ليس هذا السؤال مطروحا على “الثوار” فهؤلاء لم ينقطعوا عن التفكير المتجدد بما يصنعون، منذ أن أدرك الشعب الثائر في وقت مبكر أنها “ثورة يتيمة”، وانطلق يردّد “يا ألله.. ما لنا غيرك يا ألله”.
في المرحلة الراهنة أيضا حدّد الثوار كما يبدو معالم الجواب عبر ما ظهر مؤخرا من بوادر جهود أكبر للتنسيق والتعاون الثوري مع ما يحتاج إليه ذلك من ضوابط ذاتية، واستدراك أخطاء، والتعامل مع انحرافات، والتصدي لمندسّين باسم مختلف الجهات، إذا كان أخطرها من صنع همجية الاستبداد القمعي المحلي، فمنها أيضا “بعض” من لبس رداء العون وشطّ انحرافا وتطرفا، ومنها من “يتعاون” مع القوى الدولية أكثر مما “ينسق” مع القوى الوطنية الثورية.
. . .
السؤال: ماذا نفعل؟.. لا يقصد إذن الساحة الثورية، بل من سبقتهم الثورة، ويمكن أن يصبحوا على هامش الهامش، ما لم يستدركوا أنفسهم.. إنّهم “النخب” السياسية، والفكرية، والإعلامية، والمالية، من أهل سورية، لا سيما خارج حدودها، ممن يحملون في الأصل مسؤولية: دعم الثورة أولا، وتمثيلها حقا، عبر “فرض” أهدافها الجليلة المشروعة ومسارها البطولي، إقليميا ودوليا.
إنّ ما يستدعي السؤال بإلحاح عمّا ينبغي أن نفعل الآن، هو ما نراه جميعا رأي العين، على صعيد التعامل الإقليمي والدولي مع الثورة الشعبية في سورية، فقد وصل في هذه الأثناء إلى أقصى درجات الخطورة، إلى مرحلة:
العمل على استهداف “جوهر الثورة الشعبية في سورية”، واستبقاء بقايا النظام الهمجي بحدّ كاف من التسلّح لمنع ظهور نظام ثوري واحتمال تشكيل خطر ما على عدوّ خارجي..
هذا جنبا إلى جنب مع مضاعفة جهود “تصفية قضية فلسطين المصيرية”..
ومع إعادة خلط أوراق الأوضاع السياسية الإقليمية لصالح وجود إيراني مهيمن، وتناغم إيراني-غربي-إسرائيلي بألحان شاذّة جديدة خلعت ثوب “المقاومة والممانعة”..
هذا فضلا عن تضييق الخناق ما أمكن على الصعود التركي الإقليمي وقابلية تحالفه مع حصيلة مرجوة من ثورات الربيع العربي”..
أما “النخب” في الساحة السورية، فأمامها نماذج كافية لاستشراف مآلاتها، تراها الآن في اليمن وتونس وليبيا.. وفي مصر تحديدا.
. . .
لم يعد يوجد بين يدي هذه “النخب” سوى اتخاذ القرار “ما بين” جبهتين: الثورية والخارجية، ويجب -إذا كانت فعلا من النخب بالمعنى الأصلي للكلمة- أن تحسم أمرها، وتربط مصيرها بالثورة ومسارها، وقد تساهم آنذاك فقط، في دفع بعض المخاطر الخارجية عنها.
لقد انتشرت من قبل مقولات كثيرة أثناء الثورة الشعبية، وكانت من باب ترويج “الذرائع” لتسويغ القصور الذي لا ينكره أحد، على صعيد حمل المسؤولية التاريخية الواجبة على “النخب”، فكان من ذلك:
١- الثوار.. يحتاجون إلى وعي سياسي، والوعي السياسي لدى تلك النخب.
٢- السياسة.. فن الممكن، والممكن يتحقق عبر تعامل النخب مع السياسات الإقليمية والدولية بلغتها.
٣- القيادة.. للسياسة وهي سياسة النخب وليست للبندقية وهي بندقية الثوار.
٤- العجز.. وفق مقولة صنعنا المستطاع وخذلتنا القوى الإقليمية أو بعضها والقوى الدولية.
ويوجد المزيد، والعبرة بالنتائج، والنتائج تقول بعد مضي ٣١ شهرا على انطلاقة الثورة:
بدأ الآن العمل العلني المباشر دوليا وبمشاركة إقليمية، لتصفية أقصى ما يمكن تصفيته من الثورة، عبر إجراء تسلّطي، على حساب سورية الوطن والدولة والشعب والمستقبل عنوانه الكيمياوي، وعبر حل “وسطي” على حساب الثورة وأهدافها المشروعة وشعبها ومعاناته عنوانه جنيف ٢.
. . .
الثورة مستمرة.. كما كانت، يتيمة في دنيا “ذئاب المصالح والمطامع”، تعتمد على الإمكانات الذاتية بعد الله تعالى.
ولكن هل بقي للنخب مكان؟.. مكان مشرّف؟..
إنها اليوم في القفص الدولي الإقليمي الذي وضعت نفسها فيه بين نارين:
نار الانصياع لتصبح جزءا عضويا اندماجيا من جهود “التصفية” الجارية فينتهي انتسابها للثورة وشعبها إلى غير رجعة..
ونار التمنّع، فلا تقبل، ولا ترفض، وتبقى مهمّشة في مواجهة الضغوط المكثفة عليها، ناهيك عن العوامل السلبية الذاتية.
ولكن ألا يوجد في محاولة الإجابة على السؤال “ماذا نفعل” طريق ثالث غير هذين الأمرين، وأحلاهما مرّ كما يقال؟..
يوجد.. بشروط، منها في ميدان المنطلقات قبل الخطوات العملية:
١- غلبة الإخلاص للمعتقد الذاتي لدى الأفراد والتنظيمات-مهما كان الانتماء والتصور الذاتي- على “الأنانيات” التي إن أفضت إلى أي نتيجة، فلن تكون إلا من نوعية “الأنا الأسدية”.
٢- إعطاء الأولوية للقواسم المشتركة الأكبر تحت مظلة تعددية الانتماءات والتصورات الذاتية، على الخلافات والنزاعات التي يؤججها التعصب والتعنت في تلك التعددية، ولم يعد يوجد على كلّ حال ما يمكن الوصول إليه من كرسي سلطة انفرادية أو هيمنة على الآخر، فعلام يدور الصراع الانتحاري المستمر؟..
٣- اللجوء إلى أساليب تمليها “طبيعة عصر الثورات” والانعتاق من أوهام أساليب تقليدية عتيقة من عصر ما قبل الثورات، عصر الصراع في حدود “سيرك” تحيط به قضبان الاستبداد المحلي والهيمنة الأجنبية، فقد أصبحت تلك الأساليب أشبه بركوب “الدواب” وسيلة للوصول إلى المريخ، إلا إذا انحصرت آمال “النخب” في حدود “الفتات”، وكان اختيار الوسائل نتيجة مباشرة لضحالة حجم التطلعات، وصغار مستوى الدوافع والأهداف.
. . .
ماذا نفعل؟..
هل يفيد أن يتداعى “المخلصون” من شتى المشارب إلى لقاء جديد، وتجمع جديد، وهيكل تنظيمي جديد، دون التخلّي عن “المحاصصة” الشبيهة بممانعة المستبدين المجرمين، و”المظاهر الاستعراضية الإعلامية” المكملة لمقاومة المستبدين المستسلمين، و”الترف” في الإنفاق على الذات، الموازي للتبجح بالإعلانات عن “إغاثة” المنكوبين بالبيانات واللاجئين بالفتات والمحاصرين بالدعوات؟..
ليس من النخب من يبقى عاجزا عن خدمة شعب الثورة ودولة الثورة ومستقبل الثورة نتيجة انشغاله في مزاحمة “الآخر” من نسيج الثورة وشعبها ووطنها، في عالم تصدّرته تحالفات التضليل والتسليم مع الإجرام الهمجي باسم مقاومة المستبدين المجرمين وممانعة المتاجرين بالقضايا المصيرية وأوهام اللاهثين أو أطماعهم المتدنية وراء عجلة “صداقات” الهيمنة الأجنبية.
ليس مما يليق بمقام “النخب” أن تتحوّل من مواقع الريادة والقيادة والإرشاد والقدوة في العطاء، إلى “ذيل القافلة” التي يقودها أطفال الثورة ونساؤها وشيوخها ورجالها من أهل القرى والمدن والأرياف المحرومة من “نعم الحياة” و”ميزات الرقي والنهوض” على امتداد عشرات السنين الماضية.
يا أصحاب العقول والقدرات، من “النخب”، احذروا أن ينقطع منكم كل بصيص رجاء أو أمل في قلوب الأيتام وذوي الشهداء والجرحى والمشردين، إلى جانب تهميشكم وتهميش دوركم من جانب من ظننتم أن اعترافهم بكم ولقاءاتهم معكم، وانتزاع التنازلات منكم، هو المدخل إلى “نصركم” تحت عنوان “انتصار ثورة شعبكم”.
. . .
لا بد من الانتصار على أنفسنا أولا..
لا بد أن يضع كل منتسب إلى “النخب” نفسه في موضعه، ويدرك أن واجبه هو قلم يحمله فيوظفه بين يدي الثورة وشعبها، أو سياسة يفقهها فيمارسها من أجل الثورة وشعبها، أو مال ينفقه لضمان استقلالية الثورة وشعبها، أو مكانة يشغلها فيجعلها لجمع الصفوف وراء الثورة وشعبها.
آنذاك.. قد يفيد التداعي إلى لقاء حول “خطوات عملية” يقررها معا، وينفذها معا، جمع من المخلصين من أصحاب القدرات في “النخب”، عساها تجعل منهم قوة حقيقية في خدمة الثورة وشعبها وسورية ومستقبلها والمنطقة بأسرها بل وواقع البشرية المظلم تحت هيمنة الاستبداد الدولي عليها.
آنذاك قد تنقذ “النخب” نفسها من الضياع والذوبان، وقد تلحق قبل فوات الأوان بركب الثورة المستمرة بإذن الله.
إعلامي وأكاديمي سوري