“جهنم”، هي الكلمة التي وصّف من خلالها الجنرال الأمريكي جوزيف أندرسن وضع الاحتلال الأمريكي في أفغانستان لسنة 2014، حيث بدا أنه وبعد احتلال دام لأربعة عشر عامًا لأفغانستان أن الرأي العام في الدول الرئيسية المشاركة في التحالف (أمريكا، بريطانيا، ألمانيا) قد أصبح أشد سخطًا على نتائج الحملة العسكرية وفقًا لاستطلاعات رأي متعددة، كان آخرها استطلاع الرأي الذي أجري بين عموم الأمريكيين، إذ عبر فيه 72% من المستطلع آرائهم عن رفضهم للحرب واعتبارها بلا قيمة.
وفي سياق متصل لكنه رأسيًا هذه المرة أعرب البيت الأبيض عن رفضه اعتبار “طالبان” كحركة إرهابية، في تصريح صدر على لسان متحدثه الرسمي في يناير 2015 ، إذ عبر التصريح بشكل واضح عن اعتراف أمريكي بطالبان كأقوى فاعل في الساحة الأفغانية بعد الانسحاب الأمريكي من البلاد والمزمع تنفيذه والانتهاء منه في غضون عام، وهو ما يفتح المجال أمام الإدارة الأمريكية للتفاهم مع الحركة في نهاية المطاف رغم كونها “التنظيم الوحيد” الذي يفتك بالجيش الأمريكي منذ أكثر من خمس سنوات على الأقل.
شكّل العام 2006 منعطفًا حاسمًا في تاريخ كل من حركة طالبان والجيش الأمريكي بأفغانستان على حد سواء، إذ بدأت الحركة في ذلك العام ما يمكن أن يسمى بـ”الحرية المستديمة” بشكل فعّال ومنظم، واضعة تركيزها على الاستنزاف العسكري وضرب النفسية الأجنبية وإحباطها بشكل كامل، فعناصر “طالبان” الذين انسحبوا أمام ضراوة الحملة العسكرية سنة 2001 والتي أسماها التحالف بـ “عملية التحرير”، لم يتركوا السلاح بل أعادوا تموضعهم في الجبال والمناطق الحدودية المشتركة بين أفغانستان وباكستان والمعروفة بـ “وزير ستان”، ليتمكنوا سريعًا من إعادة تنظيم قواتهم وقدراتهم العسكرية تمهيدًا لحرب استنزاف طويلة ومستمرة، ساعدهم في ذلك غياب السيطرة الأمنية على المناطق الحدودية، فضلاً عن طبيعة الجبلية – والتي تمنح اللاجئ إليها حصنًا طبيعيًا منيعًا -، ثم الاستهتار الأمريكي بقدرات الحركة ومقدرتها على بدء “حرب تحررية” بسبب التصور الأمريكي المبني على تخلف الحركة وبدائية وسائلها القتالية، غير أنه ومنذ العام 2006 كان الأمريكيون قد بدأوا يدفعون ثمن ذلك التصور غاليًا، حيث كانت إستراتيجية طالبان – والتي ارتكزت على وسائل قتالية بدائية فعلًا – قد تمكنت من الإثخان في قوات حلف الأطلسي من خلال تكتيكات عسكرية فعالة ونوعية، إضافة إلى عمليات كر وفر سريعة وخاطفة، فضلاً عن حرب نفسية أثرت على معنويات الجيش الأمريكي والقوات المحلية الموالية له، لينتهي الأمر بتصريح المتحدث الرسمي للناتو في ديسمبر 2014 بانتهاء العمليات العسكرية في أفغانستان، وسحب كافة الجنود في نهاية سنة 2016؛ فكيف تمكنت طالبان من هزيمة الجيش الأمريكي؟
تحركت طالبان وفق ثلاث إستراتيجيات رئيسية، كان لكلٍ منها دوره المهم في استنزاف حلف شمال الأطلسي:
الإستراتيجية الأولى: هجمات المشاة السريعة وفق قاعدة “الكر والفر” المعروفة، وهذه الهجمات كانت تتبع تكتيكات وأهداف مختلفة وفقًا لنوع العدو المستهدف، ففي حالة القواعد الأمريكية فإن “طالبان” كانت تهاجم وتختفي بشكل سريع نظرًا لفارق القوة النوعي، ومن أشهر هذه الهجمات الهجوم على قاعدة باستيون في هلمند بحضور الأمير البريطاني “هاري” وكان من نتائجها إقالة الجنرالين تشارلز غورغانوس وغريغ ستور ديفانت، وكذلك الهجوم على قاعدة باجرام – والتي تعتبر من أحصن القواعد الأمريكية في أفغانستان -، والهجوم على قاعدة “تورخام”، واستهداف قاعدة “باخدشان” العسكرية أخيرًا، وفي تقرير أعدته طالبان بعنوان “غيض من فيض 2014” اعترفت الحركة بفارق القوة النوعي بينها وبين عدوها، وهو ما دفعها لتطوير نظرية خاصة بها بدلًا من الهجمات الكبيرة والتي تتسم بها المراحل الأخيرة في حروب التحرير، أسمتها “العمليات الاستشهادية الكبرى” وهي هجمات هجينة فتاكة ومرعبة نظرًا لمدى الضرر الذي توقعه بالعدو، ويتكون هذا النوع من الهجمات من عمليات استشهادية تتبعها هجمات خفيفة للمشاة، وقد كان الهجوم الذي استهدف مطار جلال آباد – قاعدة عسكرية جوية للتحالف – والذي أوقع العشرات من القتلى والجرحى، وكذلك الهجوم على قاعدة الاستخبارات العسكرية في غزني من أبرز العمليات الناجحة في هذا الإطار.
أما في حالة المناطق والولايات التي يُسيطر عليها الجيش الأفغاني الموالي للاحتلال الأمريكي فإن الهجمات العنيفة تستهدف بالأساس تحرير الأرض والحفاظ عليها، وقد بات ملاحظًا أن نصف أفغانستان أصبح عمليًا في يد طالبان وخصوصًا مناطق الأرياف، بينما يحاول الجيش الأمريكي والقوات الموالية له الحفاظ على المدن الحيوية في البلاد مثل كابل وقندهار وهلنمد، مع وجود تخوفات شديدة من تمكن طالبان من النفاذ لهذه المدن فلا يكاد يمر يوم دون أن يحصل هجوم ما داخل هذه المدن الحيوية.
الإستراتيجية الثانية: الكمائن المتفجرة؛ يمثل هذا الأسلوب الذي يقوم بشكل رئيسي على العبوات الناسفة الخطر الأساسي على قوات التحالف، ويعتبر أكثر الوسائل فتكًا بالقوات العسكرية، حيث إن 60% من قتلى القوات المشتركة “إيساف” كان بواسطة العبوات الناسفة، يقول بينغ ويست، وهو ضابط أمريكي متقاعد يزور الجيش الأمريكي في أفغانستان سنويًا، إن العبوات هي أخبث عدو يمكن أن يواجهه الجيش، ولمواجهة خطر العبوات الناسفة قام البنتاغون بتأسيس المنظمة المشتركة لمواجهة العبوات الناسفة “إيجدو” بميزانية تقدر بـ 60 مليار دولار من خلال تطوير تدريع العربات المدرعة الثقيلة “الأمراب” وزيادة فعالية أنظمة التشويش لتعطيل العبوات التي يُتحكم بها عن بعد وصنع ملابس داخلية مقاومة للانفجارات، بينما فعّلت طالبان مقابل ذلك إستراتيجية مضادة أكثر فعالية تتمثل بزيادة الجرعة الناسفة في العبوات – كان تدمير مدرعة سترايكر الثقيلة بعبوة تزن نصف طن وقتل سبعة جنود بداخلها جنوب أفغانستان ردًا عمليًا واضحًا – إضافة إلى تقليل كمية المعادن في العبوات لتعطيل تقنية كاسحات الألغام وأنظمة كشف الألغام – يتباهى مقاتلو طالبان بعمليات مصورة تُظهر تفجير كاسحات الألغام الشهيرة هاسكي أو تفجير آليات بعد مرور الهاسكي عنها -، ويقدّر الجيش الأمريكي عدد العبوات المزروعة في أفغانستان بأكثر من 37 ألف عبوة، وأن هناك عبوة تصنع كل خمسين دقيقة، فيما تقول التحقيقات الأمريكية بأن مقاتلي طالبان يراقبون باهتمام كيفية تعامل الجيش الأمريكي مع العبوات المُكتشفة وكيفية تفاديها ليتعلموا ويأخذوا الدروس والعبر لتطوير هذا النوع من العمليات، وهو ما ينتج عنه في النهاية فشل كل الإجراءات الأمريكية المتخذة لإحباط هذه الهجمات، وفي إصدار مرئي للحركة عرض عزام الأمريكي لكتاب أصدره الجيش الأمريكي ويختص بحماية الطرق حصل عليه عناصر طالبان من خلال إحدى العمليات مما يدلل على حجم الاهتمام الكبير الذي تبديه الحركة لمعرفة إجراءات العدو وتفاديها أو مواجهتها بإجراءات مضادة أشد فعالية.
الإستراتيجية الثالثة: “العمليات من الداخل” أو “جرين أون بلو” أي هجوم الأخضر على الأزرق وهو نوع جديد من العمليات الخطيرة بدأ يظهر جليًا في سنوات الاحتلال الأخيرة لأفغانستان، حيث هاجم العشرات من أفراد الجيش الأفغاني الموالي للاحتلال جنودًا يتبعون للقوة المشتركة “إيساف”، وقد من كان أبرز هذه العمليات قيام الشرطي رفيق جان في ولاية بكتيا بإطلاق النار على اجتماع أمني يضم قادة من حلف الأطلسي وقادة من الجيش الأفغاني، حيث أسفرت العملية عن قتل أكبر رتبة عسكرية أمريكية منذ حرب فيتنام وهو الجنرال هارود غرين إضافة إلى سبعة جنود آخرين وإصابة جنرال ألماني إصابة بليغة، ويقدر الخبراء أن هذه الهجمات أدت لمقتل 16% من إجمالي قتلى حلف الأطلسي، رغم أنها في سنوات سابقة ترتفع لتصل لثلث القتلى كما حصل في سنة 2012، وتعد “العمليات من الداخل” ميزة أفغانية قديمة جديدة، ففي تحقيق أعده بينامين نيجسين لصحيفة “إنترناشونال هيرالد تربيون” وكذلك مقال لمجلة الصمود التي تتبع طالبان بتاريخ 12 سبتمبر 2014 بعنوان “الهجمات من الداخل” أشار فيه لظاهرة “تغير الولاءات” في المجتمع الأفغاني، هذا التغير الذي لعب أدوارًا حاسمة في الحرب البريطانية الأفغانية عندما غير الكثير من قادة وأفراد الجيش الأفغاني ولائهم من البريطانيين إلى المعسكر الآخر، وكذلك في القتال ضد الاتحاد السوفيتي، ويظهر أن الهجمات من الداخل ستلعب دورًا حاسمًا جديدًا في تسريع انسحاب الجيش الأمريكي وخصوصًا بعدما فقد الثقة في أقرب حلفائه المحليين”الجيش الأفغاني”.
هذه العمليات انعكست على طبيعة العلاقة بين الجيش الأمريكي والأفغاني، حيث بات في كل قاعدة مشتركة بأفغانستان حاجز للفصل بين قوات التحالف والجيش الأفغاني، فضلًا عن إجراءات جديدة تقوم على تدريب مدربين أفغانيين بدلاً من تدريب الجنود مباشرة، وبطبيعة الحال هذه الإجراءات لا تعني إلا فقدان الثقة في الجيش الأفغاني، كما أنه ليس لها إلا نتيجة واحدة وهي زيادة حالة السخط في صفوف قادة الجيشين “الأفغاني – الأمريكي”.
خلال الاحتلال الأمريكي لأفغانستان حاولت الإدارة الأمريكية تطوير إستراتيجيات عديدة لمواجهة طالبان، ففي البداية حاولت أمريكا دفع مقاتلي الحركة لإلقاء السلاح والاندماج في بنية النظام الجديد، ثم طورت نظرية “ضرب الشبكة” والتي ترى ضرورة قتل أبرز قيادات الحركة والمؤثرين فيها وكذلك خلايا تصنيع المتفجرات، ثم إستراتيجية “التقوقع” قدر الإمكان داخل القواعد المحصنة وإعطاء قيمة أكبر لعمليات القصف الجوي، غير أن طالبان طورت من بنيتها الهجومية حتى أصبحت بالفعل تهدد القواعد العسكرية نفسها، ثم الإستراتيجية الأخيرة لباراك أوباما القائمة على تخفيف الوجود الأمريكي في العراق وتعزيزه في أفغانستان، إلا أن الإستراتيجية المضادة التي اتبعتها طالبان أثبتت نجاحها الكبير، فالحركة تخوض معركة وجودية بعكس خصمها، وهي جماعة بنيتها التنظيمية غير واضحة للجيش الأمريكي، وتمتلك حاضنة شعبية كبيرة وواسعة، فضلًا عن مقدرتها الهائلة على التكيف مع كل المتغيرات الحاصلة، وهي صفة أساسية في النفسية الأفغانية التي هزمت كل الغزاة.
في تقرير أعده كوينتن سومفريل للبي بي سي ختم كلامه بجملة لدوبلوماسي أمريكي حول ما يحصل في أفغانستان: “في هذه الحرب تتقلص التوقعات والغرب أبدًا لن يذكر كلمة نصر، لا تسألني عما إذا كانت تستحق لأنها بالفعل لا تستحق”، وإذا كانت الإدارة الأمريكية لن تذكر كلمة نصر، فإن طالبان ستذكرها كثيرًا.