لعبة الملوك
لم تكن يومًا كرة المضرب “التنس” اللعبة الشعبية الأولى في بلد ما، ربما لكونها لعبة فردية “غير جماعية”، أو لارتفاع تكاليف تجهيزاتها من ملاعب وكرات ومضارب، أو لأسباب أخرى تتعلق بصعوبة ممارستها جسديًا حيث تتطلب هذه اللعبة قوة تحمل ولياقة بدنية وذهنية مرتفعة، لذا جُل ممارسو هذه اللعبة ومشاهيرها ينتمون إلى بلدان العالم الأول “المتقدم” وخاصة غرب أوروبا، حيث شهدت هذه اللعبة الراقية بداياتها المضيئة في فرنسا وبريطانيا أواخر القرن الـ 19 في حيز ضيق اقتصر على طبقة النبلاء والأثرياء، حتى أنها سميت “لعبة المُلوك”.
أبطال ومشاهير
كثيرون تركوا بصمة في عالم الكرة الصفراء، وكثيرون حققوا ألقابًا وكسروا أرقامًا، ولكن قلةٌ هم من وصلوا إلى مصاف العظماء والمشاهير فيها، ربما لأن من حققوا بطولاتها في الماضي البعيد كانوا خارج التغطية الإعلامية كما هو الحال مع أبطال ما قبل ثمانينات القرن الماضي كرود ليفر وماتس فيلاندر وروي أيمرسون، وربما أثر ضعف شعبية اللعبة نسبيًا حتى ماضٍ قريب على شهرة أبطال بحجم جيمي كونورز وبيورن بيرغ وجون ماكنرو وصولًا إلى بيت سامبراس وأندريه أغاسي – الذان نالا شهرة لا بأس بها -، وربما عوامل أخرى شخصية وتنافسية لعبت دورها في تغييب نجوم آخرين لهذه اللعبة عن عالم الأضواء والشهرة، ولكن المؤكد أن أي متابعٍ عابرٍ لهذه اللعبة لم يغب عن سمعه اسمان طفقت شهرتهما آفاق عالم الرياضة، ما هما إلا كوكب التنس المضيء وأسطورته الحية: روجر فيدرير، ونظيره ملك التراب ومعجزة عصره رافائيل نادال.
طفولة أبطال
كلاهما ولدا في الثمانينات ولكن المايسترو السويسري يكبر الماتادور الإسباني بخمسة أعوام، فالأول ولد في الثامن من أغسطس عام 1981 بمدينة بازل السويسرية، والثاني كان مسقط رأسه ببلدة ماناكور التابعة لجزيرة مايوركا الإسبانية في الثالث من يونيو عام 1986، وتتشابه طفولتهما في أن كليهما ينحدر من عائلة ميسورة نسبيًا أتاحت لابنيها صقل موهبتهما الفذة، فروجر بدأ ممارسة التنس وهو في سن السادسة ضمن نادي تيسي أولد بويز بمدينته بازل، حيث لاحظ مدربوه موهبته الخارقة فأولوها اهتمامًا خاصًا، قبل أن يقرر روجر دراسة التنس أكاديميًا بانضمامه للمركز الوطني للننس وهو ابن 14 عامًا.
أما رافا فينحدر من عائلة رياضية، فعمه لاعب منتخب إسبانيا السابق ونادي برشلونة لكرة القدم ميغيل آنخيل، وعمه الآخر توني لاعب تنس سابق، هذا العم هو من اكتشف موهبته وتولى تدريبه والإشراف عليه منذ كان في الرابعة من عمره وحتى الآن، ومما لا يعرفه البعض عن رافا أنه ليس بأعسر أصلًا، ولكن عمه دربه منذ الصغر على استعمال يده اليسرى في لعب التنس لعلمه بندرة وتميز لاعبي اليد اليسرى في هذه اللعبة.
احتراف وإنجازات
دخل روجر عالم الاحتراف وهو ابن 17 عامًا وتدرج في سلم تصنيف لاعبي التنس المحترفين حتى بلغ قمته في فبرايرعام 2004 بعد أن أحرز ثاني ألقابه في البطولات الكبرى (الغراند سلام) بفوزه ببطولة أستراليا المفتوحة في ملبورن 2004، وقبلها ببطولة ويمبلدون العريقة عام 2003، تلك البطولات التي استمر بحصد أخضرها ويابسها حتى عام 2012 حيث نجح بالفوز بلقبه السابع في بطولته المفضلة (ويمبلدون)، والسابع عشر في سلسلة بطولات غراند سلام الكبرى – التي مازال يحمل الرقم القياسي بعدد ألقابها حتى الآن -، إضافة إلى فوزه بـ 23 لقبًا في بطولات الماسترز للأساتذة جُلها على الأراضي الصلبة.
أما رافا فدخل عالم الاحتراف وهو أصغر سنًا إذ كان فقط في الـ15 من عمره، وأبهر المتابعين والنقاد بأدائه خاصة على الملاعب الترابية ونجح بإحراز أول ألقابه الكبرى عليها عام 2005 وهو ابن 19 عامًا بفوزه بلقب بطولة فرنسا المفتوحة (رولان غاروس)، ليدخل التاريخ من بابه الواسع كونه أصغر من يفوز بلقب غراند سلام في تاريخ اللعبة، ولتبقى رولان غاروس بطولته المحببة والمفضلة عبر مساره الرياضي وينجح في تحطيم جميع الأرقام القياسية فيها بفوزه بـ 9 من أصل 10 ألقاب ممكنة فيها منذ عام 2005 وحتى عام 2014، إضافة إلى 5 ألقاب كبرى أخرى، و27 لقبًا في بطولات الماسترز للأساتذة، جُلها على الملاعب الترابية 19 لقبًا، ليستحق بجدارة لقب “ملك الملاعب الترابية عبر تاريخ اللعبة”.
المهارات وأسلوب اللعب
يعتبر روجر فيدرير من أكثر لاعبي التنس تكاملًا عبر تاريخ اللعبة، فهو يمتلك من كل مهارة وميزة من ميزات لاعبي التنس حظًا وافرًا، فإرساله من أبرز عناصر قوته لتميزه بالدقة والقوة والتنوع ولطالما أنقذته إرسالاته الساحقة من مواقف عصيبة، والضربة الأمامية (فورهاند) عنده تعتبر من الأفضل بين لاعبي عصره بقوتها ودقتها وسرعتها، وضربته الخلفية (باكهاند) تتميز بالدقة والسرعة رغم عدم قوتها وذلك لاعتماده على يده اليمنى فقط فيها – بعكس أغلب اللاعبين الذين يستعملون اليدين معًا في الباكهاند، ورغم أنه يجيد التبادلات من الخط الخلفي ويتقنها إلا أن أسلوب لعبه يعتبر هجوميًا، فهو قادر على كسر إيقاع اللعب في أي وقت بضربة (دروب شوت) متقنة أو بصعود مضمون على الشبكة، كما أن طريقة لعبه السهلة الممتنعة تسمح له باقتصاد مجهوده وتوزيعه على الأشواط، فتراه محافظًا على لياقته البدنية والذهنية حتى آخر رمق في المباراة.
أما رافائيل نادال فيتفوق في عوامل على نظيره السويسري ويتخلف بأخرى، فعامل الإرسال لدى الإسباني يعتبر أضعف بوضوح، بينما يتشابه اللاعبان بجودة (الفورهاند) مع ميزة إضافية عند رافا تكمن في استعمال يده اليسرى مما يتيح له توجيه ضرباته الأمامية القوية نحو (باكهاند) خصمه الأضعف نسبيًا، كما أن (باكهاند) نادال يتسم بالقوة والدقة رغم افتقاره للسرعة كونه يستخدم فيه كلتا يديه.
نقطة الاختلاف الأساسية بين النجمين تكمن في أسلوب اللعب، فنادال يتمتع بلياقة خارقة للعادة تمكّنه من البقاء على الخط الخلفي مهما طالت التبادلات بانتظار الفرصة الملائمة لإنهاء النقطة، لذا يصنف أسلوب لعبه ضمن الأساليب الدفاعية، رغم أنه لا يفتقر إلى الإثارة والمتعة الناتجتين عن قدرته الفائقة على تغطية الملعب بأسلوب التزحلق الفريد (خاصة على الأراضي الترابية) ورد الكرات حتى التي تبدو مستحيلة منها، مما يفقد خصمه تركيزه وأعصابه أيضًا، أسلوبه هذا هو ربما ما مكنه من التفوق بوضوح على فيدرير في مواجهاتهما المباشرة (33 مباراة) بواقع 23 فوزًا للإسباني منها 13 على الأراضي الترابية، مقابل 10 للسويسري منها 2 فقط على الأراضي الترابية.
أخيرًا وليس آخرًا
رغم التراجع الحالي في مردودهما الفني ونتائجهما بتأثير عوامل عدة أهمها تقدم السن لفيدرير والإصابات المزمنة لنادال، ورغم صعود نجم عملاق جديد لا يقل عنهما موهبة وتميزًا نجح في إزاحتهما عن قمة التصنيف هو الصربي الرائع نوفاك جوكوفيتش، ولكن يبقى لهذين النجمين مكانة خاصة في قلب كل محب للراقية الصفراء لن تُمحى مع الأيام، ويكفي أن نعرف بأن مجموع ما أحرزاه مجتمعين من بطولات التنس للمحترفين حتى الآن يبلغ 144 بطولة منها 31 بطولة غراند سلام كبرى و50 بطولة ماسترز والحصيلة مرشحة للارتفاع، كما تواجها بشكل مباشر في 8 مباريات نهائية لبطولات الغراد سلام إضافة إلى 10 مباريات نهائية في بطولات الماسترز، لنعرف معنى أن نشاهد مواجهة بين عملاقي التنس وأسطورتيه الحيتين في زمنه الجميل: روجر المايسترو الساحر بفنه الراقي وانسيابيته المبهرة، ورافا الماتادور الخارق بأسلوبه الفريد وردوده الإعجازية.