في رحلتنا لتأسيس أصول علم الاستغراب، ذكرنا أن هذه الأصول ثلاثة:
- الانطلاق من الإسلام.
- إدراك الفوراق الجوهرية بين “الإسلام” و”الغرب”.
- البحث عن الثوابت والكليات الكامنة خلف الفروع والمتشابهات والمتغيرات.
ونبدأ هذه السطور في إلقاء الضوء على هذا الأصل الأول، ما معناه وما آثاره.
***
لماذا ينبغي علينا أن ننطلق من الإسلام لدراسة الغرب؟ أو – بعبارة أخرى – لماذا يجب أن يكون الإسلام هو النموذج الحاكم ونحن ندرس الغرب؟
والجواب: لأكثر من سبب، أهمها:
1. ضرورة وجود نموذج
مما صار معروفًا في حقل البحث العلمي – حتى التطبيقي البحت – أن الإنسان لا يملك أن يكون محايدًا، وأن هذا الحياد إنما هو طبيعة الآلة [1]، فحتى الخطوة الأولى من خطوات البحث العلمي “الملاحظة” ليست أمرًا محايدًا، فالإنسان يمارس هذه الملاحظة من خلال انحياز كامن، وغامض أيضًا، فينتبه لأمور ويغفل عن أخرى، وإذا كان هذا في الملاحظة التي أظهر ما فيها الحياد والتنبه، فكيف بالتفسير والاستنتاج الذي هو عملية عقلية متشابكة تتداخل فيها المعلومات مع الآراء والانحيازات والميول؟!
الحقيقة أنه ليس ثمة حياد في حياة البشر، وكيف يمكن لمن هو خالٍ من كل انحياز أن تكون له رؤية ونظر؟! إنه لابد من النسبة إلى شيء والقياس على شيء، والإنسان لا يملك أن ينفك عن طبيعته الإنسانية التي تقبل وترفض وتؤيد وتستنكر وتحب وتبغض، وما من إنسان يستطيع الانعتاق من كل شيء ليكون محايدًا، بل إن الإنسان يُعرِّف نفسه بالنسبة إلى آخر فيما يسميه بعضهم “الوعي”، و”الوعي الغاضب” [2].
وبعد بحث طويل وأخذ وردّ بين علماء الإنسانيات في مسألة الحياد والدوافع، يصرح عالم الاجتماع والاقتصاد السويسري ميرودال أنه: “لا يوجد شكل آخر لدراسة الواقع الاجتماعي غير دراسته من وجهة نظر المثل الإنسانية، فالعلم الاجتماعي الغيري الخالي من المصلحة لم يوجد أبدًا ولا يمكن أن يوجد منطقيًا، وهو يمثل مجال القيم لمفاهيمنا الرئيسية ومصلحتنا في هذه القضية، ويعطي الاتجاه لأفكارنا والمغزى لاستنتاجاتنا، فهو يطرح القضايا ويقدم لها الإجابة في آن واحد، العلم الاجتماعي الخالي من المصلحة هراء فارغ” [3].
وذات الأمر قائم حتى في حديث الإنسان عن نفسه، وهو المجال المغرق في الذاتية، فمن يكتب مذكراته لا يملك – ولو أراد – أن يعطي صورة كاملة عن نفسه، يقول د. عبد الوهاب المسيري في مقدمة مذكراته: إنه “لا مناص من أن يتم الاختيار والإبقاء والاستبعاد والتهميش والتركيز حسب نموذج محدد، فالبديل هو أن أحاول أن أعطي القارئ كل التفاصيل، دون تفسير أو ترتيب، ولعلَّه قد يغرق فيها فلا يعرف أين بدأ وكيف ينتهي، وما معنى كل تفصيلة أو معلومة” [4].
والنموذج المحدد الذي يجب أن ينبني عليه النظر والتحليل هو الإسلام، والمسلم ابتداءً يجب ألا يكون له نموذج آخر، وإلا كفر: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4]، وتاريخنا واضح تمامًا في هذه النقطة، فهذه الأمة خرجت من الإسلام وبه وُجدت، وخرجت بالإسلام إلى العالمين وبه سادت وانتصرت “فلقد كان هو مبرر وجودها ذاته منذ ما يربو على أربعة عشر قرنًا، وبه تحددت معالم شخصيتها، وبه صُنِع مصيرها عبر العصور، وحدها رؤية المسلم نفسه خليفة في الأرض بأمر الله تعالى هي التي تصنع منه محركًا لعجلة التاريخ الإنساني” [5].
وقد بدأ القرآن الكريم آياته بصياغة هذا النموذج {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 3 – 5]. وبعد توضيح هذا النموذج أفاضت سورة البقرة، وهي أول سور القرآن وأطولها، في توضيح صفات “الآخر” بالنسبة للمسلمين، فاستعرضت حال المشركين والمنافقين وبني إسرائيل، وقد كان نزولها في أول الهجرة إلى المدينة فكانت بهذا دليلاً لتعامل الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي مع الآخرين.
وكان أول ما يفتتح النبي صلى الله عليه وسلم يومه به من القرآن قراءة سورة “الكافرون”، فيقرأها في الركعة الأولى من سنة الصبح [6]، وهي السورة التي ترسخ للمفاصلة كما ترسخ للتعايش في ذات الوقت: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 1 – 6]، والمفاصلة تستلزم تمام الوضوح في تعريف النفس وفهم الآخر.
2. الإسلام حق مطلق
من أهم الدلائل على ربانية الإسلام كونه انبعث فجأة، لا توجد حركة إصلاحية في التاريخ المعروف لا يمكن التماس أسباب نشوئها من خلال الواقع الذي أحاط بها، مما يعني أنها حركة “رد فعل” طبيعية على الأحوال التي نشأت فيها، ومن هذه الحقيقة انبثقت كافة التحليلات المادية للتاريخ كحتمية ماركس وجدلية هيجل وما إلى ذلك.
بينما لا يمكن للمرء أن يلتمس سببًا في المجتمع المكي يدفع الرجل الهادئ الوقور الرصين، ذو الحسب والمال، وبعد أن بلغ الأربعين، أن يشن هذه الحرب على معتقدات قومه فجأة، وينادي أنه أتى مبعوثًا للعالمين، وأن من اتبعه سيملك العرب والعجم! فكل هذه أمور لا دوافع لها من الواقع أو طموحات المجتمع، وكم كان هرقل ذكيًا وهو يتحقق من هذه الدوافع فيسأل: هل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قال فهل كان من آبائه من ملك؟ أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فهل يغدر؟ فلما استبان له أن لا دوافع عَلِم أنه خاتم الأنبياء [7].
كل ما هو رباني فهو متجاوز للواقع ومطالبه، وكل ما هو بشري فإنما هو رد فعل للواقع وانعكاس له، ولذلك فإن الحق رباني والخطأ بشري، وسبيل الحق واحد وسبل البشر كثيرة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].
ولهذا كان الإسلام نموذجًا معصومًا، وهدايته هداية مطلقة، وتوجيهاته حق، وعلمه يقين.
أما اجتهاد المسلمين في فهم الإسلام وتطبيقه فهو المعرض للخلل والزلل، ومن بدائه العقول أن اعتماد النموذج المعصوم وإن شاب فهمه وتطبيقه خطأ، خير من اعتماد نموذج بشري ليس يسلم من الخلل في نفسه، فضلا عن الاجتهاد في فهمه وتطبيقه.
————————————–
[1] وإن كانت حتى الآلات غير موصوفة بالحياد لأنها مبرمجة مسبقًا على أداء عمليات ولأن لها مدخلات، فبحسب المدخلات وبحسب البرمجة تخرج النتائج، قد يصح القول إنها محايدة بالنسبة إلى المدخلات فلا تفرق ولا تميز ولا تستبعد، بينما “البرمجة” هي ذاتها “النموذج”.
[2] إدوارد سعيد: الاستشراق ص 21 (مقدمة المترجم د. محمد عناني).
[3] بوبوف: نقد علم الاجتماع البورجوازي المعاصر ص 172، نقلاً عن: محمد محمد أمزيان: منهج البحث الاجتماعي ص 117.
[4] د. عبد الوهاب المسيري: رحلتي الفكرية ص 12، 13.
[5] د. إسماعيل الفاروقي: التوحيد ص 30.
[6] أحمد (4763)، وابن ماجه (1148)، وصححه الألباني وشعيب الأرناؤوط.
[7] البخاري (7).