ترجمة من الفرنسية وتحرير نون بوست
هل تستطيع الولايات المتحدة المحافظة على موقعها كقوة أولى عالميًا؟ يعتقد الكثير من الملاحظين أن الصين في نهاية المطاف ستحتل هذه المرتبة، بالنظر لحجمها الجغرافي والديمغرافي، والنمو الاقتصادي والعسكري والاجتماعي الذي حققته، لكن رغم ذلك يبقى أمام هذا العملاق الأسيوي الكثير ليحققه للتفوق على الولايات المتحدة؛ فالصين لازالت تعاني من انتشار الفقر، إذ إن دخل الفرد فيها يعادل ما يحصل عليه المواطن في دول نامية مثل البيرو والمالديف.
عندما يتولى الكونغرس عرقلة الأمور
إن لم تأخذ الصين مرتبة الصدارة العالمية فمن سيأخذها؟ هذا هو السؤال القائم الآن، فالهيمنة الأمريكية على العالم أصبحت مهددة، بسبب صراعات سياسية مزمنة تهدد قيادتها للعالم.
وهذه بعض الأمثلة التي تبين بوضوح هذه الظاهرة: إحدى أكبر المشكلات التي دلت على فشل النظام الداخلي الأمريكي، هي مشكلة صندوق النقد الدولي، هذه المؤسسة التي تتعرض لانتقادات شديدة من قِبل الجميع في العالم، رغم أن وجودها ضروري جدًا، ويتمثل التحدي الأكبر في تطوير هذا الصندوق بدلاً من الاستغناء عنه، وهو ما شرعت الولايات المتحدة في القيام به منذ سنة 2010 عبر إطلاقها لسلسلة من الإصلاحات الهادفة لتحسين هذه المؤسسة، للاستجابة لمتطلبات القرن الواحد والعشرين.
ومن بين هذه التغييرات المنتظرة اقتراح أوباما القاضي برفع مساهمة الصين في صندوق النقد الدولي من 3.8 بالمائة إلى 6 بالمائة، ولكن هذه الزيادة لا تتماشى مع حجم النمو الاقتصادي الصيني الذي سيصبح قريبًا الأكبر عالميًا من حيث الحجم، وحتى عندما تصل مساهمة الصين إلى 6 بالمائة، فإن هذه النسبة ستبقى ضئيلة مقارنة بمساهمة الولايات المتحدة التي تبلغ 16.5 بالمائة.
كما أن هذه الإصلاحات المقترحة كانت ستفتح الباب أمام منح دور أكبر للدول الصاعدة، التي تمثل نصف الاقتصاد العالمي، وهذه كلها عوامل كانت ستغير تركيبة هذه المؤسسة المالية العالمية التي لايزال نظامها الداخلي المتآكل يعكس النظام العالمي الذي كان قائمًا في سنة 1944.
وقد حظيت هذه المقترحات بموافقة جميع الدول، ولم تبق سوى موافقة الكونغرس الأمريكي عليها لتصبح نافذة، ولكن استغرقت هذه المسألة خمس سنوات من التأجيل والتعطيل بسبب جيب هنسارلنغ، عضو الكونغرس المنتخب عن الدائرة الخامسة بتكساس، والذي يرأس اللجنة المكلفة بالنظر في هذه الإصلاحات، حيث إن هذا النائب وحلفاءه في حزب “الشاي” لا يحبون البنك الدولي.
هكذا يمكن لمجموعة صغيرة من النواب تعطيل إصلاحات أكثر من ضرورية للولايات المتحدة ودول العالم، ليصبح توزيع رأس المال في صندوق النقد الدولي أكثر عدالة، ولضمان استمرارية هذه المؤسسة التي تلعب دورًا حيويًا في الاقتصاد العالمي.
وكنتيجة لهذا التعطيل المتعمد، قررت الصين بعد خمس سنوات من الانتظار، الأخذ بزمام المبادرة وإنشاء مؤسسة مالية تابعة لها في سنة 2014، هي البنك الأسيوي للاستثمار والتنمية (AIIB) وقد دعت الصين كل دول العالم للمشاركة في رأس مال هذا البنك الذي يوازي في قيمته وأهدافه صندوق النقد الدولي؛ ما دفع بواشنطن لشن حملة دبلوماسية شرسة لإثناء الدول عن دعم هذه المبادرة، ولكن هذه المساعي فشلت، فحتى حلفاؤها التاريخيون مثل المملكة المتحدة وأستراليا قرروا المشاركة في إنشاء هذا البنك بالإضافة إلى عدة دول أوروبية، فقد فضلت هذه الدول تجاهل الضغوطات الأمريكية والانضمام للسبعة وخمسين دولة المؤسسة للبنك الأسيوي للاستثمار والتنمية، والآن لم يبق أمام واشنطن سوى الاكتفاء بمشاهدة التطورات التي ستعرفها هذه المؤسسة المالية الجديدة، دون أن تكون لها كلمة فيها.
الإدارة الأمريكية بيروقراطية وتفتقد للكفاءة
كما توجد مؤسسة أخرى ذات سمعة تعكس النفوذ الاقتصادي الأمريكي في العالم، وهي الأكزيم بنك (Eximbank)، البنك الأمريكي المتخصص في تمويل الصادرات، ولكن اليوم تهدد مجموعة من أعضاء الكونغرس بغلق هذا البنك، رغم أن كل الدول الكبرى المصدرة تمتلك مؤسسات مماثلة تدعم صادرتها، ورغم أن الصين قدمت للولايات المتحدة خلال السنتين الأخيرتين قروض للتصدير بقيمة 670 مليار دولارًا، بينما قدم الإكزيم بنك 570 مليار دولارًا منذ سنة 1934، وهي السنة التي تأسس فيها على يد الرئيس فرنكلين روزفلت.
أحيانًا تعطي هذه القضايا، التي تمر دون أن تحظى باهتمام الرأي العام، فكرة واضحة عن المستقبل، فمنذ سنة 1959، كان البنك القارّي الأمريكي للتنمية أهم الأطراف المانحة في أمريكا اللاتينية، وفي الفترة الأخيرة قرر هذا البنك تعزيز قدرته على دعم القطاع الخاص في هذه المنطقة، ورفع رأسماله بمقدار 2 مليار دولار لتحقيق هذا الهدف، ونجح في ذلك رغم رفض الولايات المتحدة المساهمة في هذه الخطوة.
وللمحافظة على سيطرتها على هذا البنك، أصبح على واشنطن التي كانت تعد أهم شريك فيه، أن تقدم 39 مليون دولارًا سنويًا على امتداد سبع سنوات، في المقابل عبّرت كل الدول الأخرى المساهمة في هذا البنك عن رغبتها في المشاركة في هذه الخطوة.
لقد أدى التعصب الأيديولوجي للكونغرس وانعدام الكفاءة الإدارية في وزارة المالية الأمريكية إلى حرمان الولايات المتحدة من أداة هامة للتأثير في سياسات أمريكا الجنوبية، التي تعتبر حسب تأكيدات المسؤولين الأمريكيين “أولوية مطلقة للبيت الأبيض”.
في شهر أبريل الماضي، كتب لاري سومرز، رجل الاقتصاد المعروف، والذي شغل مناصب هامة في الإدارة الأمريكية، قائلاً: “مادام أحد الأحزاب الكبرى يمارس عرقلة ممنهجة ضد كل اتفاق للتبادل الحر مع دولة أخرى، والحزب الآخر يمتنع عن تمويل المؤسسات الدولية، فإن الولايات المتحدة في المستقبل لن تكون في وارد مسك زمام الأمور في النظام الاقتصادي العالمي”.
الخطر الذي يهدد التفوق الأمريكي في العالم لا يأتي من بكين، بل يقبع في العاصمة واشنطن، في داخل الكونغرس الذي أصبحت خلافاته الداخلية وحساباته الايديولوجية تهدد المصالح الحيوية للولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي.
المصدر: صحيفة سلايت الفرنسية