هوى إيطالي
في بلاد اشتهرت بحبها للفن الجميل عبر التاريخ، وبإنجابها أعظم الرسامين والنحاتين ممن أغنوا الحضارة الإنسانية بالدرر الفنية النفيسة، وجد الشعب الإيطالي العريق ضالته في الساحرة المستديرة، فعشقها حتى الجنون، وقدّمها على سائر الرياضات الأخرى، بل حتى على فنونه ومكونات ثقافته، فحلت صور مشاهير كرة القدم ونجومها مكان لوحات دافينشي ومنحوتات أنجلو، وأصبحت وجبات الكالتشيو الكرويّة الدسمة هي المفضلة عند الطليان بدلًا من أطباق البيتزا والسباغيتي التقليدية.
السيدة العجوز
ليس في روما حاضرة الإمبراطورية التاريخية، ولا في ميلانو عاصمة الموضة والأزياء، بل في مدينة تورينو الشمالية الباردة القريبة من جبال الألب، تأسس نادي “يوفنتوس” العريق، أواخر القرن التاسع عشر عام 1897، على يد مجموعة من تلاميذ مدرسة ماسيمو دي أزيليو، وانضم إلى البطولة الإيطالية لكرة القدم لأول مرة عام 1900، وكان لباسه حينها يتكون من القميص الزهري والشورت الأسود، قبل أن يعتمد لباسه الحالي الأبيض والأسود، ليقترن باسمه تاريخيًا لقب “البيانكونيري” أي الأبيض والأسود، أما حكاية لقبه الأشهر “السيدة العجوز” فيعود إلى حقبة الثلاثينات، حين تهكم أنصار الفرق الأخرى على كبر أعمار لاعبيه، رغم أن اسمه يوفنتوس يعني الشباب باللاتينية.
ماضٍ مشرق
لم تتأخر أول بطولات البيانكونيري كثيرًا، فما هي إلا 5 سنوات على انضمامه إلى الدوري الإيطالي، الكالتشيو، حتى أحرز لقبه الأول فيه عام 1905، لينتظر بعدها مشجعوه 21 عامًا كاملًا كي يحرز ثاني ألقابه في المسابقة عام 1926، قبل أن يشهد النادي نهضة شاملة بعد أن تملكته عائلة أنييلي الشهيرة، أصحاب شركة فيات للسيارات، توّجها بسيطرة مطلقة على الدوري الإيطالي، من خلال إحراز لقبه 5 مرات متتالية مطلع الثلاثينيات، إضافة إلى لقب كأس إيطاليا عام 1938، مما انعكس على منتخب إيطاليا الأول الذي أحرز لقب كأس العالم عامي 1934 و1938، قبل أن يتأثر النادي بانحسار النشاط الرياضي في أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية، فتقتصر إنجازاته على كأس إيطاليا عام 1942.
حقبة الخمسينات شهدت عودة تألق البيانكونيري وحصده للبطولات؛ فأحرز ثلاثة ألقاب كالتشيو جديدة ليصبح عام 1958 أول ناد إيطالي في رصيده 10 بطولات دوري، أضاف إليها لقبًا ثالثًا في الكأس المحلية، وشهدت تلك الحقبة ظهور نجوم بصموا في تاريخ الكرة الإيطالية والعالمية أبرزهم الأرجنتيني عمر سيفوري، الفائز بجائزة الكرة الذهبية لأفضل لاعب في أوروبا عام 1958، والإيطالي جيانبييرو بونبيرتي، والذي بقي أفضل هداف في تاريخ يوفنتوس حتى ظهور ديل بييرو.
وتابع اليوفي مسلسل نجاحاته المحلية فترة الستينات والسبعينات بإضافة 8 بطولات دوري و3 بطولات كأس إيطالية إلى رصيده الذهبي المحلي، إضافة إلى طرقه باب التألق الأوروبي؛ بوصوله إلى نهائي كأس الأبطال عام 1973 وإحرازه لقب كأس المعارض الأوروبية عام 1977، بفضل نجوم أبرزهم فرانكو كاوزيو، وجوزيه ألتافيني، وروبرتو بيتيغا.
العصر الذهبي
فترة الثمانينات في تاريخ اليوفنتوس، والتي قادها المدرب الشهير جيوفاني تراباتوني، شهدت استمرارًا لتألق الفريق محليًا بإضافته 4 ألقاب كالتشيو جديدة، ولقبًا للكأس، على يد جيل يمكن تصنيفه بالأفضل في تاريخ الكرة الإيطالية عمومًا، بقيادة الحارس الأسطوري دينو زوف، والهداف البارز باولو روسي، اللذين قادا إيطاليا إلى لقبها الثالث في كؤوس العالم عام 1982، قبل أن يشهد تألق البيانكونيري بعدًا آخر، فبعد فوزه ببطولة كأس أبطال الكؤوس الأوروبية عام 1984، نجح في محاولته الثالثة، بعد عامي 1973 و1983، بإحراز أول ألقابه الكبرى على المستوى القاري، بإحرازه لقب أمجد الكؤوس الأوروبية، كأس أوروبا للأندية الأبطال “الشامبيونز ليغ”، عام 1985، بفوزه في النهائي على ليفربول بهدف وحيد من توقيع النجم الفرنسي الشهير ميشيل بلاتيني، ذلك الإنجاز الذي غطت عليه الأحداث الدامية التي سبقت ذلك اللقاء، والتي أسفرت عن وفاة 39 شخصًا وجرح المئات، نتيجة تدافع الجمهور وانهيار حائط الملعب، فيما يعرف بمأساة ملعب هيسل.
حقبة التسعينات تصح تسميتها بحقبة مارشيلو ليبي، المدرب الأنجح في تاريخ يوفنتوس والكرة الإيطالية عمومًا، فقد قاد “رجل الشمع”، كما يطلق عليه، فريقه إلى بطولتين في كأس الاتحاد الأوروبي عامي 1990 و1993، قبل أن ينجح بالوصول إلى نهائي البطولة الأوروبية الأكبر “الشامبيونز ليغ” ثلاث مرات متتالية، نجح في الظفر بأولها عام 1996 بعد فوز صعب على أياكس الهولندي بركلات الترجيح، قبل أن يخسر نهائيّ 1997 و1998 أمام كل من بروشيا دورتموند وريال مدريد، تلك الفترة، التي شهدت كذلك فوزهم بثلاثة ألقاب كالتشيو جديدة ولقبي كأس إيطاليا، طرّز تاريخها نجوم كبار من عينة الفرنسي زين الدين زيدان، والهولندي إدغار دافيدز، والإيطاليين روبيرتو باجيو وجيانلوكا فيالي، كما شهدت ظهور الشاب أليساندرو ديل بييرو، الذي لعب دورًا كبيرًا في تاريخ يوفنتوس من خلال انفراده بلقب هدافه الأول عبر التاريخ.
الهبوط المرير
في الألفية الجديدة استمرت عجلة بطولات الفريق في الدوران مع ليبي، ففاز بلقبي كالتشيو آخرين، وخاض نهائي الشامبيونز ليغ مرة جديدة عام 2003 وخسره أمام مواطنه ميلان بركلات الترجيح، قبل أن يتولى المدرب الشهير فابيو كابيلو دفة تدريب الفريق، ويقوده إلى بطولتي كالتشيو عامي 2005 و2006، تلك البطولتان اللتان تمّ تجريد اليوفي من لقبيهما بعد ظهور فضيحة التلاعب بنتائج المباريات “الكالتشيو بولي”، والتي قرر القضاء الإيطالي على إثرها هبوط نادي يوفنتوس إلى الدرجة الثانية لأول مرة في تاريخه!
كانت عواقب ذلك الهبوط وخيمةً على النادي، ففضلًا عن تجريده من لقبي الدوري الأخيرين وحرمانه من المشاركات الأوروبية، غادر كثيرٌ من نجوم الفريق ككانافارو وإبراهيموفيتش وتورام كما غادر المدرب كابيلو، وتولى كلاوديو رانييري قيادة الفريق في الدرجة الثانية، ومعه ثلةٌ من أبناء النادي المخلصين الذين رفضوا التخلي عنه في محنته؛ كحارس مرماه الرائع جيجي بوفون وهدافه التاريخي ديل بييرو ونجم وسطه بافل نيدفيد، وهؤلاء كانوا كافين لإعادة الفريق إلى أضواء الدرجة الأولى بعد موسم واحد فقط في غياهب الدرجة الثانية.
استعادة الشباب
لم يكن من السهل تجاوز آثار “الكالتشيو بولي” على السيّدة العجوز، فاستمر الفريق بالتخبط والابتعاد عن تحقيق الألقاب أو حتى المنافسة عليها، إلى أن جاء ابن النادي أنطونيو كونتي ومعه البلسم الشافي الذي أعاد للعجوز شبابها ورونق بطولاتها؛ بفوزه بثلاثة ألقاب كالتشيو متتالية آخرها عام 2014، عبر اعتماده على أبناء النادي المخلصين كبوفون وماركيزيو وكيليني، وتدعيمهم بعدد من النجوم الذين لم يكلّفوا النادي كثيرًا في سوق الانتقالات، كأرتورو فيدال وكارلوس تيفيز وبول بوغبا، إضافةً إلى المايسترو أندريا بيرلو، الذي استقدمه اليوفي مجانًا من غريمه الميلان ليستعيد شبابه هو الآخر، ويقود اليوفي إلى أمجاد جديدة، لم يعطّلها تنحي كونتي عن دفة تدريب الفريق وانتقاله إلى تدريب الآزوري بعد ثلاثة مواسم ناجحة، بل تبلورت وازدهرت مع خلفه ماكسيميليانو أليجري، الذي سار على درب سلفه في حصد بطولة الكالتشيو الأخيرة، وتفوّق عليه بالبروز على الصعيد الأوروبي بنجاحه بالتأهل إلى نهائي الشامبيونز ليغ، الذي سيخوضه الشهر القادم أمام برشلونة، وعينه شاخصة إلى لقب أوروبي جديد يتوّج به عودة السيدة العجوز إلى عزّ صباها.
وتستمر الحكاية
يوفنتوس، حكاية ماضٍ مجيد وحاضرٍ مشرق لنادٍ عريق، أغنى عبر مسيرته الحافلة بالبطولات، ولم يزل، تاريخ الكرة الإيطالية والعالمية بالكثير من أساطين اللعب والتدريب، الذين لوّنوا عالم الساحرة المستديرة بألوان البيانكونيري الأنيقة، فاستحقّ عن جدارة لقب السيّدةالكالت التي لم تزدها سنوات عمرها الـ117 إلا شبابًا ونضارةً.