يبدو أن الإنسان لم يمل من محاولاته التي بدأها مع برج بابل، كما تذكر الرواية التوراتية، في الوصول للإله من خلال إنشاء مبان شديدة الارتفاع تصل به إلى السماء، إلا أن هذه المحاولات اكتسبت في المرحلة الأخيرة صبغة صراعية واضحة، حيث تتنافس الدول في بناء أعلى ناطحات سحاب في العالم، فما يبدو أن وجود مبنى فائق الارتفاع في بلد ما يكسبها مكانة رمزية كبيرة بين الدول، وهذه المنافسة على الرغم من وضوحها الشديد في دول الخليج العربي، إلا أن الحقيقة أنها مشتعلة في الكثير من الدول حول العالم وخصوصًا الصين، بالإضافة لما يمثله التوسع الرأسي من حل لمشكلة الكثافة السكانية الكبيرة في بلد مثل الصين، وقد ظلت ضخامة المبنى وارتفاعه رمزًا تحتفي به المجتمعات ومجالًا خصبًا للفخر بالانتماء لثقافات بعينها حيث يدل على القوة والكفاءة؛ لذلك تركز بناؤها بشكل رئيسي في حالة المباني ذات الوظائف الرمزية الكبرى، مثل دور العبادة والكنائس وحتى مآذن المساجد، أو مبان السلطة كقصور الملوك والبرلمانات، إلا أنها اتخذت منحنى مختلفًا في العصر الحديث حيث أصبح المبنى المرتفع متعدد الطوابق نمطًا معتادًا للاستخدام في الحياة العامة، والحقيقة أن تاريخ ناطحات السحاب أو المباني متعددة الطوابق المرتفعة الحديثة يمكن تتبعه حتى منهاتن والمعماري الأمريكي لويس سوليفان.
واجهت منهاتن مشكلة زيادة قيمة قطع الأراضى مما دفع بالمستثمرين إلى محاولة التوسع في الاتجاه الرأسي؛ بحيث توفر قطعة الأرض الواحدة ربحًا أكبر من المعتاد، لكن الأمر ظل محدودًا، حيث لا توفر الإمكانات الإنشائية القدرة على الارتفاع الرأسي الكبير، ويعني ذلك تضاعف حجم الحوائط مما يؤدي إلى قلة مساحة الفراغات المعيشية نفسها، لذلك كانت القفزة الحادثة في ارتفاعات المباني في الحقيقة في أواخر القرن التاسع عشر بعد حدوث تطور كبير في صناعة حديد رخيص متعدد الاستخدامات في النصف الثاني من القرن الـ 19، بالإضافة إلى ذلك كانت الولايات المتحدة الأمريكية تمر بمرحلة من النمو الاقتصادي والاجتماعي المضطرد، مما فتح المجال أمام المعماريين للتجربة والإبداع بشكل كبير، وقد كانت شيكاغو معملًا للكثير من التجارب المعمارية، أشهرها مبنى مونادنوك، والذي يسجل لحظة انتقالية تاريخية في نظم الإنشاء حيث بني نصفه الشمالي من الحوائط الحاملة عام 1891 بينما بني نصفه الجنوبي بعد ذلك بعامين فقط باستخدام نظام هيكلي، وقد تسببت هذه النقلة في النظم الإنشائية في مشكلة تقنية وتشكيلية كبيرة، حيث كانت النظم القديمة محدودة وتضع قيودًا على التصميم، لكن التحول الجديد السريع أتاح مساحات كبيرة من الحرية لم تكن معتادة من قبل ما تسبب في حدوث فترة من الارتباك التصميمي لدى المعماريين، إلا أن سوليفان احتوى هذه التغيرات بمرونة، وأنتج مفردات رئيسية لتكوين المباني المرتفعة (القاعدة، والمحور، والإفريز) مبسطًا تكوين المبنى، ومتحررًا من الطرز المعمارية التاريخية، مستخدمًا تكوينًا تشكيليًا في خطوط رأسية حتى يدفع العين إلى النظر لأعلى المبنى للتأكيد على التكوين الرأسي، وقد كان هذا المدخل المختلف للتعامل مع المبنى مدخلًا ثوريًا وناجحًا تجاريًا.
أخذ تصميم المباني المرتفعة يزداد في التطور بسرعات كبيرة للغاية، نتيجة لتطور الصناعات الإنشائية كالحديد والخرسانة بالإضافة للصناعات الميكانيكية كالمصاعد ومضخات المياه، لكن هذا التطور دفع بالمباني إلى ارتفاعات غير متصورة على الإطلاق، وفي محاولة لإيضاح هذا التطور فقد أُضيف برج خليفة في دبي إلى رسم لجورج كرام كان قد رصد فيه أعلى المباني في العالم عام 1884م، وما يلي هو الرسم الأصلي لكرام.
بعد إضافة برج خليفة وجد أن ارتفاعه بلغ خمسة أمثال أعلى مبنى في هذا الرسم.
لكن المثير في هذه المباني فائقة الارتفاع أن هذا الارتفاع ينطوي على مظهر خادع قليلًا، ففي ظل السباق المحموم على إنشاء المبنى الأكثر ارتفاعًا وجد مجلس المباني المرتفعة والسكن الحضري CTBUH في تقرير قام بإعداده مؤخرًا، أن حجم الفراغ غير المستغل الذي أُضيف إلى أطول مبان في العالم يقترب من حوالي ثلث الارتفاع تقريبًا، والفراغ غير المستغل؛ هو الفارق بين الارتفاع المعماري للمبني وبين ارتفاع آخر دور مستخدم داخل المبنى.
بادئ ذي بدء قسم المجلس المباني المرتفعة الحديثة إلى مستويين من الارتفاع، شديدة الارتفاع إذا كان ارتفاعها في حدود 300 متر مثل مبنى إمباير ستيت، الذي يبلغ ارتفاعه 373 مترًا، والأخرى أُطلق عليها مبان فائقة الارتفاع، وهي التي وصلت حتى 800 متر مثل برج خليفة الذي بلغ ارتفاعه 828 مترًا، والتي كان عددها في 2013 مبنيين فقط حوال العالم إلا أن الخطط المستقبلية القريبة تشي بتغير هذا العدد.
قام المجلس أيضًا بتسمية أفضل مبان مرتفعة بناء على “الإسهام الكبير في تطوير المباني المرتفعة والبيئة الحضرية، بالإضافة إلى تحقيق مبادئ الاستدامة لأعلى مستوى”، لكن المدهش في الأمر أن هذه المباني، والتي تم توزيعها تبعًا لأربعة مناطق جغرافية هي (الأمريكتين، وأسيا وأستراليا، وأوروبا، وأفريقيا والشرق الأوسط)، لم يأت فيها أي مبنى من المباني فائقة الارتفاع المشهورة، فلم تحقق هذه المباني قيمًا معمارية ملحوظة، ويبدو أن إنشاءها كان بهدف الفوز في السباق فقط، بالإضافة إلى أنها تحوي نسبة كبيرة جدًا من الإنشاءات غير المستخدمة؛ فبرج خليفة الذي يبلغ ارتفاعه 828 مترًا يصعب اعتباره استثنائيًا عندما يُنزع عنه قمته التي يبلغ ارتفاعها 243 مترًا، وكذلك الكثير من الأبراج الحديثة، ففي برج العرب ثاني أطول برج في الإمارات العربية المتحدة تصل نسبة الإنشاءات غير المستخدمة في المبنى إلى 39%.
يبدو أننا نعيش في الفترة الحالية طفرة كبيرة في تكنولوجيا الإنشاءات بالفعل، إلا أن الإحصاءات التي قام بها مجلس المباني المرتفعة والسكن الحضري تثير التساؤل عن جدوى هذه الطفرة، في ظل استخدامها بهذا الشكل الرمزي وبدون أي وظيفة تنعكس على المبنى، وهو مبدأ معاكس تمامًا لبداية هذا النوع من المباني؛ حيث صك لويس سوليفان القاعدة الأشهر في تصميم مبانيه “التكوين تابع للوظيفة”، وقد تسببت الأزمة الاقتصادية الأخيرة في 2009 في إظهار حجم الهوة الاقتصادية التي تنبني عليها تلك المشاريع الضخمة، مما دعا بعض المعماريين الشباب إلى السخرية منها حيث قدم أحد المعمارين مشروعًا لأعلى مبنى في العالم في أشهر مسابقة دولية لتصميم ناطحات السحاب، وقد اقترح فيها أن يوضع بيت صغير تقليدي من دورين على عمود شديد الطول يمكن التحكم في طوله، حتى يمكن لكل إنسان أن يحصل على أعلى مبنى في العالم، وينتهى هذا السباق المفرغ من المضمون.