شعارات نرددها دون تدقيق، نظنها انتصارًا، نواسي أنفسنا بوهم لذيذ، نضمد جراحنا ببلسم البلاغة، وما هي ببلاغة، وما هو ببسلم !
شعارات أجيال سبقتنا، اختاروا حلولاً أخرى، هم رجال ونحن رجال، لم يدفعوا ضريبة الدم كما دفعها جيلنا، كانوا رجالاً، ولكل عصر رجاله.
رحم الله د. فريد إسماعيل الذي اغتالته يد الانقلاب العسكري الغاشم بتلك الطريقة البشعة، تركوه لتتدهور صحته في زنزانة انفرادية، وحين احتاج الدواء منعوه عنه، وحين احتاج رعاية طبية أغلقوا عليه باب الليل حتى جاءه فجر الله شهيدًا.
رحمه الله وتقبله من الشهداء، حظي بجنازة عظيمة، وها نحن نسمع من يردد مقولة الإمام أحمد بن حنبل الشهيرة “بيننا وبينكم الجنائز”، والحقيقة أن هذا الشعار لا يصلح لجيل يطمح لإشعال ثورة ناجحة ناجعة تنهي حكم العسكر والفساد والاستبداد، إنه شعار مظلوم يبدو مستسلمًا للظلم، شعار من يرى رفع الظلم أملاً بعيد التحقق، ونحن جيل قد وضعنا كل طموحاتنا وآمالنا على يقين أننا سننتصر قريبًا.
إنه شعار الخمسينيات والستينيات، حيث لم يكن هناك استفتاءات وانتخابات إلا حين يموت أهل الحق والخير، لقد احتكم آباؤنا وأجدادنا للجنازات دهورًا، واستمر حكم العسكر يقهر سائر المصريين.
لعل الأنسب لجيلنا شعار “بيننا وبينكم الميادين”، لا تقل لي: “الميادين مغلقة”، وهل كانت مفتوحة في أي يوم من الأيام؟
لقد أغلق العسكرُ الميادينَ ستين عاما متواصلة !من الذي فتح الميادين للملايين؟ نحن من فتحها، جيل ثورة يناير العظيمة.
ما أكثر الجنائز في ظل انقلاب عسكري، ولكن … تعال لنتأمل سويًا:
جنازة القائد الانقلابي التركي عدنان إيفيرين، هذا الجنرال الذي دبر انقلاب 1980 في تركيا، وتسبب في قتل المئات، واعتقال وتعذيب وتشريد مئات الآلاف، مات وهو يقضي فترة سجنه في بيته بسبب ظروفه الصحية، بعد أن اقترب عمره من مائة عام !
اقتضت الظروف أن تخرج الجنازة “متعسكرة”، ولكن أحدًا من المسؤولين السياسيين في الحكومة أو المعارضة لم يتجرأ أن يحضر الجنازة، من يحضر جنازة قائد الانقلاب العسكري التركي معناه أنه يضحي بمستقبله السياسي، وربما بحياته الاجتماعية أيضًا.
لم تتجرأ أي دولة أن ترسل سفيرها لحضور الجنازة ، كانت جنازة معزولة تحت إجراءات أمنية مشددة، فقد أحاط بها مئات الساخطين من ضحايا الجنرال، فشيعوه بدعوات الجحيم إلى مثواه الأخير.
جنازة أخرى في تركيا منذ عدة سنوات (مارس 2011) جنازة نجم الدين أربكان، خرج فيها ما يقدره البعض بمليون ونصف مشيع، وحمل النعش رئيس جمهورية ورئيس وزراء، وحضر الجنازة جميع سياسيي الدولة، وسفراء أكثر من ستين دولة، لقد كانت حدثًا تاريخيًا شعبيًا رسميًا.
ولكن، ليس معنى ذلك أن المعركة قد حسمت في الجنازة، وليس معنى ذلك أن تركيا قد عبرت عن رأيها في سرادقات العزاء، ولا أن التنافس بين العدل والاستبداد وبين الحرية والاستعباد ميدانه الموت، بل ميدانه الحياة.
لقد حُسِمت المعركة في الشوارع، وعبر الصناديق، وفي المدارس والجامعات والمقاهي والمساجد والكنائس، في الريف والمدن، في كل مكان فيه حياة في تركيا، لقد هُزِمَت فكرة الاستبداد، وانتهى عصر العسكر، وانتصرت فكرة الحرية، وانتصر معها التحول الديمقراطي قبل الجنازتين، واستمر الأمر بعد الجنازتين.
إن الاحتكام للجنائز فكرة فاسدة، ولا ينبغي لجيلنا أن يقبل بها، فكم من جنازة عامرة كانت لطاغية، وكم من الصالحين دفنوا “فطيس” كما يقول المثل.
ويكفي أن تعرف أن مؤسس الحكم العسكري الذي نعيشه حتى الآن قد حظي بجنازة مليونية تاريخية، سار فيها ملايين لسبب أو لآخر، لأنه أعطاهم بعض الفتات، أو لإغاظة العدو الذي سحق البلاد وجيشها، أو لأي سبب شئت.
شعارات جيلنا هي شعارات الحياة الممتدة، والثورة المستمرة، والنصر القريب، ولا ينبغي لنا أن نرث شعارات الموت والجنائز من مراحل سابقة، كانت لها ظروفها، ومعاركها، وأهدافها التي تختلف تماما عن طموحاتنا اليوم.
إن مقتل د. فريد إسماعيل – رحمه الله – عبرة لكل معتبر، فقد كان رجلاً مهذبًا، وقد أحسن الظنَّ – هو ومن أدار المشهد السياسي في تلك الفترة – في أحقر الناس، فكانت النتيجة أن قتلوه، وليتهم قتلوه في معركة أو نزال كما يفعل الفرسان، بل قتلوه بكل خسة وحطة ونذالة، قتلوه بدم بارد وكأنه أقل من كائن حي، وكلنا معرض لمثل هذا القتل بشكل أو بآخر.
لا نلومه – رحمه الله -، ولا نزايد عليه، ولا نشيطنه، ولا نتعالى، ولا نتعالم، ولا نذمه، فقد أجمع سائر من تعامل معه على احترامه وحسن خلقه، ولكن نحاول أن نتعلم من التجربة، وأن نتعظ مما حدث.
الدرس واضح – لمن يريد أن يتعلم -: كل من يتعاون أو يحسن الظن في نظام عسكري قام واستمر وتمدد بالقتل والتعذيب، سيكون مصيره القتل والاعتقال.
سوف نقاوم هذا النظام حتى نسقطه، وقد فات أوان التراجع، لا مجال للعودة عن هذا الطريق بعد آلاف الشهداء، ومئات الآلاف من المشردين والمصابين والمنفيين والمعتقلين.
الدرس واضح – لمن يريد أن يتعلم -: حين نسقط هذا النظام الحقير لن نتعامل معه بالحقارة التي تعامل بها معنا، لن نسجن أحدًا حتى يموت من الجوع والعطش، لن نقتل معتقلاً قتلاً بطيئًا بمنع الدواء عنه، لن نشوي أحدًا في عربات الترحيلات، بل سنواجه خصومنا مواجهة شريفة، سوف نحاكمهم بقوانين جديدة، قوانين عادلة، قوانين تسمي الأمور بمسمياتها، ولن نرضى بقوانين وضعتها دولة الظلمة.
سنحاكمهم بمنظومة قضائية جديدة، تتحيز للناس، ولا تتعالى على أبناء الشعب الكادحين.
نحن جيل هدفه القصاص لا الانتقام، وطريقه العدل والقانون لا الثأر الأهوج.
لذلك سنحاكمهم بتهمهم الحقيقية، تهمة الخيانة العظمى، والاعتداء على المال العام، وتعريض الأمن القومي للخطر، وغير ذلك من التهم الثابتة، أما التهم التافهة مثل سرقة فيلا أو عمولة هنا أو هناك، فهي أمور أصغر وأتفه من أن توجه لمن حكم البلد ستين عامًا، حتى وصلت إلى هذا المستوى المنحط.
لن نرضى بأن نتأمل أهل الحكم وهم في قصورهم يرفلون في نعيم المال العام، يقتلون الناس بالرصاص والفقر والمرض والجهل وتزييف الوعي، ثم نموت كمدًا في المعتقلات لنهتف “بيننا وبينكم الجنائز”.
طموحنا أكبر من ذلك بكثير، وبيننا وبين تحقيق أحلامنا خطوات قليلة، وأحلامنا ستتحقق على مرحلتين، المرحلة الأولى: إسقاط النظام، وهذه ستتحقق في وقت قريب بإذن الله تعالى.
والمرحلة الثانية وهي الأهم والأصعب: إقامة دولة يناير المدنية الحرة الوطنية الديمقراطية المستقلة، هذه معركتنا التي ستستغرق منا جهدًا طويلاً، وعملاً مضنيًا، لأن ستين عامًا من حكم العسكر تركت لنا مصر بلدًا ركامًا، بلا مؤسسات، وبلا كوادر، وبلا رؤية.
ستستغرق عملية إصلاح مصر وقتًا ليس بالقليل، وستكون تحديات المرحلة صعبة، وستحتاج منا توظيف سائر الجهود لتحقيق الحلم المشترك، وتوثيق عرى العقد الاجتماعي الجديد، وكل ذلك بعد مصالحة اجتماعية قبل المصالحة السياسية.
وحتى نصل إلى تلك المرحلة نقول لأهل الحكم بكل وضوح: “بيننا وبينكم الميادين”، سنملأها قريبًا، وسننتصر قريبًا، وسنصلح ما أفسدتموه بإذن الله تعالى.
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين.
نُشر هذا المقال لأول مرة على موقع عربي 21