر بالحروب الأهلية تحت مظلة الهويات الطائفية والحروب الأيديولوجية والصراع سيحتدم من منطلقات جيوسياسية وقومية.
الآن هنا أو اليمن مرة أخرى
في الوقت الذي باشرت فيه قوات التحالف الذي شكلته المملكة العربية السعودية تحت مسمى عاصفة الحزم قصفها الجوي على مواقع الحوثيين، لم تتورع ميليشيات الحوثي اليمنية عن قصف نجران السعودية، ولم يكف الدبلوماسيين من كلا الطرفين السعودي والإيراني عن تبادل الاتهامات منذ خروج عبد الملك الحوثي من صعدة حتى وصوله إلى حدود عدن.
بالرغم من كون التدخل السعودي في اليمن ليس الأول من نوعه إلا أنه الأقل أخلاقية والأكثر تنمرًا، وبالرغم من تصريح الملك سلمان في القمة العربية التي انعقدت بالقاهرة بأن هدف عاصفة الحزم “هو يمن مستقر وآمن”، إلا أن أهداف هذه الحرب يتجاوز قطعًا مصالح اليمن، فالسبب وراء تدهور الأمور على المستوى اليمني هو الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح الذي قدمت له المملكة الدعم العسكري والمادي الكافي لبعث الفوضى بل وقدمت له المأوى والعلاج إثر فشل محاولة اغتياله، أما الرئيس الانتقالي هادي الذي جاءت به المبادرة الخليجية فقد قطعت المملكة عنه الدعم المالي والسياسي المطلوب للوصول إلى حالة الاستقرار، ثم إن هنالك سؤالًا ملحًا يفرض نفسه وبقوة لماذا تركت السعودية الحوثي حتى وصل إلى عدن ولم توقفه منذ البداية؟ إذًا ثمة أبعاد أخرى لهذه العاصفة غير الوعود بالأمل والوطن الآمن المستقر.
إن الحرب التي تشنها السعودية اليوم على اليمن تأتي بعد وقت قصير جدًا من الوصول إلى إطار اتفاق حول النووي الإيراني؛ الأمر الذي قد يجعل السعوديين الجدد يفكرون مليًا في تغيير سياساتهم الخارجية وتحالفاتهم الإقليمية لمواجهة التمدد الإيراني في المنطقة، أما عن اختيار اليمن فهو يعود لعدة أسباب: أولها الخلاف الجغرافي حول مناطق نجران وعسير وجازان على الحدود اليمنية السعودية والذي انتهى باتفاق الطائف 1934، ثانيًا الهوية الطائفية إذ تمثل السعودية المركز السني المدعوم أيديولوجيًا من الامتداد الوهابي للسلفية في العالم وجماعة عبد الملك الحوثي ذات الجذور الشيعية المدعومة إيرانيًا، ثالثًا أن الميليشيات الحوثية هي الأضعف من حلفاء إيران بل إنها الأقل حظًا من الدعم الإيراني على الصعيد العسكري والمادي.
إلا أن هذه الحملة قد تكللت بالفشل، فالبرغم من تراجع الحوثي إلا أنه لم ينهزم أو يتراجع، بل إنه قام بتوجيه ضربات إلى نجران السعودية أدت لمقتل العشرات، مما يستدعي الجدل القائم حول جدوى الإستراتيجية العسكرية بالقصف الجوي مجددًا إلى الأذهان.
إن الخيارات أمام الملك الجديد وابنه الأمير الشاب تصبح صعبة يومًا بعد يوم، فمصر قد جربت حظها من الحرب في اليمن عشرات الآلاف من الجنود القتلى وفي ظل غياب أي شخصية وطنية جامعة يمكن التعويل عليها لقيادة المعركة على الأرض، وبحكم الهوة السحيقة التي لاتزال تفصل بين السعودية والإخوان المسلمين وممثلهم في اليمن حزب الإصلاح، يبدو أن على السعودية اليوم تحديد خياراتها بدقة حيال التطورات في اليمن والإقليم؛ الأمر الذي قد يجبرها على خوض حروبها بنفسها كما اتخذت قرار إعلانها بنفسها وبشكل مستقل عن أي رضى غربي أو شرقي بالكامل.