ونفس الشـــريف لهــا غايتــان ورود المنايـــا ونيـــل المنــى
ومـا العيش? لا عشـت إن لـم أكـن مخــوف الجنــاب حـرام الحـمى
ســأحمل روحــي عـلى راحـتي وألقــي بهـا فـي مهـاوي الـردى
فإمــا حيــاة تســر الصــديق وإمــا ممــات يغيــظ العــدى
قصيدة “رثاء الفلسطيني” للشاعر الفلسطيني : عبدالرحيم محمود.
فيلم “الزمن الباقي” “The Time That Remains ” ، سيرة الحاضر الغائب ، فيلم لـ”إيليا سليمان” إنتاج 2010 ،هو فيلم يصوّر حياة “إيليا سليمان” نفسه منذ مولده في عام النكبة 1948 على مدار ستين عاماً ، يعرض فيه “سليمان” التضافر بين الهوية الفردية والواقع الإجتماعي ،والتناقض بين الإحتجاج والتعايش ،كما يعرض بقوة إستراتيجيات حيوية البقاء.
“إيليا سليمان” الكاتب والمخرج والمُمثل في في فيلمه ،يتجه نحو إبقاء قدميه مغروستين في أرض الواقع فيما مخيلته تلامس السقف السريالي دون أن يتمسك به ،فهو لم يحاول جني المكاسب عبر السخرية أو البرود العاطفي من خلال لعبته السينمائية ،لم يستغل كاميرته في الشئون السياسية والأخلاقية ،فالتصنيف و دوره المهم في القضية الفلسطينية وأحقية الأرض كلها لم تؤرق بال ” سليمان” من خلال تصويره لأفلامه التي اعتبرها البعض “ثلاثية” ،بل كانت الأهم هى قضية البشر ، تلك القضية التي يتناساها الجميع ، البشر من يهمونه حقاً.
المتعة الرخيصة للإشفاق على الذات لم تكن موجودة ،المشاعر هي من سُلِّط عليها الأضواء ،تم الإعلاء من شأنها والسخرية منها في الوقت ذاته ،ولكنه لم يقلل من إحترام وتقدير إنسانية الطرف الآخر للنزاع.
لـ”سليمان” ثلاثة أفلام ،هي “يد إلهية” ،”سجل اختفاء” و”الزمن الباقي” ،قام بكتابتها وإخراجها ،يعتبرها البعض ثلاثية ،يُعَبر فيها “سليمان” عن الواقع الفلسطيني ، حيث تدور الأحداث من نفس الأمكنة تقريباً ،المنزل،الحارة، السيارة..إلخ.
يبدأ الفيلم بسيارة تسير في الظلام ،تحمل كلاً من “إيليا سليمان” و سائق التاكسي الإسرائيلي ،الجو ممطر ،الرعد والبرق على أشدهما ، “سليمان” -الصامت في جميع مشاهد الفيلم – ينظر للسائق بعيون حائرة ،يتحدث السائق لأحد زملائه في الهاتف يُخبره بأنه قد ضلَّ الطريق ، “سليمان” يبدو كأنه هو الآخر لا يعرف الطريق ، تتجه السيارة إلى طريق مجهول في الظلمات ،حاملة كلٍ من الطرفين “المتنازعين” إلى وجهة لا يعلمها كلاهما.. وهو المشهد الذي إنتهى به الفيلم أيضاً.
تبدأ الأحداث بسخرية من التاريخ ، مشهد توقيع وثيقة الإستسلام بين الفلسطينين والإسرائيليين في بلدية “الناصرة” في 17/7/1948،المشهد الذي أسماه البعض بـ” العربي الأبله” ،هناك على الطرف الأول رجل دين مسيحي ورجل دين إسلامي ورئيس البلدية الذي يهرع إلى مكان الإجتماع كلُّ ما يُقلقه هو تأمين حياته ،لذلك يرفع مُرافِقه راية العلم البيضاء من خارج نافذة السيارة مُلَوِحاً بها لأحد الطائرات التي كانت تتبعهم ،وعلى الطرف الآخر الإسرائيلي ،عسكريون ببزاتهم الخشنة يعيشون وهماً صنعته مخيلاتهم ويريدون تسجيله في وثيقة تاريخية ،وَهم “الإنتصار” ، كما لو كانوا خاضوا حرباً ضد جيش يضارعهم القوة والبأس ، وحان وقت إستسلامهم وتوقيع ذلك في الوثيقة ، وبعد التوقيع يطلب الإسرائيلي منه صورة تذكارية بتلك المناسبة ،لينهض من على كرسيه في إستسلام ويتوسطهم في الصورة التي سجلت سقوط “الناصرة”.
التناقض بين الاحتجاج والتعايش:
يعتمد الفيلم على الأسلوب الحداثي ،حيث أنَّ الفيلم قائمٌ على التأمل العقلي ،رغم البناء الذي لا يمكن اعتباره بناءً تقليدياً على أي مستوى ،إنه بناءٌ يتنقل بين الأزمنة انتقالات واضحة ومحسوبة عبر فترات زمنية محددة ،دون أن يقفز فيما بينها أو يجعلها تتداخل بشكل يمنع المشاهد من التفرقة بين الماضي والحاضر.
تدور الأحداث في حياة “فؤاد” وهو والد “إيليا سليمان” ،وتُصوّر مقاومته ضد قوات الاحتلال في نكبة 1948 ،وخسارته لمحبوبته التي هجرت “فلسطين” بسبب النكبة ، أبرع “سليمان” في تصوير مشهد له عندما اعتقلته القوات الإسرائيلية ،وضرب الجنود بكعوب أسلحتهم وأرجلهم ،وفي نهاية المشهد حملوه وألقوا به من فوق سور ،ليترك “سليمان” مخيلة المُشاهد تُقرر ما إن بقىَ “فؤاد” على قيد الحياة أم لا ،والأهم هو ما توقفت عنده الكاميرا للحظات ،فبعد أن رمى الجنود “فؤاد” تراءى للعين وللكاميرا مشهد يُصوّر فلسطين كاملة ، المشهد الذي أطلق عليه البعض مشهد “الأرض”.
إن وجود المؤلف صاحب النص والرؤية “إيليا سليمان” ،يرتبط إرتباطاً وثيقاً بفكرة استدعاء الفكرة ،وتصفية الحسابات مع الماضي ،في محاولة لفهم ما حدث وكيف كان ممكناً أن نصل إلى ما وصلنا إليه.
يتبع “سليمان” في فيلمه أسلوباً حداثياً “modernist” في تصوير ما يمكن وقوعه في الواقع ولكن مع بعض المبالغة ،مثل مشهد الدبابة الضخمة التي تتابع شاباً فلسطينياً يخرج من بيته لإلقاء كيس القمامة ،ربما كان التناقض بين الدبابة الضخمة ذات المدفع الطويل والشاب الضئيل الذي يحمل كيس القمامة التافه الشأن مثاراً للسخرية وربما الضحك ، ولكن هذا المشهد ليس فقط قابلاً للحدوث، بل إن مشاهدة هذا النوع من المَشَاهد قد إعتدنا عليه في متابعة أخبار الإجتياح الإسرائيلي لغزة ،الدبابة التي تتابع الفلسطيني ،كما كانت في المشهد تُتابع الرجل ذهاباً وإياباً حتى دخل منزله غير عابئٍ بها ، في الواقع ، ينتهي المشهد على الأغلب بنهاية دموية.
يقول “إيليا سليمان” في أحد المقابلات الخاصة بجريدة النهار: نعم أنا أتجه إلى الواقعية المفرطة.
الواقعية المفرطة ” Hyperrealism ” والحقيقة ،هما ما أتسم به في أفلامي ، إن أفلامي تعكس وتُضَخّم الواقع ،لا أتكلم عن الشارع الفلسطيني ربما ،لكن أتكلم عن الشارع النصراوي ،إنه تأليف سينيمائي ،كل تابلو له مزاجه واستقلاليته وإيقاعه.
أنا أرسم الواقع بطريقة مختلفة ،أن تحشر “بورنوغرافيا” العنف في فيلم لا يُغيّر شيئاً من معادلة الصراع ،ليست مهمتي أن أتحدث عن عنف الإسرائيلي ضد الفلسطيني ، هو بحد ذاته العنف ،لكنه العنف المُعاش في هامش شخص ،أنا لست مخرج أفلام وثائقية ،ولا أحبذ أن أكون مونولجياً ،هذا ما أسميه “Potential Moment of Truth” ” لحظة الحقيقة المرتقبة ” ،التابلو عندي هو شاعري وليس واقعي.
لا يُقدم الفيلم أي نظرة “نوستالجية” ،أي تعكس الحنين إلى ذلك الماضي ،بل الهدف من تقديم الماضي هنا هو فهم الوضع الذي وصلنا إليه في الحاضر ،وليس التطلع بحنين إلى ما كنا عليه ،بل التأكيد على استمرارية الدوران الجهنمي لعجلة التاريخ في اتجاه تكديس الظلم ،وفقدان القدرة على مواجهته بالقرارات والشِّعَارات الفارغة طوال الوقت.
يقول “سليمان” عن مشهد في الفيلم:
مشهد سرقة الجنود لأغراض البيت في الفيلم لم يأت من فراغ ،بل من حكاية امرأة كانت قادمة للتو من شهر العسل في بيروت ،وجَدتْ فور وصولها جنوداً إسرائيليين وهم ينتهكون حُرمة أشيائها ،ويسرقون بيتها ،اليوم عمرها 75 عاماً ولا تزال تبكي كُلّما تذكرت الحادثة ،أرَتني ثقوب الرصاصات التي أطلقها الجنود وقت ذاك لتخويف زوجها ومنعه من مقاومتهم ،كان الحدث تاريخياً ،وانتقمت للمرأة في ذاك المشهد الذي ظهر فيه الجنود وقد سرقوا من البيت جهاز تشغيل الموسيقى الكلاسيكي ذو البوق النحاسي ،وقد صدرت منه أنغام “ليلى مراد” وهم يتابعون سرقة البيت على أنغام “أنا قلبي دليلي” ،العنف في تلك اللحظة هو نوع من الغضب ،البُعد الفني يلعب دوراً في تحفيز مخيلة المُتَفرِج.
صورة أحد المشاهد المهمة في الفيلم والتي كررها “سليمان” مرتين بين أحداث الفيلم ،مشهد المُعلم الذي يؤنّب “إيليا” نفسه وقت صغره في المدرسة قائلاً: مين قالك إن أمريكا إمبريالية !.. بتعرف إن هاد الحكي ماينحكاش بالصف.
الصورة التي نزلت على خلفية إعلانات الفيلم في مهرجان “كان السينمائي” الـ 62 حاملة إسم الفيلم بالإنجليزية “The Time That Remains ” .
يقول “سليمان”: التاريخ يُبرهن أن العمل الفني الذي يستهلك الحدث التاريخي يضمحل ،لا تتوقع أفلامي في الهوية ،بل في التجربة الإنسانية ،يكون السيناريو منطوقاً في البداية ،ولكنني أعمل على تكثيف الحوارات واختزالها لإعطاء الصورة الأهمية الكبرى ،بما يجعلها ضخمة ومفتوحة الدلالات.
هل السخرية الصامتة تحقق العدالة؟ ،لا ولكن هي باب للحرية ،على الأقل الحرية الشخصية ، لقد راهن “سليمان” على شيءٍ واحدٍ فقط في فيلمه ،وهو المأزق الوجودي في كوننا بشر.
يقول “سليمان” :لا تنس أن الصمت هو نوع من اللاتوازن واللااستقرار ،هو يدعم القوة ،كما يرسم فراغات أمام المُشاهد طالباً منه أن يملأها ،نعيش أغلب الوقت في صمت مُتأمّل ،حتى الصمت مُسَيّس ،لكن بالطبع فيه احتجاج وفيه حزن.
“الوطن بشيكل .. وكل العرب ببلاش”..
ينادي الصبي بائع الجرائد في أحد مشاهد الفيلم.
“أعطيني الوطن”. يقول “فؤاد” والد “إليا”.
يرد عليه الصبي بعد بحثه وسط الجرائد : بَطَّل في “وطن”.. بس في “عَرَب”.. وكل العرب ببلاش..كل العرب ببلاش.!