كثيرًا ما يتحدث الباحثون والمهتمون بالثقافة والتاريخ والمفاهيم الاجتماعية عن زيف القوميات، وهو موضوع عادة ما يتناول خطاب القومية في أوروبا، والقوميات الأساسية التي نشأت في المنطقة العربية، مثل القومية المصرية، وأيضًا القوميات التي اختُلِقَت في البلدان التي رسمها الاستعمار مثل دول الخليج وغرب أفريقيا، بيد أن الكثيرين يتغافلون أحيانًا عن بعض الهويات، لا سيما الهوية الفلسطينية، نظرًا للمظلومية التي تتسم بها، وعدم رغبة البعض ربما في نكأ المزيد من الجراح فيما يخص هذه القضية الفلسطينية، بيد أن الحقيقة هي أن القومية الفلسطينية لا تقل زيفًا عن نظيراتها في المنطقة العربية والعالم كله.
ما هو الـ”فلسطيني” بالضبط؟
يحلو للبعض دومًا الإشارة إلى انتفاضة 1834 في فلسطين كبداية للقومية الفلسطينية، مشيرين إلى أنها قامت في مواجهة “الاحتلال” العثماني كما يسميه هؤلاء، بيد أن الحقيقة هي أن انتفاضة 1834 كانت موجهة ضد الحكام المصريين الجدد لفلسطين، والذي حكموها من القاهرة أيام محمد علي، بعد أن عانى السكان المحليون من وطأة الضرائب الثقيلة وسياسات التجنيد الإجباري التي فرضها الباشا، وبالتالي كانت انتفاضة لأسباب اجتماعية بحتة، لا على أساس هوياتي، بل ويمكن اعتبارها بشكل أو آخر مطالبة بعودة الحكم العثماني لا بالاستقلال الفلسطيني.
بالنظر في المئات من الوقائق والمخطوطات القديمة، وسجلات المحاكم الإسلامية والكتب والمجلات التي تعود إلى فترة الحُكم العثماني في المنطقة العربية، يبدو لنا أن أول عربي يستخدم كلمة “فلسطيني” كان فريد جورج كسّاب، المسيحي الأرثوذكسي المقيم في بيروت، حيث كتب كتابًا عام 1909 عن المسيحية الرومية الأرثوذكسية في فلسطين بعنوان “فلسطين والهلّينية (أي الثقافة اليونانية) والكهنوت،” والذي أشار فيه إلى أن “الفلسطينيين الأرثوذكس الذين يطلقون على أنفسهم كلمة “عرب” هم في الحقيقة عرب فعلًا،” على الرُغم من وصفه إياهم في كتابه بالفلسطينيين.
مع مرور الوقت انتشرت كلمة “الفلسطينيين”، فهُم يذكَرون بالمدح على لسان كاتب مصري كتب عام 1910 في صحيفة النفير، والتي كانت تُصدَر في حيفا، لمساهماتهم الأدبية آنذاك، كما يردون في وصف المسيحي الأرثوذكسي نجيب نصار لنفسه ولآخرين من فلسطين بالـ”فلسطينيين” في صحيفة الكامل الصادرة من حيفا أيضًا عام 1911، وبالمثل فعل محمد موسى المغربي، القادم من القدس، والذي أشار إلى أن صحيفة المنادي المنشورة في المدينة آنذاك تهتم بالأساس بأخبار “الفلسطينيين.”
صورة أسرة فلسطينية يهودية تعود لعام 1917
في يونيو 1913، وفي ظل تبلور فكرة الهوية الفلسطينية على المستوى الإعلامي، كتب البرلماني العثماني المقدسي روحي الخالدي مقالة عن “الهوية الفلسطينية” لصحيفة فلسطين، والتي صدرت كرد فعل على الأنشطة التي كان الصهاينة يقومون بها في محاولة منهم لخلق مجتمع معزول داخل فلسطين، ورُغم هذا الاتجاه، إلا أن كلمة “الفلسطينيين” انتهى بها الأمر على مدار سنوات الانتداب البريطاني كإشارة لأي مسلم أو مسيحي أو يهودي على أرض فلسطين، حتى أن يهود فلسطين آنذاك كانوا يشيرون لأنفسهم بنفس الكلمة، بما في ذلك الصهاينة، قبل أن يبدأ رواج “إسرائيل”، واقتصار فلسطين على العرب، مع بدء الصراع العربي الإسرائيلي.
أثناء الحرب العالمية الثانية، ومع تزايد النشاط الصهيوني أوروبي المنشأ، اتسعت الهوة بين اليهود وغيرهم في فلسطين، وأصبحت كلمة الفلسطينيين بشكل متزايد إشارة إلى المسلمين والمسيحيين الذين تحدثوا العربية، في حين خرج اليهود، والصهاينة منهم بالتحديد، من نطاق ما هو فلسطيني، وهي الهوة الدينية والثقافية التي شكلت جذور الصراع الذي بدأ من ذلك الوقت، ووصل لأوجه مع تأسيس دولة إسرائيل عام 1948، فيما يمكن اعتباره انتصارًا للرؤية اليهودية الصهيونية القادمة من أوروبا، على الهوية اليهودية التقليدية في فلسطين، وفي نفس الوقت، ترجيحًا لكفة القومية الفلسطينية الضيقة كأيديولوجيا لمواجهة الصهيونية.
جنوب سوريا: بين اللغة والجغرافيا
كثيرًا ما نسمع الصهاينة والمتعاطفين مع إسرائيل يتحدثون عن وهم الهوية الفلسطينية، وهم في الحقيقة محقون بعض الشيء، اللهم إلا في استخدامهم لتلك الحقائق في تدعيم الموقف السياسي لقضيتهم الخاصة بالقومية الإسرائيلية، وهي القومية الأكثر زيفًا في الحقيقة من سواها في المنطقة العربية.
على سبيل المثال، يشير مايكل عسّاف، أحد المؤرخين الذي اعتنقوا الصهيونية في المنطقة، في كتاب له نُشِر في ثلاثينيات القرن الماضي، أن الثقافة العربية في فلسطين لم تكن جزءًا منفصلًا ذاته عن محيطها، وأنها دائمًا ما كانت جزءًا مما عُرِف آنذاك بجنوب سوريا، والواقع أن الكثير من عرب فلسطين آنذاك كانوا يطمحون بالفعل إلى الانضمام إلى مملكة سوريا تحت حُكم الملك فيصل، وحاولوا إقناع البريطانيين بأن فلسطين بالفعل طالما كانت جزءًا من جنوب سوريا.
بالطبع لم تنجح تلك المحاولات، إذ أن بريطانيا كانت قد أصدرت وعد بلفور عام 1917 مما رسّخ انفصال فلسطين كأرض بذاتها، وبدأ يخلق ضغطًا على العرب الموجودين فيها والذين لم يعجبهم أولًا حُكم الإنجليز، مفضلين عليه أن تحكمهم دمشق، وكذلك لم تعجبهم الخطط الجديدة التي جلبها اليهود الأوروبيين عن إنشاء وطن قومي لليهود في تلك المنطقة، وهي الخطط التي لم تتضمن أي شيء عن مصير العرب.
بهذا الشكل يمكن أن نرى جذور رفض حل الدولتين، بغض النظر عن اتفاقنا من اختلافنا معه، في الأفكار الصهيونية الأولى، والتي لم تر أصلًا وجود قومية عربية منفصلة في فلسطين، ونظرت إلى عرب فلسطين كجزء من سوريا بشكل، لا يجعل فلسطين جزءًا من سوريا كما ظن العرب حينها، ولكن يجعل نقلهم إلى نطاق الدولة السورية ممكنًا، في سبيل خلق وطن اليهود في فلسطين وفقط.
بطبيعة الحال، استخدم الكثيرون هذه الحقائق إما لهضم حقوق عرب فلسطين، مثلما فعل الكثير من المفكرين والمؤرخين الإسرائيليين، وإما لتدعيم أفكار الدولة السورية الكبرى، كما فعل بعض منظري القومية العربية في الشام، والذين وجدوا القوميات القطرية في تنافر مع القومية العربية الجديدة، وإن كان كلاهما زائفًا بدرجات مختلفة.
***
مؤخرًا، اندلعت حروب كثيرة على وسائل التواصل الاجتماعي بين الإسرائيليين والفلسطينيين حول وجود فلسطين من عدمه في التاريخ، حيث انتشر هاشتاج #there_was_no_palestine بين النشطاء الإسرائيليين الذين حاولوا دعم أطروحات إسرائيل التاريخية، في حين كانت معظم الردود بالطبع تدافع عن جذور القومية الفلسطينية الطويلة.
في الحقيقة، لربما كانت الإجابة الأوقع والأقوى على دعوى أنه “لم تكن هناك فلسطين” أنه لم تكن هناك يومًا إسرائيل أيضًا.