منذ السابع والعشرين من مارس، أطلقت السعودية عملية عسكرية في اليمن، عمادها حملة من القصف الجوي ضد مواقع الحوثيين والقوات العسكرية الموالية للرئيس السابق عبد الله صالح، خلال أيام، تكمل هذه العملية شهرها الثاني، بالرغم من أن طبيعتها قد تغيرت قليلًا من حملة للقصف الإستراتيجي، إلى حملة للتعامل مع أهداف تكتيكية ومساندة المقاومة اليمنية الشعبية، وأنها علقت لخمسة أيام من الهدنة الإنسانية.
الواضح أن من خططوا للعملية لم يتصوروا أنها ستطول هذا الوقت كله، ربما لأنهم لم يدركوا أصلًا أن المعركة في اليمن لم تعد مع الحوثيين، بل الأغلبية العظمى من قوات الجيش اليمني، الذي بُني طوال عقود، جغرافيًا وقبليًا، على الولاء لعبد الله صالح وأسرته، ولكن الواضح أيضًا أن السعوديين، طالت الأزمة اليمنية أو قصرت، باتوا مصممين على خوضها إلى النهاية، تم اعتبار اليمن دائمًا خاصرة السعودية الإستراتيجية، وبالرغم من اضطراب الرؤية السعودية الإقليمية والعربية خلال عهد الملك عبد الله، إلا أن الرياض ما كانت لتقبل أن يصبح اليمن منطقة نفوذ إيراني، مهما كانت التكاليف، وأن التدخل السعودي في اليمن أصبح مسألة وقت، مهما كان الأمر، فقد قرر السعوديون خوض معركة اليمن بغطاء من القيادة الشرعية اليمنية، وفي إطار من تحالف عربي، لا يضم دول الخليج وحسب، وربما تفاجأ السعوديون بحجم التأييد الذي أعلنته القوى السياسية العربية، والشارع العربي للتدخل في اليمن.
السؤال الآن، هل المعركة الدائرة ليست سوى معركة خاصة باليمن، محدودة بحدوده، أو أن اليمن يؤشر إلى بداية صراع عربي ـ إيراني طويل وواسع النطاق؟
بدأ التوسع الإيراني في الجوار العربي بصورة حثيثة منذ 2003 والغزو الأمريكي للعراق، لاسيما أن القوى السياسية العراقية الحليفة لإيران كانت هي ذاتها شريك الولايات المتحدة في غزو بلادها واحتلاله، خلال فترة قصيرة، بدا واضحًا أن المشروع الأمريكي في العراق يواجه مقاومة صلبة من الشعب، وأن الطبقة السياسية الحليفة لإدارة الاحتلال أعجز عن أن تقود دولة مثل العراق، أو أن تستطيع إعادة بناء اللحمة الوطنية العراقية، تحول العراق إلى منطقة فراغ إستراتيجي هائل، أفسح المجال لاندفاعة إيرانية كبيرة وواسعة.
خلال العقد التالي، عززت إيران عبر حزب الله نفوذها في لبنان، وحافظت على علاقات وثيقة بدمشق، ولم تلبث العلاقات مع النظام السوري أن تحولت إلى ما يشبه الاحتلال الإيراني غير الرسمي لمؤسسة الدولة السورية، بعد أن أصبحت إيران السند الأكبر لنظام دمشق في حربه ضد ثورة شعبه، المندلعة منذ 2011، توسع النفوذ الإيراني في اليمن، من جهة أخرى، جمع بين الحالتين اللبنانية والسورية معًا.
ارتبطت الحركة الحوثية منذ نشأتها ارتباطًا دينيًا وسياسيًا مع إيران، ولكن مناخ الاضطراب وفقدان الاستقرار الذي ولد من الثورة اليمنية، ومن المبادرة الخليجية التي أسست لتنحي عبد الله صالح عن السلطة، كان ما سمح للحوثيين بالانتشار الكبير في البلاد، حاملين معهم نفوذًا إيرانيًا غير مسبوق، مع بداية هذا العام، لم يعد مدهشًا أن تُطلق تصريحات من شخصيات نافذة في طهران حول ولادة إمبراطورية إيرانية في الشرق الأوسط، وحول دائرة نفوذ إيرانية تصل إلى البحرين المتوسط والأحمر.
أثار التوسع الإيراني في الجوار العربية ردود فعل شعبية مناهضة، وشعورًا عربيًا بالمهانة والعجز، ولكن ردود الفعل الرسمية لم تكن متسقة، الحقيقة، أن بعض دول الخليج، بما في ذلك السعودية، وبالرغم من خلافها مع إيران في بعض الملفات وقلقها من خطوات توسع النفوذ الإيرانية، تصرفت وكأن شراكة ضمنية تجمعها مع إيران في مواجهة رياح الثورة والتغيير التي عصفت بدول المجال العربي منذ 2011.
الخلاف كان على التفاصيل أكثر منه على جوهر مواجهة حركة الثورة والتغيير، كما أن إيران رأت في مطالب الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية خطرًا على حلفائها في بغداد ودمشق وبيروت، كذلك رأت دول خليجية خطرًا مشابهًا في مصر وليبيا وتونس والأردن، وصفت إيران الحركة الشعبية التي اندلعت ضد حلفائها العرب بالإرهاب، وتعاملت السعودية ودول خليجية أخرى مع الحركة الشعبية باعتبارها ليست سوى تجلي للإسلام السياسي، الذي يسعى إلى إطاحة الاستقرار والوضع العربي الراهن باسم الديمقراطية والحرية، ولم يكن مدهشًا، في النهاية، أن تكرس أموال وجهود ومقدرات لمحاصرة حركة الثورة العربية، والإطاحة بالقوى الديمقراطية الإسلامية، أكثر بكثير مما كُرس لمواجهة التوسع الإيراني الحثيث في الجوار.
عملية اليمن تبدو وكأنها خطوة أولى نحو نهج جديد، في اليمن نفسه، استبطنت المبادرة الخليجية بقاء عبد الله صالح رقمًا أساسيًا في معادلة السياسة اليمنية، على اعتبار أنه القوة القادرة على إبعاد التجمع اليمني للإصلاح وتهميشه، في سورية، وبعد عامين من تبني سياسة سعودية مغامرة، استهدفت صناعة قوى مسلحة جديدة، ومحاصرة مجموعات الثوار ذات التوجه الإسلامي، ثمة أدلة على عودة التنسيق والتعاون بين الدول الثلاث المؤيدة للشعب السوري وثورته؛ تركيا والسعودية وقطر، وأن الدول الثلاث أصبحت أكثر حرصًا على وحدة جماعات الثوار وانخراطها في عمل ميداني مشترك، منها إلى سياسات التفضيل والحظر والاستبعاد السابقة، ليس من الواضح ما إن كانت الدول الثلاث قد قررت العمل على كسر الفيتو الأمريكي على سقوط نظام الأسد، ولكن الواضح أن تعاونها آخذ في إحداث متغيرات ملموسة في ساحة الحرب.
في العراق، ليس ثمة من مؤشر على وجود دور عربي نشط، حتى بعد أن أعادت معظم الدول العربية علاقاتها الدبلوماسية مع حكومة العبادي، بموافقة من بغداد وإربيل وواشنطن، وإن كانت موافقة على مضض، افتتح الأتراك مؤخرًا في شمال العراق معسكرًا لتدريب العرب السنة، المفترض أن المعسكر سيدرب عراقيين من محافظة صلاح الدين لمواجهة داعش، ولكن الأرجح أنه لن يقتصر على هؤلاء، إلى أي حد تعتبر الخطوة التركية مقدمة لتبلور إستراتيجية عمل عربية ـ تركية في العراق؟ سؤال يصعب الإجابة عليه في هذه اللحظة.
منذ ولادتها كدولة ذات هوية وبنية سياسية مستقلة عن جوارها الإسلامي، في مطلع القرن السادس عشر الميلادي، شكلت إيران معضلة كبيرة للعثمانيين أولًا ثم للدول العربية وتركيا بعد ذلك، هذا جار مسلم، تجمعه بجواره روابط الدين والتاريخ والجغرافيا، المقدس والاقتصادي والجيو- سياسي، على السواء، ولكن هوية الجار الطائفية الخاصة وموجات طموحاته الإمبراطورية خلال القرون الخمسة الماضية، أسست لعلاقة متقلبة وغير مستقرة بين إيران وجوارها العربي والتركي، وما يشهده المشرق اليوم ليس سوى حلقة جديدة في اندفاعات التوسع الإيراني المتكررة في القرون الخمسة الماضية.
وسيتجلى الصراع بين هذه الاندفاعة والجوار في صيغ مختلفة، عسكرية وسياسية، ثقافية ودينية، اقتصادية واستخباراتية، وربما لن يحتاج هذا الصراع أن يستمر لسنوات أو عقود، إن وجدت أطرافه المختلفة من الحكمة والعقل والمصلحة ما يكفي لأن تجلس للتفاوض ورسم حدود المصالح المختلفة، ولكن المؤكد، طال هذا الصراع أو قصر، أن الدول العربية والخليجية منها على وجه الخصوص، لن تستطيع خوضه وهي تدعم نظامًا انقلابيًا قاتلًا في مصر، وحفنة من الضباط المهووسين بالحكم والسلطة في ليبيا، أو وهي تخوض حربًا إقصائية ضد التيار الإسلامي السياسي في المجال العربي.
ثمة حاجة ملحة وضرورية لبناء أسس جديدة لعلاقات القوى، قبل الحديث عن اصطفاف عربي شعبي ورسمي، ضد تدخلات الآخرين في الشأن العربي.