ترجمة وتحرير نون بوست
كانت منى السموني تبلغ عشر سنوات من عمرها حينما فقدت منزلها، والديها، وتسعة عشر من أقاربها، بعدما سُحقوا أمام عينيها في واحدة من غارات عملية الرصاص المصبوب الإسرائيلية على غزة في عام 2009، وفي الفيلم الحائز على عدد من الجوائز، تحدثت منى عن تجربتها السابقة بانفصال تام، كانت تبدو كما لو كانت تحكي قصة شخص آخر.
يمكن للمرء أن يخمن فقط ما الذي تفكر فيه الفتاة خلف ذلك الوجه الهادئ، حينما كانت توجه رسالتها لهؤلاء الأطفال الأسعد حظًا قائلة “أطلب من أطفال العالم أن يعتنوا بآبائهم وأمهاتهم، فالناس لا يُقدرون النعم إلا حينما يفقدونها”.
بعد سنوات من ذلك الحادث المحطِّم، ترسم منى بقلق شديد وتعيد رسم الصور التي لازمتها طوال تلك الفترة “بحر من الدماء والأشلاء”، عانت منى من العديد من الكوابيس المتكررة، ونوبات الغضب، وعدم القدرة على التركيز في المدرسة، ولكن بفضل البيئة الأسرية المحبة، والعلاج النفسي المكثف، يبدو أنها بدأت تتعافى تدريجيًا.
إسعاف أولي نفسي مستمر
تشير منظمة اليونيسيف أنه من بين الـ 900 ألف طفل الذين يعيشون في قطاع غزة، يوجد أكثر من 373 ألف طفل بحاجة إلى إسعافات أولية نفسية واجتماعية.
يكافح برنامج غزة للصحة النفسية والذي يدير ثلاث عيادات للطب النفسي في غزة من أجل علاج الأطفال والبالغين على حد سواء، حيث يقول الطبيب ياسر أبو جامع رئيس البرنامج والذي فقد العديد من أقاربه في هجوم الصيف الماضي “لم يكن هناك مكان للآباء والأمهات والأطفال للاختباء، فلا أحد يعرف أين ستسقط القنابل”.
وفقًا للدكتور أبو جامع، فإن الأعراض الأكثر شيوعًا بين الأطفال هي القلق والخوف، حيث أصبح الأطفال يخشون من الانفصال عن والديهم أو فقدانهم، ويقاسون من الكوابيس المتكررة، وغالبًا ما يعانون من التأتأة، كما تشير تقارير المدارس أن الكثير من أطفال غزة يعانون من مستويات مرتفعة من العدوانية، المترافقة مع المستويات المنخفضة من التحصيل العلمي، علمًا أن برنامج غزة للصحة النفسية يعنى بتدريب المعلمين وأولياء الأمور حول الكيفية التي يجب عليهم التعامل فيها مع عدوانية الأطفال.
وحول الوضع في غزة، يقول الدكتور أبو جامع ممازحًا “ما يحصل في غزة هو شكل من أشكال اضطراب ما بعد الصدمة المستمر، وبالأحرى لا يمكننا أن نسمي الوضع باضطراب ما “بعد” الصدمة، لأن الصدمة لم تنته وماتزال مستمرة، وظروف ما وراء الحرمان من الحياة اليومية في غزة – ظروف السكن المكتظة بشدة، وعدم كفاية الطعام، وإمدادات المياه الملوثة، والمدارس المتضررة بشدة- هي في سياقها الواسع هجمات مستمرة وجارية وغير متوقعة”.
استيعاب الإستراتيجية الإسرائيلية
الفيلم الذي تظهر فيه منى السموني هو بعنوان “أين يجب أن تطير الطيور”، ويورد الفيلم دلائلًا عن كذب ادعاءات إسرائيل بأن هجماتها على غزة تأتي في سياق الانتقام البحت، حيث يتعرض الفيلم للمضايقات التي يعاني منها المزارعون الذين يحاولون قطف محاصيلهم، والمضايقات التي يتعرض لها الصياديون في محاولتهم لكسب لقمة عيشهم من مياه البحر الملوثة الواسعة وهو المكان الذي من المفترض أن يتم السماح لهم فيه بمد شباكهم، ويوضح الفيلم أنه لولا وجود المراقبين الدوليين، لارتفعت التكاليف الجسدية الناجمة عن مثل هذه الهجمات بدون أدنى شك.
ولكن في سعينا لفهم الإجراءات الوحشية التي ينتهجها الكيان الصهيوني، والتي يظنها البعض عشوائية، علينا أن نتذكر الشعار الرئيسي لحملة بيل كلينتون في الانتخابات “إنه الاقتصاد، يا غبي!”، حيث يكشف الفيلم الإسرائيلي بعنوان المختبر (The Lab) خفايا صناعة الأسلحة الإسرائيلية، وهي صناعة تقدر وارداتها بمليارات الدولارات وتعتبر أحد أهم روافد الدخل الإسرائيلي والعمود الفقري للاقتصاد الإسرائيلي، وكما يشير عنوان الفيلم، غزة هي المكان الذي يتم ضمنه اختبار فعالية الأسلحة الفائقة والمتطورة الإسرائيلية، وهي المكان الذي يتم فيه تقييم وإثبات الإستراتيجيات العسكرية الجديدة أمام العالم.
يظهر في الفيلم وزير الصناعة الإسرائيلي بنيامين بن أليعازر، ويوضح كيف أن إسرائيل تمتلك ميزة إضافية هامة تتفوق فيها على منافسيها في هذا المجال، حيث يقول “الناس يرغبون شراء الأشياء التي تم اختبارها، فإذا باعت إسرائيل أسلحة، فإنها تبيع أسلحة تم اختبارها وتجربتها”.
أما التصريح الأفظع والذي تقشعر له الأبدان، فهو تصريح عميرام ليفين -الجنرال السابق وتاجر السلاح الحالي – في الفيلم، حيث يوضح ليفين دور الشعب الفلسطيني بقوله “عليك أن تفهم، معظم هؤلاء الناس في غزة ولدوا لكي يموتوا، ونحن علينا فقط أن نساعدهم”.
من الواضح لأي متابع أن إسرائيل شنت هجمات عنيفة بشكل مطرد ومتزايد على قطاع غزة كل عامين منذ عام 2008، وترافقت هذه الهجمات مع ارتفاع مبيعات الأسلحة الإسرائيلية حتى ناطحت عنان السماء، ولكن هل يعني هذا أن سكان غزة عليهم توقع اعتداء شامل جديد في كل مرة يتم فيها صناعة أسلحة إسرائيلية جديدة بحاجة للتجربة، وذلك بغض النظر عن الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق المدنيين؟
يؤكد تقرير أصدرته مؤخرًا منظمة كسر الصمت – وهي منظمة إسرائيلية تفضح ممارسات جيش الاحتلال الإسرائيلي – أنه يتم حاليًا تعليم عناصر الجيش الإسرائيلي لازدراء القواعد المقبولة في الصراعات المسلحة، حيث يشير التقرير أنه تم إعطاء أوامر للجنود الصيف الماضي لإطلاق النار وقصف أي شيء يقع داخل نطاق نيرانهم – علمًا أن نطاق الدبابة المدمر هو حوالي الكيلومترين -، وعندما تشكك بعض الجنود من هذه الأوامر قيل لهم “لا يوجد مدنيين أبرياء”، لذا، لا عجب أن حصلية الشهداء المدنيين للهجوم الإسرائيلي الأخير على غزة كانت مرتفعًا إلى حد كبير، وتضمنت الحصيلة أيضًا ما لا يقل عن 537 طفلًا.
مستقبل ضبابي
ولكن ماذا لو كان الأطفال الفلسطينيون – سواء أطفال غزة أو أطفال الضفة الغربية – عبارة عن موضوعات غير مصرح بها لتجربة أخرى على المدى الطويل؟ تجربة مختصة بالهندسة الاجتماعية والنفسية؟
على الرغم من أن أطفال الضفة الغربية لا يعانون من ذات الصدمات التي يعاني منها أطفال غزة، ولكن عندما يتم إذلال والديك من قِبل الجنود، ويتم الاعتداء عليهم من قِبل المستوطنين أمام عينيك مباشرة، أو عندما تبيت متوجسًا من اجتياح عنيف من قِبل الرجال المدججين بالسلاح في منتصف الليل، فما هي الآثار النفسية التي يمكن أن تنجم عن هذه الظروف على المدى الطويل؟
يدرك أغلب الأخصائيين النفسيين الإسرائيليين أن مشاهدة العنف والإذلال أو التعرض لهما مع العجز عن المقاومة، يولّد غضبًا وإحباطًا ورغبة في الانتقام، ولكن هل هذا ما تسعى إليه إسرائيل؟ هل تأمل بتأسيس جيل من الشباب المحتقن الذي سيعمد – جزء منه على الأقل – إلى ارتكاب أعمال يائسة بهدف الانتقام؟
في الحقيقة يمكننا أن نلمس المنطق الإسرائيلي خلف هذه الإستراتيجية، فإسرائيل تتعمد الدفع باتجاه إثارة نوع من رد الفعل العنيف وغير الفعال بذات الوقت، كون هذه الممارسات يمكن استغلالها لتبرير مظاهر القوة العسكرية، وممارسات مصادرة الأراضي الفلسطينية المستمرة.
أخيرًا، يلمح المختص النفسي الفلسطيني البريطاني وسيم السراج إلى الطقوس المستمرة للمحافظة على سير الحياة اليومية في قطاع غزة والنجاة من بؤس الواقع بشكل أو بآخر، حيث يقول “هناك ضحكات وسعادة وجمال وسط هذه المعاناة الراسخة والعميقة، السكان هنا محصنون من خلال شعورهم الراسخ بهويتهم، والتواجد الأسري الدائم والحميمي، ومعرفتهم أن القانون الدولي والعدالة الطبيعية يقفان إلى جانبهم، ولكن الخوف، كل الخوف، يتمثل في أن يتم وضع الصمود الأسطوري لغزة مرة أخرى على المحك عاجلًا وليس آجلًا”.
المصدر: ميدل إيست آي