ترجمة وتحرير نون بوست
سيكتب التاريخ عن محاكمة القرن المصرية ليس باعتبارها إحدى المحاكمات غير العادلة فحسب، بل أيضًا باعتبارها محاكمة كافكاوية – نسبة إلى كتاب الأديب الألماني كافكا المحاكمة -، وعبثية سخيفة، وسريالية متناقضة.
جنبًا إلى جنب مع 105 متهمين، حُكم على الرئيس المصري السابق محمد مرسي، بالإعدام لهروبه من السجن خلال فترة اضطرابات ثورة يناير 2011.
على المستوى الأخلاقي، هذه المحاكمة هي عبارة عن مهزلة، كون مرسي لم يتمتع بالحقوق والإجراءات القانونية الواجبة المراعاة في محاكمته المسيسة للغاية، والتي وصفتها منظمة العفو الدولية بأنها “غير عادلة بشكل فاضح” و”تمثيلية تم بناؤها على أسس وإجراءات باطلة ولاغية”.
بالإضافة إلى ذلك، وباعتباري معارض منذ فترة طويلة لعقوبة الإعدام، فإنني أجد تهور المحاكم المصرية التي تنثر أحكام الإعدام يمنة وشمالًا على المئات من أنصار جماعة الإخوان المسلمين، تصرف خاطئ ومقلق للغاية بذات الوقت، وهذا التصرف يحدث في الوقت الذي بدت فيه مصر على طريق التخلص التدريجي من عقوبة الإعدام.
حقيقة أن بعض الذين حُكم عليهم بالإعدام تم بالفعل تنفيذ هذه العقوبة بحقهم سابقًا، قد تشير إلى أن مرسي لن يُنفذ فيه حكم الإعدام على أرض الواقع، ولكن مع ذلك، فإن قضاء عقوبة السجن مدى الحياة دون المرور أولًا من خلال محاكمة عادلة وأمام محكمة محايدة، هو بحد ذاته ظلم غير إنساني وعميق بفحواه.
مصر على حافة الانهيار
بغض النظر عن قضايا الأخلاق والآداب، فإن محاكمة مرسي تعد الصورة الأكثر رمزية على الاضطهاد الأخير الذي يرزح تحت وطأته جماعة الإخوان المسلمين، والذي تمثل بقتل مئات المحتجين، واعتقال الآلاف من أنصار الجماعة والزج بهم خلف القضبان، وهذه المحاكمة قد تدفع الوضع المتوتر في مصر إلى حافة الانهيار.
في غضون ساعات من صدور الحكم، ظهرت تقارير تفيد بأن ثلاثة قضاة قتلوا رميًا بالرصاص في سيناء، في حادثة لها ارتباط على الغالب مع المحاكمة، وتمامًا كما عظّمت الإطاحة بمرسي التمرد في شبه جزيرة سيناء الصحراوية، فمن المرجح أن تلعب المحاكمة دورًا مماثلًا، ولكن هذه المرة ليس فقط في سيناء، وإنما في جميع الأراضي المصرية.
إن المأساة الكامنة خلف هذا الوضع هو أن مصر كان بإمكانها تجنب المرور به أصلًا، ففي الواقع، العامين الماضيين شكلا كوميديا حقيقية من الذعر والإرهاب في مصر.
إن قيام مرسي بحكم البلاد وفق سلطة ديكتاتورية منذ نوفمبر من عام 2012، وموهبته الفريدة بفقدان الأصدقاء وتأجيج الرفض الشعبي، فضلًا عن عدم الكفاءة المخيفة للإخوان المسلمين وسوء إدارتهم للبلاد، أدى إلى فقدان الحركة التي زلزلت الحكومات المصرية المتعاقبة منذ نحو ثمانية عقود شرعيتها السياسية، وتحولها إلى قوة سياسية مستهلكة.
ولكن بدلًا من إعطاء مرسي مهلة 48 ساعة في أعقاب الاحتجاجات الضخمة في 30 يونيو 2013، كان يجب على الجيش أن يقود البلاد نحو انتخابات مبكرة، وبذلك كان يمكن تلافي حمامات الدم والدموع التي أعقبت الانقلاب العسكري.
إلا أن الواقع يشير إلى أن الجيش المصري قرر السير على خطى المعارضة المصرية بطلبها للإطاحة بمرسي، وبعد حصول ذلك فعلًا، انتهج نظام السيسي سياسة القمع والاضطهاد، في الوقت الذي كان فيه اتباع سياسة السماحة والمصالحة يمكن أن يكون أكثر فعالية لحفظ البلاد من الأزمات اللاحقة.
وبدلًا من الإجهاز على حركة الإخوان المسلمين في تلك الفترة، أدى قصر نظر النظام المصري ودمويته إلى اتباع نهج التطهير، الذي تضمن تفريق الاعتصامات السلمية إلى حد كبير بطرق قاتلة، وممارسة حملات الاعتقالات الجماعية، وإجراء محاكمات هزلية، وحظر جماعة الإخوان المسلمين، وهذه الإستراتيجية عززت ما تبقى من جماعة الإخوان المسلمين، ودفعتها نحو التطرف، وربما أدت إلى إعادة بعض التعاطف الشعبي لها، بعد أن فقدته خلال الفترة السابقة.
إسكات الانتقادات
قرار جماعة الإخوان المسلمين بنبذ سياسة العنف الذي اتخذته في سبعينيات القرن الماضي، أثار الكثير من الجدل في فترة اضطهادهم، حتى إنه أدى إلى انشقاقات من الجماعة لتشكيل جماعات أكثر تطرفًا ومولاة للعنف، ولكن الاستخدام الناجح للقوة الناعمة الذي انتهجته الجماعة، أسكت العديد من النقاد، كما استرعى انتباه أنصار جدد وغير محتملين، حيث أدى الاضطهاد الذي تعرض له المعارضون العلمانيون في مصر إلى جعل جماعة الإخوان المسلمين حركة المعارضة الرئيسية في البلاد.
ولكن محاكمة مرسي أرسلت رسالة لكثير من الإسلاميين تتمثل بأن العملية السياسية ليست من حقهم، وأن التغيير السلمي من خلال الديمقراطية لن يحدث البتة، مما أدى إلى اقتناع نسبة كبيرة من أنصار الجماعة الآن – على الأرجح – بمسار العنف السياسي، بعد قناعتهم بأن الدولة العلمانية هي شر مؤكد، فضلًا عن كونها غير إسلامية.
بعد سنة كارثية في السلطة، والاعتماد على الدين كأساس للحكم، لا أرغب بترويج الأوهام – كما يفعل البعض – فيما يتعلق بالتزام جماعة الإخوان المسلمين بالأسس الديمقراطية؛ فمثل الحركات اليمينية المتطرفة في أوروبا، لا ترى قيادة الإخوان المسلمين العملية الديمقراطية على أنها أداة لنقل السلطة سلميًا، بل إنها تعتبرها الجسر الموصل إلى القصر الرئاسي، الذي عمدوا إلى إغلاق بابه وإيصاده بإحكام إثر دخولهم إليه.
ولكن النزعات المعادية للديمقراطية التي يحملها الإخوان، ليست مبررًا لاضطهاد الحركة وتشويه صورتها، ومشاركتها في العملية السياسية هو حل أفضل بكثير من تحويل أعضائها إلى أشخاص منبوذين اجتماعيًا أو منفيين خارج البلاد، فهؤلاء الذين لم يبق لديهم شيء ليخسروه، قد يكونون على استعداد لخسارة كل شيء.
ولكن، للأسف، ضمن الثقافة السياسية ضحلة المحصلة في مصر، فإن العقلية المسيطرة هي عقلية أن الفائز يحظى بكل شيء، فبعد الإطاحة بمبارك، تشبث المجلس الأعلى للقوات المسلحة بوحشية لا مثيل لها بالسلطة، وذلك لفترة طويلة سمحت له بقلب الأمور إلى صالحه، وخصوصًا عندما تهددت مصالحه الاقتصادية الإقطاعية الهائلة؛ فالجيش كان يأمل أن تؤدي عمليات الانتقال الديمقراطي إلى ظهور برلمان بلا أنياب، ورئيس كسيح بلا سلطة، يمكن السيطرة عليه من خلف الكواليس.
الاستيلاء على السلطة
يكن القول إن الإخوان المسلمين أسسوا – بلا قصد – لنواة حركة الاستيلاء على السلطة من قبضتهم، وذلك حين قام مرسي بشكل غريب بتعيين السيسي في رئاسة المجلس العسكري، لأنه كان يعتقد – على ما يبدو – أنه متعاطف مع قضيتهم، وأنه مبتدئ وعديم الخبرة، مما يبعده عن أفكار الهيمنة والسيطرة على الحكم، ولكن عندما باشر مرسي الحكم وفق قرار رئاسي مخالف للدستور، لم يؤد هذا إلى تقويض شعبيته بشكل كبير في جميع أنحاء مصر فحسب، بل أدى أيضًا إلى تمحوره في مسار تصادمي وجهًا لوجه مع مؤسسة الجيش.
وهنا، استغل الجيش الفشل والإخفاق الكبير الذي عانى منه مرسي، بالإضافة إلى المعارضة المطردة التي باشرت بالظهور ضد حكمه، كتذكرة عودة تضمن له الرجوع إلى موقع القيادة، وبدعم شعبي مؤقت، عزز نظام السيسي سيطرته على السلطة على نطاق واسع، وشهدت مصر منذ ذاك الوقت موجة عارمة من العنف والقهر، الذي لم يعاني منه الإخوان فقط، ولكن أيضًا المعارضة العلمانية.
هذه الممارسات المجنونة لسلطة الدولة، ساعدت على انخفاض الهوس الشعبي بالسيسي بشكل كبير، ويظهر هذا الانخفاض بشكل جلي بانخفاض شعبية السيسي ضمن وسائل الإعلام بشكل صارخ بالمقارنة مع شعبيته قبل وصوله إلى دفة الحكم، وعلى الرغم من القمع الهائل الممارس ضد الصحافة وحرية الإعلام، بيد أن أصوات المعارضة والانتقادات بدأت ترتفع مرة أخرى في وسائل الإعلام، حتى إن بعضها باشر بالدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة.
أخيرًا، ومع استمرار الآلة القمعية للدولة بالعمل في أقصى جهد لها، يتواجه نظام السيسي بخيارين واضحين وقاسيين: إما اتباع نهج بشار الأسد والدفع بالبلاد نحو الهاوية، أو اتباع مسار تونس في المصالحة وسياسة التوافق والديمقراطية.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية