لم تلبث دماء المقتولين في حادثة شارلي إبدو أن جفت، حتى أصدرت الحكومة الفرنسية قانونًا جديدًا لمراقبة مواطنيها يعطي وكالات الاستخبارات سلطات أكبر للتدخل في المجالات الخاصة والشخصية للأفراد من أجل الأمن والسلم العام، أو هكذا يقولون، وهو قانون حصل على تأييد الحزب الاشتراكي وحزب اتحاد الحركة الشعبية المحافظ UMP في نوع من أنواع الإجماع السياسي، وقد تم تمريره دون اعتراضات تُذكَر بالطبع في غمرة الانتفاضة لأجل الحرية التي انطلقت حينها.
يتساءل البعض الآن، هل هذه هي النهاية المنطقية لانتفاضة “جِه سوي شارلي” التي قامت لأجل الدفاع عن حرية التعبير بعد الحادث، أن تتمتع المؤسسات الحاكمة في فرنسا بنفوذ وسلطات أكبر من ذي قبل؟ لا يستطيع أي منا أن يشكك في صدق نوايا الفرنسيين العاديين الذين نزلوا إلى الشوارع تضامنًا مع الصحافيين ورسامي الكاريكاتير المقتولين، وإيمانهم بحرية التعبير (بغض النظر عن تحفظاتنا على ماهية تلك الحرية وحدودها)، بيد أن تحقيق تلك الحرية قد يتطلب في الحقيقة ركنَين آخرين تغافل عنهما الكثير من الفرنسيين منذ زمن طويل: الإخاء والمساواة.
الحرية.. والإخاء والمساواة؟
إنه الشعار الشهير الذي تبناه اليعاقبة Jacobins بقيادة ماكسميليان روبسبير، بل وأضافوا له “حتى الموت” ليصبح Liberté, égalité, fraternité ou la mort، وقد أصبحت تلك، ولا تزال، القاعدة الرئيسية للعلمانية الفرنسية Laïcité، بيد أن الكثير مما تضمنه الشعار قد تلاشى نوعًا ما، وفي وقت مبكر في الحقيقة يعود إلى صعود نابليون بونابرت إلى السلطة، والذي غيّر الشعار إلى Liberté et ordre public، أي الحرية والنظام العام.
منذ ذلك الحين، يقول الفيلسوف الفرنسي جاك رانسييه أن المبادئ العالمية التي أعلنتها الثورة تم الاستحواذ عليها عن طريق المؤسسات، لتتحول مع الوقت لملمح خاص لمجموعة بعينها، بل ومنصة لإطلاق الاتهامات ضد مجموعات أخرى، وليصبح خطاب الحرية جزءًا من ضبط سير الكلمات في المجال العام، أو نوعًا من أنواع “الشرطة الذهنية” إن جاز القول، والتي لا تتحكم في سير الأشياء والأشخاص كالشرطة التقليدية، بل في ماهية ما هو موجود في المجال العام، وما لا يمكن تخيّل وجوده، أو ما قرر منطق الدولة أنه “خارج عن حدود النظام،” وهي عملية يسميها رانسييه Le partage du sensible، أي سلطة توزيع المعقول أو المقبول.
يتجلى ذلك اليوم فيما جرى بعد حادثة شارلي إبدو، وفي تناول الإسلام والدين بشكل عام، فكُل التغطية الإعلامية التي جرت لما بعد الحادث لم تحاول التفاعل مع ما جرى بشكل حقيقي لإدراك أسبابه وكيفية معالجته، فيما كان ليكون ترسيخًا لمبادئ الإخاء والمساواة على مستوى ثقافة التعامل مع الآخر، بقدر ما كانت محاولة لتفعيل “ضبط الدين” كسبيل لترسيخ الحرية، والذي طالما تميزت به الدولة الفرنسية، وتأكيد هيمنة مفهوم الحرية الذي خلقته الدولة كتوأم للنظام العام، على حساب الحرية التي دعت لها الثورة الفرنسية، والتي لم تنفصل عن الإخاء والمساواة.
بذلك، نجح الخطاب الرسمي في فرنسا في تحويل لحظة “الانتفاضة من أجل الحرية” إلى “مارش الجمهورية”، في سابقة ليست هي الأولى، إذ طالما تم ربط الحرية بمبادئ الجمهورية، بل واعتبارهما في أحيان كثيرة وجهين لعُملة واحدة، في إشارة لما تحدث عنه رانسييه من “تدجين” لخطاب الحرية، وهو ما جرى أيضًا في وقت سابق في تركيا، حين أصبحت العلمانية مكافئ لوجود الدولة في المجال العام، على العكس من ثقافات أخرى في الدول الأنغلوساكسونية، والتي ظلت مفاهيم الحرية والإبداع والعلمانية فيها بعيدة عن الدولة (وإن كان يمكن القول بالطبع أنها في تلك البلدان كانت نظيرًا للسوق).
العُنف الإسلامي أم سلطوية الدولة؟
بمحاولة رسم العُنف الإسلامي كخيار أسوأ من المنظومة القائمة، وبمشاركة مختلف السياسيين والمسؤولين الذين يمثلون المنظومة الفرنسية والأوروبية في “مارش الجمهورية”، نجحت السلطوية في فرنسا في تجديد عقدها مع الجماهير، حيث قبلتها قطاعات واسعة كحارس للحرية والنظام كما هو معتاد في الخطاب الرسمي، في حين قبلها آخرون من منظور أن هيمنة السلطات أخف وطأة ولو لحين من عُنف الإسلاميين، وإن كانت تلك الحُجة مقنعة للكثيرين، فإنها في الواقع تقتل آفاق تخيّل بدائل عن هذا وذاك.
بشكل عام، تُعَد الأحداث الساخنة دومًا فرصة للسلطوية لتجديد دمائها، سواء الإرهاب أو الحروب أو غيرها، ففي ظل سخونة الحدث، يكون صعبًا أن يُسمَع صوت العقل، وأن تكون هناك مساحة متاحة للتفكير في بديل جديد، إذ أن عقلية الجماهير حينها تكون كالثور الهائج، والذي لا وقت لديه سوى اختيار الأقل سوءًا بين ما هو موجود، وبطبيعة الثقافة الغربية، فإنها تميل دومًا لنظام الدولة على حساب خيارات العنف غير المنظم، وذلك على العكس مثلًا من الثقافات القبلية، إذ نرى في المنطقة العربية اليوم نوعًا من تفضيل البعض في سوريا والعراق لداعش، كفصيل إسلامي عنيف، على وعود السلطة التقليدية في بغداد ودمشق.
في ظل طبيعة هكذا حدث يضرب النظام العام الذي ترعاه الدولة، والذي ترعرعت فيه شرائح “المواطنين” في مختلف أنحاء أوروبا، وتجري في حدوده وبفضله معظم التفاصيل السياسية والاجتماعية والاقتصادية اليومية للسواد الأعظم من الناس، ومعظم نشاطات الحضارة الأوروبية، تُستَخدَم الهجمات الإرهابية بذكاء من جانب المنظومة دومًا لتسجيل أهداف سريعة وكثيرة لصالح ترسيخ النظام، وكأنه الحدث الذي يخلق للنظام وضعًا لا يرى فيه حكم المباراة، وهو الرأي العام الديمقراطي واليساري والأخضر إلخ الذي يقف للدولة عادة بالمرصاد في الغرب، أن النظام في وضعية تسلل.
***
يقول تنزان إيغل، باحث الدراسات الدينية بجامعة تورنتو، في رد على خطاب الحرية الذي انتشر بعد شارلي إبدو:
“لننقد قليلًا الأسلوب الذي نناقش به دومًا حوادث كهذه، إذ أننا نلجأ لخطاب “صراع الحضارات”، ونرسم خطًا فاصلًا بين ما هو علماني من ناحية، والإسلام من ناحية أخرى ككيان منفصل عن الغرب، وهو خطاب لا يتيح لنا أن نفهم تركيبية الواقع الديني والثقافي القائم، ولكن ينتهي به الحال كأداة في يد السلطات لتنظيم وضبط مفهوم الدين واستخداماته في المجال العام، وبالتبعية، تكريس المنظومة الغربية القائمة بشيطنة واحد من ألد أعدائها، ليصُب في النهاية اعتراضنا على همجية الإرهابيين في صالح النظام القائم.. لذا، دعوني أقترح أن نفكر ونكتب كزنادقة، ليس فقط فيما يخص الإسلام (كما نفعل دومًا) ولكن أيضًا تجاه ثقافة تناول الدين في الغرب.”
تلخص تلك الكلمات موقفًا غربيًا تفتقده شرائح واسعة في الغرب، سواء على مستوى المجتمعات بشكل عام أو على مستوى المفكرين، وهي التطبيق الحقيقي لفكرة الإخاء والمساواة في تناول الآخر والتعامل معه، عوضًا عن الأفكار السائدة الآن، والتي تنصب على الحرية بمفهومها الغربي الكلاسيكي، وتصب مباشرة في صالح النظام العام الذي حدد أصلًا ماهية تلك الحرية، والذي تجسده هنا الجمهورية الفرنسية المعاصرة، لتتجاوز الأفكار الأصلية للثورة الفرنسية، وتكرّس في نهاية المطاف السلطوية النابليونية للدولة الفرنسية.