في عام 2004 دعمت اليونسكو تأسيس محطة إذاعية في رواندا، بهدف إعادة الثقة لوسائل الإعلام بين المواطنين، ومن المعروف أن المحطات الإذاعية لعبت دورًا مدمرًا خلال الحرب الأهلية، وأعمال القتل الوحشية التي شهدتها رواندا في التسعينات، كما تم محاكمة ثلاثة من أصحاب وسائل الإعلام تلك، بتهم التحريض على الكراهية العرقية، والتحريض على القتل وانتهاك حقوق الإنسان، هذه التجربة وغيرها أوضحت الدور المجرم الذي يمكن أن يقوم به الإعلامي أو المثقف تجاه شعبه.
المثقف الذي يهلل للديكتاتور، ويحاول صياغة كلمات منمقة ومرتبة؛ ليبرر بها حالة الاستبداد، ويسارع إلى تخوين المعارضين، وإلصاق تهم التآمر والعمالة بهم، ويرفع الدولة ورجالها فوق القانون، ويجعل من حقهم استعباد الناس بدلًا من خدمتهم، هو ببساطة يكذب على الشعب، ويحاول تزييف وعي الناس وإخفاء الحقائق، بل وقد يصل، بمرور الوقت وكثرة الأكاذيب، إلى مرحلة خداع نفسه، فيصدق هو ذاته تلك البروباجندا الكاذبة التي يرددها.
أما الكاتب الذي يتعلل بالظروف، ويدعو إلى مرشح الضرورة، ورئيس الأمر الواقع، ومتطلبات المرحلة، وﻻ صوت يعلو فوق صوت المعركة، وغيرها من المصطلحات التي تحاول بشكل بائس تجميل وجه المستبد، فلا يستحق منا سوى الشفقة على قلم وفكر تحول إلى رصاصات تستقر في صدور الشباب.
كذلك رجل الحقوق، رئيس الجامعة، الذي يلجأ إلى استخدام الأمن الإداري في التعدي على مظاهرة طلابية سلمية، تعبر عن رفضها لنظام الحكم الحالي؛ فتكون النتيجة عشرات المعتقلين والمصابين، من بينهم طالب بكلية العلاج الطبيعي هو أنس المهدي، الذي أصيب بنزيف في المخ، دخل على إثره في غيبوبة استمرت قرابة الشهر، ليفارق بعدها الحياة شهيدًا في سبيل حرية بلاده، هذا الحقوقي الذي انحرف عن أداء دوره هو قاتل بدرجة رئيس جامعة، ويشبه زعيم العصابة الذي يدير ويوجه أفراد عصابته إلى ارتكاب الجريمة.
أيضًا الإعلامي، الذي يحرض على القتل والعنصرية، وإلى ممارسة مختلف الانتهاكات ضد مواطنين لأي سبب مثل كونهم معارضين لنظام الحكم، هو في حقيقة الأمر شريك في الجريمة، ومحرض على جرائم تستوجب محاكمته وإدانته وعقابه.
إن المستبد دومًا ما يكون في حاجة إلى مثل هكذا نخبة تبرر له استبداده، وتجمل وجهه القبيح، لكن في قصة جبران خليل جبران الشهيرة ما يفسد ذلك الجمال المزيف، حيث يحكى أن الجمال والقبح التقيا ذات يوم على شاطئ البحر، فقال كل منهما للآخر، هل لك أن تسبح؟ ثم خلعا ملابسهما، وخاضا العباب، وبعد برهة عاد القبح إلى الشاطئ وارتدى ثياب الجمال، ومضى في سبيله، وجاء الجمال أيضًا من البحر، ولم يجد ثيابه، وخجل أن يكون عاريًا فلبس رداء القبح، ومضى في سبيله.
ومنذ ذلك اليوم والرجال والنساء يخطئون كلما تلاقوا في معرفة بعضهم البعض، غير أن هناك البعض ممن يتفرسون في وجه الجمال، ويعرفونه رغم ثيابه، وثمة نفر يعرفون وجه القبح، والثوب الذي يلبسه لا يخفيه عن أعينهم! هذا القبح وإن ارتدى ثياب الجمال الا أن أمره سينكشف، و نهايته ستكون مأساوية على أصحابه، وساعتها سيكون المستبد مشغولًا هو الآخر بمصيره الأسود.
ففي أوروبا لم تشفع لرجال الدين الذين مارسوا الطغيان تجاه العامة سلطتهم الروحية، بعد سقوط سلطانهم المادي، فأخذ الناس ينتقمون منهم أشد انتقام، وارتفع نداء الثورة الفرنسية بشعارها الخالد “اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس”، وأبشر نخبتنا أن مصيرها سيكون أسوء من مصير رجال الدين في فرنسا، وسيفتك بهم الناس في الشوارع والطرقات يوم يتخلصون من الفرعون.
ختامًا فإننا في أمس الحاجة إلى نخبة حقيقية تتحمل مسؤوليتها، وتقوم بدورها المفقود في تشكيل وعي الناس، وكشف الحقائق أمامهم، ونقل همومهم والتعبير عنها، بل وأخذ المبادرة في التصدي للاستبداد بكافة أشكاله، لذا على شعوبنا أن تزيل النخب القديمة التي انحرفت عن أداء رسالتها، وأن تصنع اليوم نخبتها الجديدة، والمعبرة بصدق عن آلامها و تطلعاتها في الحياة والحرية والقضاء على الاستبداد.