لم تعد هناك انتخابات برلمانية تثير اهتمامي في السنوات الأخيرة مثل الانتخابات البريطانية والتركية. كلاهما تتعلقان بدول عتيقة، عميقة الجذور، ذات ميراث إمبراطوري كبير، إحداهما هي الديمقراطية الأقدم في العالم، والثانية هي الديمقراطية الأهم في المشرق. وبالرغم من أن اللعبة الديمقراطية تبدو أحيانا شأنا متكررا، تخلو من المفاجأة، فإن عملية انتقال السلطة، أو استمرارها، في كلا الدولتين تدعو دائما إلى التفكير والتأمل.
لم يعد ثمة جدل في أوساط دارسي الدولة الحديثة ومآلاتها أن العملية الديمقراطية لا توفر حلا لمسألة الدولة، وإن كانت الوسيلة الوحيدة المتاحة للمجتمع الإنساني اليوم لعقلنة الدولة الحديثة ولجم سلطاتها الهائلة. هناك، بالطبع، انتخابات برلمانية تركية قادمة في السابع من حزيران/ يونيو المقبل، قد يكون لها أثر كبير على مستقبل الجمهورية ونظام حكمها، سيما إن وفرت لحزب العدالة والتنمية الحاكم فرصة الحكم لفترة جديدة بأغلبية كبيرة، تتيح له وضع دستور جديد للبلاد. ولكن المهم الآن هو النتائج التي جاءت بها الانتخابات البريطانية التي عقدت يوم الخميس الماضي، 7 أيار/ مايو.
بخلاف كل التوقعات، بما في ذلك تلك التي أعلنتها كبار شركات استطلاع الرأي وأكثرها رسوخا، أعادت الانتخابات البريطانية حزب المحافظين إلى الحكم، ولكن بأغلبية كافية للحكم منفردا، وليس في تحالف مع حزب أو أكثر من صغار الأحزاب كما كان عليه الحال عقب انتخابات 2010.
كل استطلاعات الرأي تقريبا، بما في ذلك تلك التي أعلنت قبل يومين فقط من يوم الانتخابات، توقعت منافسة محتدمة بين الحزبين الكبيرين، حزبي المحافظين والعمال، واستحالة أن يستطيع أيهما الحكم بصورة منفردة، كما أن العديد من دارسي السياسة البريطانية بدأ بالحديث عن نهاية حقبة الحزب الواحد في بريطانيا.
ما ظهر في نهاية ليلة طويلة من إعلان النتائج الفعلية أن الشعب البريطاني وضع ثقته في حزب المحافظين، ومنحه أغلبية كافية، وإن كانت صغيرة نسبيا، للحكم منفردا، موقعا هزيمة قاسية بحزب العمال المنافس، وهزيمة ساحقة بالحزب الثالث، الليبرالي ـ الديمقراطي، وقاضيا على آمال الحزب اليميني العنصري الجديد، استقلال المملكة المتحدة. ثمة عدد من الدلائل التي تحملها هذه النتائج المدهشة للانتخابات البريطانية.
أول هذه الدلائل يتعلق بالسياسة كعلم، وهذا ما توصف به السياسة فعلا باعتبارها أحد الحقول البارزة للعلوم الاجتماعية. ولكن، وبالرغم من أن دراسة العلوم الاجتماعية بصفة عامة، والسياسة على وجه الخصوص، أصبحت أكثر انضباطا، وتخضع لنظريات وقواعد هي بذاتها محل امتحان نظري وواقعي مستمر، إلا أن السياسة ليست علما صارما.
وهذا ما يغيب أحيانا عن المهتمين أو الممارسين للعمل السياسي. بانتشار طرائق استطلاع الرأي في دول العالم المختلفة، بعد ابتكارها في الولايات المتحدة كإحدى وسائل التسويق الرأسمالي، ودخولها من ثم الساحة السياسية، تصور كثيرون أن من الممكن فعلا قراءة توجهات الشعوب السياسية بصورة حسابية دقيقة، أو التنبؤ بهذه التوجهات.
ولكن الحقيقة، أنه حتى في المجتمعات الغربية المستقرة، حيث تتراكم التقاليد السياسية بصورة متصلة وبلا انقطاع، وحيث يتوفر للنشطين السياسيين وعموم المواطنين قدر كبير من المعلومات، لم يعد من المفاجئ أن تأتي النتائج الفعلية للانتخابات أو الاستفتاءات بغير ما توقعته استطلاعات الرأي، بما في ذلك تلك التي تقوم بها شركات ومؤسسات كبيرة وذات سجل طويل.
الموقف السياسي، في النهاية، موقف إنساني، لا تقرره المؤثرات المتفاوتة بين الطبقات الاجتماعية لأرقام الاقتصاد، وحسب، بل والعواطف الإنسانية البحتة، والطموحات الخفية والظاهرة بالمستقبل، والمزاج العام للحظة سياسية معينة، كذلك.
وتتعلق الدلالة الثانية للانتخابات بمسألة الهوية القومية وما يمكن أن تتركه من أثر بعيد المدى على بنية السياسة البريطانية. فالمعروف منذ عقود أن حزب العمال البريطاني يتمتع بقوة كبيرة في إسكتلندا وفي المقاطعات والمدن الإنكليزية الصناعية، كما بين أبناء الأقليات. تحوز إسكتلندا على 59 مقعدا من مقاعد البرلمان البريطاني البالغة 650 مقعدا، وقد استطاع حزب العمال خلال العقود القليلة الماضية الحفاظ على متوسط مقاعد يدور حول أربعين من مجموع المقاعد الاسكتلندية.
وبالنظر إلى أن نصيب حزب المحافظين من مقاعد الدوائر الإنكليزية يفوق عادة تلك التي يحوزها حزب العمال، حتى في الانتخابات التي فاز فيها الأخير بأغلبية برلمانية، فإن حفاظ العمال على نصيبهم الكبير من المقاعد الاسكتلندية يعتبر إحدى ركائز أية استراتيجية فوز انتخابي للحزب.
ولكن إسكتلندا تعيش مناخا من الإحياء القومي منذ سنوات، وبالرغم من القوميين الاسكتلنديين خسروا استفتاء شعبيا من أجل الاستقلال عن المملكة المتحدة قبل شهور، إلا أن الفارق بين أصوات مؤيدي الاستقلال ومعارضيه كانت ضئيلة نسبيا.
في انتخابات الأسبوع الماضي، اكتسح الحزب القومي كل مقاعد إسكتلندا، ما عدا ثلاثة فقط، ذهب واحد منها لكل من الأحزاب البريطانية الرئيسية الثلاثة. بمعنى، أن حزب العمال تلقى هزيمة ساحقة في إسكتلندا، وخسر بالتالي إحدى ركائز فوزه البرلماني التقليدية. المفارقة، أن حزب العمال، الذي اعتبر دائما الأقرب إلى قيم العدالة والتضامن للمجتمع الاسكتلندي، أصبح ضحية تصاعد الروح القومية الاسكتلندية.
أما الدلالة الثالثة، فتتصل بوضع العرب والمسلمين في المجتمع البريطاني وتوجهاتهم السياسية، وهؤلاء كما هو معروف، ليسوا بكتلة صغيرة، بأي حال من الأحوال، وبإمكانهم إن ذهبوا لصناديق الاقتراع بمعدلات مشابهة للمعدل القومي، أن يقرروا مصير عشرات من المقاعد في مختلف أنحاء البلاد. ولكن الصوت المسلم البريطاني يكاد أن يكون صوتا عماليا مضمونا، حتى عندما تتبنى الحكومات العمالية سياسات لا تتفق وتوجه أغلبية المسلمين، كما كان عليه الحال في النصف الثاني من عهد توني بلير.
مثل أغلب أبناء الأقليات، يجد المسلمون أن سياسات حزب العمال الداخلية أقرب لهم، وأن صفوف الحزب مفتوحة لأبنائهم، سواء كنشطاء سياسيين أو حتى كمرشحين لمقاعد برلمانية. ولم يكن غريبا، على سبيل المثال، أن مسلما كان من قاد حملة إد ميليباند عندما خاض الأخير معركة رئاسة حزب العمال قبل خمس سنوات. ثمة وجود إسلامي بالطبع في صفوف الحزب الليبرالي، ويبذل الحزب، بين وقت وآخر، بعض الجهود للحصول على تأييد الصوت الإسلامي.
أما في حزب المحافظين، الأكثر أهمية ونفوذا، الذي قاد الحكومة البريطانية لفترات تفوق حزب العمال منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، فوجود المسلمين قليل، وأثرهم لا يكاد يذكر، وليس ثمة توجه ملموس لدى الحزب للمنافسة على صوت أبناء الأقليات، بما في ذلك المسلمون. الصورة السائدة للمحافظين أن هذا هو حزب الأرستقراطية الإنكليزية والشرائح العليا للطبقة الوسطى، حزب من يعتقدون أنهم من يملكون بريطانيا وأنهم أصحاب الحق الحصري في تقرير مصيرها. بكلمة أخرى، تجنبت أغلبية المسلمين حزب المحافظين، وقام الحزب بدوره بتجنبهم.
اليوم، ثمة نظريتان تتعلقان بمستقل حزبي المحافظين والعمال. تقول الأولى إن المحافظين يعانون انحدارا مستمرا في نصيبهم من أصوات الناخبين منذ ثلاثينات القرن الماضي، وأن فوزهم الأخير جاء بأقل نصيب من أصوات الناخبين في تاريخ الانتخابات البريطانية منذ منتصف القرن التاسع عشر.
هذا، كما يقول اليساري جون روس إن فوزا تكتيكيا لن يغير شيئا في مسيرة انحدار الحزب، وإن حزب العمال قادر بالتالي على الفوز من جديد حتى بدون مقاعد إسكتلندا.
من جهة أخرى، تقول نظرية مقابلة إن استمرار مناخ الإحياء القومي في إسكتلندا يعني أن العمال لن يستطيعوا بعد اليوم الحصول على أي عدد معتبر من المقاعد الاسكتلندية، ولن يستطيعوا العودة للحكم منفردين مطلقا، لأن حصول العمال على أغلبية مقاعد إنكلترا ليس ممكنا.
إن صدقت النظرية الثانية، والسياسة كما أشرت أعلاه ليست علما يقينيا، فربما، بات من الضروري إعادة النظر في خيارات المسلمين البريطانيين السياسية، وبذل جهود أكبر للتواجد في، والتأثير على حزب المحافظين.