ترجمة وتحرير نون بوست
بعد أربع سنوات من عمل قطر مع منتقديها، في محاولة فاشلة حتى الآن لتحويل استضافتها لبطولة كأس العالم إلى أداة ناجحة كقوة ناعمة، يبدو أن قطر قررت أن ميل المنطقة لترهيب أولئك الذين لا يصطفون في خطها، قد تكون إستراتيجية أكثر فعالية.
ولكن من خلال تبنيها لهذا المنهج، يبدو أن قطر تتراجع عن سجلها المتمثل بكونها الدولة الخليجية الوحيدة التي لا تحظر دخول النقاد أو تعتقلهم – وهي ممارسة معتادة في معظم بلدان المنطقة -، بل تعمل مع منظمات حقوق الإنسان والناشطين النقابيين لمعالجة المخاوف بشأن ظروف عمل ومعيشة العمال المهاجرين، الذين يشكلون غالبية السكان في قطر.
وهذا التعاون نتج عنه مؤسسات قطرية هامة ورئيسية، تعتمد معايير استشرافية من شأنها تحسين وتحديث وتطوير – ولكن ليس إلغاء – نظام الكفالة القطري المثير للجدل، والذي يضع العمال تحت رحمة أرباب عملهم.
أنتج التعاون القطري أيضًا فهمًا بين قطاعات كبيرة من المجتمع الدولي لحقوق الإنسان، بما في ذلك منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، للقضايا الوجودية التي تتعلق بإصلاح سوق العمل في البلد الذي يمثل المواطنون فيه 12% فقط من السكان، ولكن يخشى الكثير من القطريين أن التلاعب بنظام العمل، سيكون بمثابة فتح صندوق باندورا، صندوق كل الشرور، مما قد يؤدي إلى فقدان سيطرتهم على مجتمعهم وثقافته.
برز قطاع العمل كعامل مزعج يقف في وجه نجاح قطر في الفوز بحق استضافة كأس العالم لعام 2022، وذلك على خلفية ارتفاع معدل وفيات العمال نسبيًا، وانتقاد الأوضاع التي يعيش ويعمل بها العمال الأسيويين في المقام الأول، وقد اعترفت قطر أنها بحاجة إلى إصلاح نظام العمل، في محاولة منها لإتقاء الدعوات التي تدعو لحرمانها من حقوق استضافة كأس العالم، لكنها كانت بطيئة في تنفيذ الإصلاحات.
ثيو زفانتسيجر، العضو السابق للجنة التنفيذية في الفيفا، والمسؤول عن رصد التقدم القطري في إصلاح سوق العمل، والناقد لقطر منذ فترة طويلة، حذر من أن النهج البطيء والوتيرة الحلزونية في الدولة الخليجية، قد يؤدي إلى الاستجابة لطلبات إزاحة قطر عن استضافة كأس العالم، والجدير بالذكر أن تحذيرات زفانتسيجر لم تظهر عندما تراجعت روسيا، الدولة المضيفة لبطولة كأس العالم عام 2018، عن ضماناتها التي قدمتها للفيفا، والمتمثلة بأنها ستوقف العمل بقوانين العمل، فيما يتعلق بالمشاريع المتعلقة بكأس العالم.
التراجع القطري جاء على شكل اعتقال الصحفيين الأجانب، بما في ذلك الصحفيين الذين دعتهم الحكومة، الذين يحققون في معيشة العمال وظروف عملهم، والتحذيرات التي ترسل بها قطر للأشخاص الموجودين في الدولة، والذين عملوا مع المؤسسات القطرية وجماعات حقوق الإنسان والنقابات العمالية، تأتي في الوقت الذي تعتمد فيه دول الخليج سياسات إقليمية وخارجية أكثر حزمًا، حيث تنضم قطر إلى هذا التيار المحافظ الخليجي.
ومن ذلك ما قامت به دولة الإمارات العربية المتحدة في الأسابيع الأخيرة من منع دخول أستاذ في جامعة نيويورك، الذي كان من المقرر أن يحضر مؤتمرًا في حرم جامعة أبوظبي، كما منعت دخول رسامين مشهورين، أحدهما يعمل مع متحف غوغنهايم، بسبب انتقادهم لنظام العمل في الإمارات العربية المتحدة.
دول الخليج لا تثق بسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ولاسيّما طريقة إدارة وتعامل أوباما فيما يخص المفاوضات النووية مع إيران، والتي من شأنها أن تسمح بعودة الجمهورية الإسلامية إلى الحظيرة الدولية، كما تشعر هذه الدول أيضًا أن إيران تلقي بقوتها ضمن المنطقة من خلال وكلائها الذين أصبحوا يطوقون منطقة الخليج، وردًا على ذلك، تحولت دول الخليج بقيادة المملكة العربية السعودية إلى حالة عسكرية وسياسية أكثر عنفًا وحزمًا، كما هو الحال في اليمن، حيث شنت قوات التحالف الخليجي حملة تفجيرات مدمرة، وفي سورية التي عمدت دول الخليج فيها مؤخرًا إلى تصعيد دعم المتمردين الذين يقاتلون نظام الرئيس بشار الأسد.
بدأ التحول الخليجي الحازم مع قيام القوات السعودية بمساعدة مملكة البحرين في قمع الثورة الشعبية في عام 2011 بوحشية شديدة، وبعدها قامت السعودية جنبًا إلى جنب مع الإمارات والكويت بدعم انقلاب عسكري في مصر في عام 2013 بقيادة عبد الفتاح السيسي، وفي وقت الانقلاب، بدت قطر بعلاقاتها الوثيقة مع الإخوان المسلمين، وكأنها الدولة الخليجية الوحيدة التي تعمل وفق مسار مستقل.
ولكن، ما إن بدأت قطر تنسجم وتتواءم مع النهج الأكثر عنفًا وحزمًا السائد في دول الخليج، حتى حلت عمان مكان قطر باعتبارها الدولة الشاذة في مجلس التعاون الخليجي – وهي المجموعة الإقليمية التي تجمع بين المملكة العربية السعودية، قطر، عمان، البحرين، الإمارات، والكويت -، حيث رفضت عمان الانضمام إلى الحملة الخليجية لقصف اليمن، كما عمدت إلى التوسط في الاتصالات الأمريكية – الإيرانية في بداية المطاف، مما أثمر عن انطلاق المحادثات النووية فيما بعد، ورفض عمان أيضًا عسكرة دول مجلس التعاون الخليجي.
في أحدث دليل على تراجع النهج القطري، اعتقلت قوات الأمن القطرية فريق تلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية BBC، الذي تمت دعوته من قِبل الحكومة لتقديم تقرير عن قضايا العمل، “نحن دُعينا إلى قطر من قِبل مكتب رئيس الوزراء للتعرف على أماكن الإقامة الرئيسية الجديدة للعمال المهاجرين ذوي الأجور المنخفضة، ولكن في الوقت الذي كنا نجمع فيه مواد إضافية لتقريرنا، انتهى بنا الأمر في السجن وذلك في خضم قيامنا بعملنا” كتب مارك لوبيل على موقع BBC على الإنترنت.
والجدير بالذكر أن حادثة اعتقال مراسلي البي بي سي لمدة 13 ساعة، جاءت بعد حادثة اعتقال فريق التلفزيون الألماني التي تمت أيضًا في وقت سابق من هذا العام، حيث تمت مصادرة معدات كلا الفريقين، وتم إعادتها إلى فريق التصوير الألماني بعد محو جميع البيانات التي تحتويها، وفي دفاع خجول عن هذه المواقف؛ ذكرت اللجنة القطرية العليا للمشاريع والإرث المسؤولة عن كأس العالم 2022، أن الطاقم الألماني فشل في الحصول على الأذونات المناسبة للتصوير، ولكن هذه الحجة لا تتوافر في حالة مراسلي البي بي سي.
إن رفض الفيفا لنتائج الفيلم الوثائقي الألماني، وخصوصًا حقيقة أنها أعربت عن دهشتها بأن أحد شركائها الإعلاميين يقدم تقاريرًا نقدية مستقلة حول الفيفا، يثير تساؤلات حول مدى صدق تعهدات الفيفا بالتحقيق في احتجاز صحفيي البي بي سي، حيث أصدرت الفيفا بيانًا حول هذا الموضوع جاء فيه “أي حادثة مرتبطة بالتقييد الواضح لحرية الصحافة، تشكل مصدر قلق للفيفا، وسيتم النظر فيها بالجدية التي تستحقها”، علمًا أن المنظمة لم تصدر بيانًا مماثلًا عندما اعتقل الفريق الألماني.
من غير الواضح بعد ما إذا كان موقف قطر الخشن الجديد الذي تمثل باتخاذ قوات الأمن موقف أكثر صرامة، وانعكس أيضًا على تردد قطر من الظهور في الوسائل الإعلامية، بعد أن تم نُصحها بضرورة الابتعاد عن الأضواء هذه الفترة وفقًا للتقارير -، ناجم ببساطة عن قيام قطر بتعزيز العلاقات الأمنية والاستخباراتية مع دول الخليج الأخرى، أو أن هذا الموقف يعكس تغييرًا شاملًا ودائمًا في النهج القطري.
إن التغيير الحالي الذي يشهده النهج القطري قد يكون مؤشرًا على تحول جزئي عن الفكرة التي ترى القوة الناعمة باعتبارها الركيزة الأساسية للبنية الأمنية والدفاعية في غياب القوى العاملة أو العمق الإستراتيجي، والتحول هذا يتوجه نحو تبني القوة الخشنة اقتداءً بالنموذج السعودي للقوة العسكرية الفتاكة، حيث زادت قطر العام الماضي من مشترياتها للأسلحة بإنفاق مبلغ 11 مليار دولارًا في صفقة مع أمريكا، تسعى فيها لوضع يدها على صواريخ باتريوت الأمريكية.
ومع ذلك، ونظرًا لكون قطر محصورة ما بين إيران عبر الخليج المجاور لها، والمملكة العربية السعودية جنوبًا، فإنها تعتبر المملكة السعودية على أنها حليف وتهديد على حد سواء، لذا من المرجح أن تحاول قطر موازنة مواقفها لتتلاقى مع هذه النظرة، حتى لو تبنت بعض التكتيكات القمعية التي تعتمدها السعودية.
في النهاية، لا يهم حقًا النهج الذي تعتمده قطر باعتبارها دولة ذات طبيعة استبدادية تتميز بدائرة صنع قرار شديدة المركزية، ولكن ما هو على المحك الآن هو إمكانية تحول قطر لتصبح مثالًا نادرًا في حدث رياضي عملاق، لتخلف ورائها إرثًا من التغيير الاجتماعي، والسياسي ربما، حيث يقدم كأس العالم فرصة لقطر للمضي قدمًا والظهور كنموذج إقليمي استشرافي للقرن الـ21، والسؤال هو ما إذا كان التراجع القطري سوف يهدر هذه الفرصة الفريدة من نوعها في الدولة الخليجية أم لا.
المصدر: يور ميدل إيست