الدعوات الموجهة إلى الرياض لمقاطعة هذا الأخطبوط الأمني على خلفية تعاونه مع إسرائيل، ورفعه راية الاحتلال، تزداد. حتّى تجارياً لا يبدو وضعه مرتاحاً بعدما تهشّمت سمعته بسبب الفساد الذي يسري في عروقه. سؤال يطرح نفسه على القيمين على مقدسات المسلمين: كيف يُبرم عقد مع الظلم من الأساس؟
كتب: حسن شقراني*
تحيط الهواجس الأمنية المواطن العربي من كلّ الاتجاهات. غير أنّ أسباباً كالخوف من المجهول أو التقصير اللوجستي ليست كافية لتبرير الاستعانة بإحدى أكثر الشركات الأمنية إثارة للجدل، وذلك نصرة لحقوق أشقاء يعانون الأمرّين تحت الاحتلال.
لم يعد سراً على أحد أنّ شركة G4S، التي تُعدّ الأولى عالمياً في الخدمات الأمنية المتشعبة، تعمل مع السلطات الإسرائيليّة في اضطهاد الشعب الفلسطيني. وليس خافياً أن عقودها التي تملأ العالم لها أيضاً موطئ قدم في لبنان؛ عدد لا بأس به من قراء هذه السطور لاحظ آلياتها أو عناصرها في بيروت مرّة بالحد الأدنى والآن تعود إليه الصورة.
في البلدان العربية الشركة مزدهرة لا شكّ؛ بل قل إنّ العرب هم أبرز المساهمين في إبقائها صامدة حالياً، فيما تعاني عبء قروض تبلغ قيمتها ملياري جنيه استرليني (ثلاثة مليارات دولار)، وغرق صيتها في السوق المالية، وفي أوساط الخبراء. أخيراً وقّعت معها إمارة دبي عقداً يُمكن أن يمتد ثلاث سنوات، لإدارة مهمات أمنية على مطارها ـــ مثل التدقيق في جوازات السفر، الفحوص الامنية وحتى خدمة الأمانات.
إلّا أن وضعيّة الشركة لم تكن فاقعة في المشهد العربي، إلى أن فجّرت قنبلتها الكبرى، حين أعلن الموقع الإلكتروني «أسرار عربية» كشف التعاون بين الرياض والشركة الأمنية. نقل القيمون على الموقع معلومات من نسخة عن مجلّة داخلية تصدرها الشركة تفيد بأن G4S «بدأت تقديم خدماتها إلى الحكومة السعودية منذ عام 2010، بعدما كانت قد أسست شركة خاصّة في المملكة باسم «المجال – جي فور أس» تتخذ من مدينة جدة، على بعد 80 كيلومتراً من مكة المكرمة مقراً لها». وجزم الموقع بأنّ الشركة نفسها هي التي «تقدّم الخدمات الأمنية في الأماكن المقدّسة».
تطورت القضية سريعاً وتعزّزت الدعوات إلى السعودية لوقف تعاملها مع الشركة. في رسالة موجّهة إلى السفير السعودي في المملكة المتّحدة، محمد بن نواف بن عبد العزيز، تقول المنظمة غير الحكومية البريطانية «أصدقاء الأقصى» (FOA) إنّ G4S تؤمّن خدمات للسلطات الإسرائيلية، منها إدارة السجون، الحواجز ونقاط التفتيش «التي تُستخدم لاضطهاد الفلسطينيين وحرمانهم حرية التحرك»، وبالتالي «تكون G4S فعلياً أداة تستخدمها إسرائيل دورياً لمخالفة القوانين الدولية والأعراف، حين يرتبط الأمر بالمعتقلين الفلسطينيين».
ويدعو مدير المنظمة، اسماعيل باتل، في الرسالة نفسها، السفير السعودي إلى التأمّل في حقيقة أنّ «منح الشركة عقداً لإدارة أحد الأمكنة الأكثر قدسية لدى المسلمين، غير مقبول»، وإلى اتخاذ موقف جازم من الأمر.
فعلاً، تقول منظمة «من المستفيد» (Who Profits?) في تقرير نشرته عام 2011 حول دور الشركة في انتهاك حقوق الإنسان في إسرائيل، إنّه استناداً إلى بيانات الشركة والمعلومات التي تنشرها، عمدت إلى تركيب أجهزة خاصة في منشأة كيشون للاحتجاز عام 2007. «ووفقاً للجمعيات الحقوقية هناك أدلة وافرة عن ممارسات تعذيب في المنشأة قبل ذلك التاريخ، هناك أدلة أيضاً على أن ممارسات مشابهة حصلت بعد ذلك التاريخ».
ربما فات السعوديين، والعرب إجمالاً، لدى توقيع عقودهم مع هذه الشركة كل ما يُثار حول ارتكاباتها، إلّا أنّ التنبيه ليس بعيداً، إذ إن صحيفة «غارديان» البريطانية التي تُعد رأس حربة في مواجهة مشروع هذه الشركة، مع ما يُمثّله من خصخصة لخدمات عامّة عادة ما تنتهي بفساد، طرحت قبل أيام الإشكالية تحت العنوان الذكي: «في موسم الحج هذا، على المسلمين أن يتساءلوا حول ممارسات الاستغلال». وانطلقت الصحيفة من عقد الرياض مع الشركة المثيرة للجدل والسخط في آن واحد، لتضيء على موقف الحجاج من استغلال العمّال في أعمال البناء والتطوير المكثّفة التي تشهدها مدينتا مكّة والمدينة «تماماً مثلما يُستغلّ العمال الأجانب الذين يشتغلون في تأهيل قطر لمونديال عام 2022». وقد وصفت الصحيفة تعاطي الشركات العاملة في قطر مع تلك الاستثمارات، التي تفوق 220 مليار دولار (أي ما يوازي 60 ضعفاً مما أنفقته جنوب أفريقيا للهدف نفسه)، بأنه «استعباد»، مع كشف أن العمال الأجانب توفّوا بمعدّل واحد كلّ يوم في الصيف الماضي.
هذه الممارسات التي يُفترض أن تخدش الحساسية تجاه القيم الإنسانية العامّة لدى الحجّاج، تُضاف إلى ممارسات قمعية تمارسها G4S في الأراضي الفلسطينية، فتُشكّل التوليفة الملائمة لكي يشهد موسم الحجّ ثورة ـــ وإن أخلاقية ـــ وفقاً للصورة التي ترسمها الصحيفة البريطانية.
بالعودة إلى بعض التفاصيل، سُجّلت الشركة عام 2004، بعد اندماج شركة Group 4 Falck الدانماركية مع شركة Securicor plc البريطانية. هذا يعني أن الكيان العامل تحت اسم G4S فتيٌّ نسبياً.
توظّف الشركة حالياً أكثر من 620 ألف شخص، وتُعدّ ثالث أكبر رب عمل في القطاع الخاص عالمياً. لها حضور في 130 بلدا، بينها لبنان. وقد خلص تحقيق نشرته «الأخبار» عام 2012 إلى أنّ لبنان هو البلد العربي الوحيد الذي يبدو أنّه يدفع صوب معاقبة الشركة ووقف التعامل معها وفقاً لمعايير مقاطعة إسرائيل. وقد أرسل لبنان إلى اللجنة المركزية لمقاطعة إسرائيل طلباً منذ عامين لبحث هذه القضية، لكن كلّ ما له صلة بالمقاطعة العربية لإسرائيل هو في حالة جمود نظراً لعدم إمكانية انعقاد مؤتمر المقاطعة الذي تستضيفه دمشق.
في خضم الوضع المحرج الذي تمر به، تدافع الشركة عن نفسها. تشدّد على أنه رغم انخراطها بنشاطات في إسرائيل إلا أنها منفصلة تماماً عن هيكلية وإدارة أعمالها في السعودية. وقد نقل موقع مرصد الشرق الأوسط عن متحدث باسم الشركة قوله: «رغم أننا لا نؤمّن الخدمات الأمنية مباشرة للحجاج، إلا أننا نُقدم الدعم الأمني لزبائن في السعودية، ويجب تعزيز ذلك الدعم في موسم الحج».
واستقبلت السعودية 3.1 ملايين حاج وحاجة في عام 2012، أما في العام الجاري، فقد خفضت كوتا الحجاج السعوديين بواقع النصف وتلك الخاصة بالقادمين من خارج المملكة بنسبة 20% بسبب أعمال التوسعة والتطوير التي يشهدها الموقع المقدّس وفقاً لما أعلنه وزير الحجّ بندر حجّار في حزيران الماضي.
وتأتي قضية G4S السعودية لتزيد الضغوط على شركة شيطَنت نفسها عبر ممارسات مباشرة وغير مباشرة منها المرتبط بالفساد وبخرق القوانين الدولية (كما هو الحال في إسرائيل) ومنها التجاري البحت.
وفقاً لتقرير أعده محللو الأسواق المالية في المصرف الملكي الكندي (RBC) أخيراً، فإنّ الشركة «ضلّت طريقها خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة». يقول إنّ الفضائح والأداء السيّئ الذي طبع سمعتها أخيراً هما عوامل «تسمح للسوق بالتشكيك في كلّ شيء من مقومات النمو (التي تتمتع بها) وصولاً إلى إدارتها مروراً بنوعية الأنظمة وأدوات الضبط التي تعتمدها».
بالفعل، مع بداية تشرين الاوّل الجاري، طلب الصندوق الاستثماري السويدي الأصل، Cevian Capital، من الشركة أن تبيع جزءاً من نشاطاتها ـــ أي أن تتفكّك ــــ من جراء سلسلة الفضائح التي تعصف بها، والتي تؤثر في أعمالها.
يملك هذا الصندوق المدعوم من المستثمر الأميركي العملاق كارل إيكاهن، قرابة 5% من الشركة، ويُصوّب تحديداً على فصل الاعمال الخاصة بالنقل الآمن للأموال من المؤسسات إلى المصارف عن هيكل الشركة.
يُشار هنا إلى أنّ من بين المستثمرين الكبار أيضاً، للمفارقة، مؤسسة بيل غايتس، الذي يُعد أبا مايكروسوفت المتحوّل إلى الأعمال الخيرية.
مصاعب G4S لا تنبع فقط من الارتباط بإسرائيل في مشاريعها، فالفضائح الأخرى التي مرّت بها تُعد دسمة، بحجم سَجن الأطفال تحت راية الاحتلال. خلال الألعاب الأولمبية في لندن عام 2012، فشلت الشركة في تأمين العديد اللازم من عناصر الأمن وفقاً للاتفاق الموقع مع السلطات البريطانية؛ مع العلم أن الموضة التي كنت ترصدها أينما كان في شوارع لندن ذلك العام كانت ترويج السلطات لاستبدال عناصر الأمن الرسميين بالشركة الخاصة. كلّفت هذه الفضيحة الشركة عشرات ملايين الدولارات واضطرّ مديرها التنفيذي إلى الاستقالة.
ولكنْ مباشرةً في الصيف اللاحق للأولمبياد، دخلت الشركة مع منافستها Zerco في معمعة فضائحية جديدة، حيث تبين أنهما تقاضتا أكلافاً مضخّمة من وزارة العدل البريطانية لتأمين الشرائح الإلكترونية التي تُستخدم لوسم السجناء؛ ليس سهلاً تنظيف سمعة ملطخة بتحقيق أجراه مكتب عمليات الاحتيالات الخطيرة، حتى لو لم تكن نتائجه بخطورة الاتهامات.
مهلاً، لم تنته الفضائح. أخيراً خلال مؤتمر حزب المحافظين البريطاني رُصد بعض عناصر الشركة التي كانت مكلفة توفير الأمن ينقلون زجاجات شامبانيا من نوعية Ruinart Blanc de Blanc إلى مركز المؤتمر الذي حمل شعار «مع حقوق الشعب الكادح».
صحيح أن مدخل الفندق الذي استضاف المؤتمر تزينه خمس نجوم براقة، وصحيح أنّ الشامبانيا الغالية ليست جرماً في مناسبات كهذه، لكن لدى مزج كل المعطيات، وبنظر الرأي العام الغاضب، لا يُمكن التسامح بعد اليوم مع أي فضيحة جديدة للشركة، التي يبلغ حجم أعمالها مع الحكومة البريطانية مليار جنيه استرليني سنوياً (1.5 مليار دولار).
فضائح متنقلة
للشركة تاريخ أيضاً في فضائح العقود المبرمة مع حكومات أخرى. في نهاية الصيف الماضي كشفت صحيفة «غارديان» أنّها لم تحترم العقد الموقع مع أوستراليا في ما خصّ إصدار التقارير الدورية عن أحوال مراكز الحجز «ما يثير القلق حول نوعية الرعاية التي يحصل عليها طالبو اللجوء، وما إذا كانت المراكز مراقبة فعلياً من قبل دائرة الهجرة».
ومن أوستراليا إلى جنوب أفريقيا، حيث تواجه الشركة مذكرات عقابية لخرقها العقد الموقّع مع السلطات لإدارة إصلاحية «مانغونغ». صحيح أن قيمة الغرامات المفروضة عليها لا تُذكر، وأن الشركة تطلب تحكيم طرف ثالث لكي تقبل دفعها، إلّا أن القضية تُعدّ ضربة أخرى لسمعة G4S.
*محتوى منقول من جريدة الأخبار اللبنانية