بمجرد وصولك إلى مطار نيويورك، كنت لتجد في استقبالك منشورات ترحب بك في “مدينة الخوف”، وتحذرك بوضوح لتحاول الابتعاد عن مدينة نيويورك حتى تتغير أحوالها للأفضل، مع قائمة من الاحتياطات يجب اتخاذها في مدينة تضاعفت فيها معدلات الجريمة خلال سنوات قليلة، إن كنت تريد أن تخرج منها حيًا.
كان تلك هي نيويورك في صيف عام 1975، حين ضربتها واحدة من أسوأ أزماتها المالية، لتجعل من صورتها في أذهان الكثيرين قريبة لبيروت، والتي ضربتها الحرب الأهلية في نفس الفترة، حيث كان السياح يتلقون النصائح بعدم السير في منهاتن بعد السادسة مساءً، وأن يمسكوا بحقائبهم جيدًا، وأن يخفوا أي ممتلكات ثمينة عن أعين العامة، وألا يثقوا بالمسؤولين في الفنادق.
فوق كل ذلك، كانت المفارقة هي أن شرطة نيويورك بنفسها هي من يوزع هذه المنشورات، والتي احتج عليها عُمدة المدينة آنذاك، أبِه بيم، خوفًا على دخل المدينة التي تعتمد على السياحة بشكل كبير، ليقاضي الجهات المسؤولة عن نشرها، ويخسر القضية، والتي حكمت فيها المحكمة باعتبار المنشورات جزءًا من حرية التعبير المكفولة في الدستور الأمريكي.
ما الذي دفع نيويورك إلى تلك النقطة القريبة من الانهيار إذن عام 1975؟
أزمة نيويورك المالية
هي واحدة من أحلك اللحظات التي مرت على المدينة، وربما على الولايات المتحدة كلها، حين بدا وأن أكبر وأهم مدن العالم قد أوشكت على الانهيار، لا سيما وأن الرئيس الأمريكي آنذاك، جيرالد فورد، وفي حملة قادها على سياسات المدينة المالية، قرر أن يركّع المدينة، ورفض مدها بالمعونة التي تحتاجها بعد أن اتجهت إلى واشنطن للدعم، وكانت المنشورات في الحقيقة جزءًا من حملة الضغط التي قادها موظفو الخدمات العامة في المدينة للضغط عليه.
بالطبع كانت المنشورات مبالغة بعض الشيء، فالتحرك بعد السادسة مساءً لم يكن يمثل تلك الخطورة على حياة الناس، وكانت هناك أحياء كثيرة آمنة، بيد أن معدلات القتل بشكل عام كانت بالفعل في ارتفاع مقارنة بمنتصف الستينيات، كما تضاعفت أيضًا معدلات الهجمات على السيارات وجرائم الاغتصاب وسرقات البيوت، مما جعل الكثيرين من سكان المدينة يشعرون بنوع من تفكك المنظومة الاجتماعية القائمة، بل وتشبيه المدينة بمدن ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية.
علاوة على ذلك، كانت الخدمات العامة في حالة سيئة، حيث اتسمت عربات المترو بالقذارة الشديدة، واختفت تقريبًا الحمامات العمومية لينتشر قضاء الحاجة في الشوارع، والتي لم تقل حالتها سوءًا عن خطوط المترو، ولم تسلم من ذلك دور السينما والمسارح التاريخية بمنطقة تايمز سكوير الشهيرة، والتي تُركِت إما لاستحواذ الشركات أو للتهالك والسقوط من تلقاء نفسها، ولا الجسور الكبيرة، مثل كباري إيست ريفر، والتي صدأت حتى أصبحت على حافة الانهيار.
كان السبب الرئيسي في كل ذلك هو سياسة تشغيل الميزانية عن طريق الديون قصيرة المدى، والتي اعتمدت عليها المدينة لحوالي عشر سنوات، لتجعل نظامها المالي عشوائي وغير موثّق بشكل رسمي، وليصل دين المدينة إلى أكثر من 5 مليارات دولار، من أصل ميزانية بلغت 11 مليار دولار، وهي بالطبع نسبة كبيرة جدًا.
بين واشنطن ونيويورك
بعد أن رفضت واشنطن مساعدة نيويورك، قام عُمدة المدينة بدعم من الرئاسة بانتهاج سياسة تقشف أثرت بشكل كبير على موظفي الخدمات العامة، حيث تم تخفيض الرواتب والمعاشات، والاستغناء عن الآلاف من الموظفين (حوالي واحد من كل ستة)، لتبدأ حملة لمواجهة التقشف من جانبهم، لا سيما من مجلس السلامة العامة، والذي كان معظم أعضائه من ضباط الشرطة.
بعد سنوات من تحمّل تبعات السياسة المالية السيئة للمدينة، والاستمرار في تقديم الخدمات الأساسية، رفض موظفو المستشفيات والمترو والمطافي والشرطة ممن بذلوا الغالي والنفيس في معالجة مرضى الهيروين وإصلاح عربات المترو المتهالكة ومواجهة الحرائق هنا وهناك والوقوف بوجه ميليشيات النشطاء من السود ذوي الأصل الأفريقي، أن يصبحوا هم كبش فداء الأزمة المالية للمدينة.
لذلك، قرر رئيس مجلس السلامة العامة، كِن ماكفيلي، بدء حملة “مدينة الخوف،” والتي اشتملت على توزيع منشورات لتحذير الزوار، وتشكيل ضغط على الجهات المالية لترفض خطة التقشف الجديدة، والتي أدت لتسريح حوالي 45،000 من الخدمات المختلفة، ليتبع ذلك إضراب عمال النظافة ليومين، تاركين حوالي خمسين ألف طن من القمامة في الشوارع، تحت شعار “إنها مدينة العفن لا مدينة الخوف،” This isn’t Fear City, it’s Stink City! ثم انضم المعلمون لركب المعترضين، بعد تسريح سبعة آلاف منهم، وساروا في الشوارع حاملين لافتات تقول، “هي مدينة الخوف، والعفن، والآن، الغباء أيضًا!”
على الناحية الأخرى، رفض بعض الموظفين الانضمام لتلك الحملة بحجة مسؤوليتهم أمام العامة عن تقديم الخدمات الأساسية، وأن الناس لا يجب أن يكونوا هم الضحية ليتمكنوا هم من الضغط على السلطات، “نحن في موقع قوي الآن يسمح لنا بتدمير المدينة، ولكن أمرًا كهذا سيكون مشينًا لأي اتحاد عمالي، لأننا ملزمون ومسؤولون أمام الناس، كما أنه لا فائدة من تخريب المدينة بهذا الشكل،” كذا قال جوتباوم، أحد القياديين العماليين آنذاك.
بعد مرور يومين، تراجع مجلس السلامة العامة قليلًا عن مواقفه من حملة “مدينة الخوف،” لتتفادي بذلك نيويورك، والولايات المتحدة، مصيرًا غير معلوم كان ربما سيؤدي بالمدينة إلى الانهيار والشلل التام، وهو تحوّل، لحُسن الحظ، تبعه تحول آخر في الرأي العام لصالح إنقاذ المدينة، مما دفع الرئيس فورد لتمرير قانون في الكونجرس يعطي بموجبه المدينة حوالي 2.3 مليار دولار سنويًا لثلاث سنوات كقروض مباشرة.
على الرُغم من ذلك، لم يشفع التحول الأخير في مواقف فورد لتطرفه السابق وسياسات التقشف التي ساندها، لتصوّت المدينة لصالح المرشح الديمقراطي جيمي كارتر بفارق حوالي 700،000 صوت، وتبدأ تحت رئاسته حملة تعافي المدينة من سياسات التقشف التي أغضبت موظفي الخدمات العامة، وزادت الأوضاع الاقتصادية سوءًا، وظلت ترفع من معدلات الجريمة.
اليوم، وبعد أربعين عامًا، تقف نيويورك كمدينة ناجحة في الولايات المتحدة والعالم، دون أن يعلم الكثيرون أي مصير كان ينتظرها آنذاك، وبتعداد سكاني يشارف على العشرة ملايين، وبأحياء هادئة ومستقرة وغنية كانت يومًا ما جزءًا أساسيًا من الترويج لحملة مدينة الخوف نتيجة انتشار الجريمة فيها، والتي هبطت بشكل كبير على مدار العشرين سنة الماضية، لتصبح واحدة من أكثر المدن أمنًا الآن في أمريكا.
في 2014، شهدت نيويورك 328 جريمة قتل فقط، وهو أقل رقم منذ عام 1963، قبل أن تبدأ السياسات المالية في جذب المدينة للأسفل وصولًا لأزمة منتصف السبعينيات، وهو ما جلب لها حوالي 56 مليون زائر، مقارنة بخمسة ملايين فقط عام 1975، وهو اتجاه يستمر في نجاحه بمرور 12 يومًا متواصلين في فبراير الماضي دون تسجيل جريمة قتل واحدة، لأول مرة في تاريخ المدينة.
هل أصبحت المدينة مثالية إذن؟ بالطبع لا، فمشاكلها الرئيسية تكمن في ارتفاع أسعار العقارات بشكل كبير، وسوء توزيع الثروات وغياب المساواة، وتزايد الفجوة بين الفقراء والأغنياء، حيث تشير الإحصاءات إلى حوالي مليون مليونير يعيش في المدينة، بالإضافة لـ85 ملياردير، في مقابل 21٪ من سكانها يعيشون في فقر، والباحثون عن منزل بمانهاتن على سبيل المثال قد يجدون أنفسهم في حاجة إلى دفع أكثر من مليون دولار للحصول عليه.
لا تزال نيويورك إذن مدينة مخيفة نوعًا ما، بمنظومتها الاقتصادية الحالية، وإن لم تعد مخيفة بشكل شامل لزوارها كما كانت يومًا ما.