بدا أن دخول حركة حماس الانتخابات الفلسطينية سنة 2006 والذي رافقه نقد عنيف موجه من قِبل الظواهري للحركة، لينتهي بخطابه الشهير الذي نعى فيه قيادتها الحالية، له ارتدادات واسعة داخل التيار الإسلامي في فلسطين وخارجها، كان أهمها سعي التيار السلفي الجهادي لبلورة نفسه داخل فلسطين، حيث شكلت فلسطين دائمًا الحيز الأكبر في خطاب السلفية الجهادية العالمية، ولطالما كان إيجاد موطئ قدم في فلسطين أمنية تداعب مخيلة السلفيين الجهاديين على مستوى العالم.
ورغم أن التيار السلفي الجهادي في فلسطين عندما باشر العمل ظن أن كل الظروف تُساعد على إنجاح تجربته، إلا أن الوقائع التالية أثبتت خطأ هذا الظن، رغم أن طبيعة الحالة الفلسطينية كان يُفترض بها أن تُنجح أي تجربة – خصوصًا لو كانت تجربة قتالية – نظرًا لوضوح العدو أولًا، ولاستعداد الفلسطينيين الفطري لأي فكرة عاطفية جديدة ثانيًا، وتعدد الفصائل والتنظيمات الفلسطينية والذي يمهد لأي ولادة تنظيمية جديدة ثالثًا، هذا الفشل الذي يعلمه التنظيم الأم “القاعدة” جعله يبتعد عن إسباغ أي صفة رسمية على تشكيلات السلفية الجهادية في غزة، حتى إن الظواهري الذي انتقد حماس بشدة نظرًا لدخولها الانتخابات رفض أن يدلي بأي تعليق على المعارك الدامية التي حصلت بين حماس وبين هذه التشكيلات في موقف أثار استغراب الكثيرين، الأمر الذي يمكننا القول معه بكل ثقة إن تجربة السلفية الجهادية على عكس بقية الأذرع السلفية الجهادية على مستوى العالم لم تفشل فحسب، بل فشلت ذلك الفشل الذي يُسمى “الفشل الكامل” .
ويعود سبب فشل تجربة السلفية الجهادية في غزة لأربعة أسباب رئيسة الأول متعلق بالزمان والمكان، والثاني الخطاب العام، والثالث بطبيعة البنية التنظيمية، والرابع بالتصرفات والأفعال.
السبب الأول: الزمان والمكان
انطلق النشاط الفعلي للسلفية الجهادية من غزة بعد انسحاب إسرائيل منها ودخول حماس الانتخابات التشريعية، حيث كان القطاع عمليًا محررًا من الاحتلال الإسرائيلي؛ مما منع السلفية الجهادية من تنفيذ عمليات مباشرة ضد إسرائيل فحرمت من عنصر مهم جدًا من عناصر الاستقطاب الجماهيري في الوقت الذي لم تُبذل فيه أي جهود حقيقية لتأسيس خلايا عسكرية في الضفة الغربية الخاضعة للاحتلال بشكل كامل؛ وهذا أدى لترسيخ الدعاية المضادة لخصوم السلفية الجهادية حول طبيعة الدور السلبي الذي تلعبه في غزة وكذلك عن أهمية وأهداف وجودها العسكري في ظل بقعة محررة، ويرسخ أيضًا دعاية مضادة أخرى ترى أن هدف السلفية الجهادية مناكفة التنظيمات الموجودة وعلى رأسها حماس والتنغيص عليها .
السبب الثاني: الخطاب العام
كانت إحدى ركائز الخطاب السلفي الجهادي في قطاع غزة المفاصلة الشديدة مع بقية الفصائل الموجودة، فأحد عناصر هذا الخطاب الرئيسة هو تكفير حكومة حماس وتحريم العمل داخل أجهزتها، والاتهام المتواصل للحركة بالتخلي عن منهج المقاومة بعد دخولها الانتخابات رغم أن أول عملية نفذها جيش الإسلام “وهو أول تنظيم سلفي جهادي في غزة” كانت بالاشتراك مع كتائب القسام بعد دخول الانتخابات بسنة تقريبًا، ولم يقف الأمر عند حكومة حماس فحسب بل تعداه لتحريم العمل مع بقية الفصائل الفلسطينية الموجودة حتى تلك التي تنتمي للتيار الإسلامي كحركة الجهاد الإسلامي والتي تعد ثاني أكبر التنظيمات الفلسطينية المقاتلة في غزة – إجابات منبر التوحيد والجهاد/ المجموعة السابعة عشر/ ص1 – ، ويلاحظ أن معظم الأسئلة التي كانت توجه على منبر التوحيد والجهاد والتي كان يجيب عليها عادة أبو الوليد المقدسي – وهو أمير جماعة التوحيد والجهاد في غزة – كانت متعلقة بحماس حركة وحكومة وكيفية التعامل معها، يقول روبرت غرين “جنودك سيقاتلون بشراسة أكبر حينما يشعرون ببعض الكراهية، لذا قم بتضخيم الفروقات بينك وبين العدو”، هذا التضخيم الذي وصل حد التكفير والتفسيق كانت نتائجه عكسية على النشاط السلفي الجهادي في غزة ونهايته المأساوية، فحماس ليست فاعلًا هامشيًا في القطاع، بل هي الفاعل الأقوى والأكثر فاعلية، وسبق وأن هزمت أقدم تنظيم فلسطيني هزيمة كبيرة، ولن تسمح مطلقًا بأي تنظيم جديد يهدد سلطتها، وهذا ما تُرجم عمليًا في معركتين كبيرتين قصمتا ظهر السلفية الجهادية، وهي معركة الصبرة سنة 2007، ومعركة مسجد بن تيمية سنة 2009، ولو أخذنا بعين الاعتبار أن أبناء التيار الإسلامي هم مركز الاهتمام السلفي الجهادي للجاهزية الفكرية والعقدية للاستقطاب، وأن أكبر شرائح التيار الإسلامي في غزة مشكلة من أبناء حماس والجهاد الإسلامي علمنا بوضوح الخطأ الفادح باستعداء السلفية الجهادية لحماس والجهاد الإسلامي وأنصارهما، ورغم أن الدعايا السلفية الجهادية في بداية الأمر بدا أنها ناجحة، لكنها انتكست في النهاية لكون حالة النقمة التي سادت أبناء حماس خصوصًا كانت متعلقة بالجانب السياسي – الخشية من تنازلات سياسية مكلفة – أكثر من الجانب الشرعي، وكان دخول حماس لحالات اشتباك متعددة مع الكيان الإسرائيلي مبددًا لدعايات السلفية الجهادية دائمًا.
المفارقة المضحكة هنا أن حماس وجهت هذه الدعايا بشكل مضاد للسلفية الجهادية حينما بدأت تعايرها بالفارق النوعي بين قتال الطرفين لإسرائيل، وإذ كان الاتهام بالتخلي عن المقاومة قد بُدد تمامًا مع الوقت كان خطاب التكفير والتفسيق فجًا وصادمًا ومكلفًا كذلك.
السبب الثالث: البنية التنظيمية
رغم محدودية التيار السلفي الجهادية وقلة أفراده وأنصاره، وهو السبب الذي يجعل “التشرذم” شيئًا مستبعدًا، إلا أن التفكك والتشرذم كان سمة التيار السلفي الجهادي من البداية، فقد وصل عدد التنظيمات السلفية الجهادية لأكثر من ستة تنظيمات وهي “جيش الإسلام – جيش أنصار السنة – التوحيد والجهاد – جند أنصار الله – جيش الأمة – مأسدة المجاهدين في فلسطين”، فأول تنظيم سلفي جهادي “جيش الإسلام” نشأ بعد الانشقاق عن تنظيم ألوية الناصر صلاح الدين، هذا التفكك كان ملاحظًا حتى من قِبل محبي وأنصار السلفية الجهادية في غزة وخارجها، فالكثير من الاستفسارات التي كانت تُطرح في المقابلات مع أبرز قادة التنظيم على المنتديات الجهادية، وكذلك الأسئلة التي كانت تطرح على منبر التوحيد والجهاد متعلقة بكيفية التوحد بين هذه التنظيمات في جسم واحد وعن سبب هذا التفكك من الأساس، وقد وضح أبو الوليد المقدسي أسباب هذا الخلاف على منبر التوحيد الجهاد في ستة أسباب وهي الفرقة والاختلاف والافتقاد للمرجعية الشرعية وافتقاد القيادة الرشيدة وانتشار أمراض القلوب وتقديس الشيوخ وإقصاء كل جماعة للأخرى – إجابات منبر التوحيد والجهاد/ المجموعة السادسة عشر/ ص22 -.
وقد حاولت التنظيمات الجهادية تشكيل جسم موحد مرارًا ولكنها فشلت، وانتهى بها الأمر بتشكيل جسم فضفاض لا يلغي وجود التنظيمات الجهادية وفي نفس الوقت يجمعها في جسم واحد، حيث تم تشكيل مجلس شورى المجاهدين في غزة من قِبل ثلاثة تنظيمات “جيش الإسلام – أنصار السنة – التوحيد والجهاد”، وتجدر الإشارة إلى أن الانقسام السلفي الجهادي في سوريا – ممثلًا في جبهة النصرة من ناحية وتنظيم الدولة من ناحية أخرى – أسهم في بروز انقسام داخلي في قطاع غزة بين من يؤيد النصرة ومن يؤيد تنظيم الدولة مما أسهم مرة أخرى في حدة الانقسامات الموجودة سابقًا.
السبب الرابع: التصرفات والأفعال
اشتهر التيار السلفي الجهادي في غزة بخمسة أفعال رئيسة؛ الأول اختطاف الصحفي البريطاني آلان جونسون، والثاني معركة الصبرة بين جيش الإسلام وحكومة حماس، والثالث معركة مسجد بن تيمية بين جند أنصار الله وحكومة حماس، والرابع عملية البلاغ ضد إسرائيل والتي نفذتها جماعة جند أنصار الله، والخامس اختطاف الناشط الإيطالي المؤيد للشعب الفلسطيني فيتوريو آريغوني وقتله، ومن خلال هذه الأفعال نُدرك جيدًا نصيب إسرائيل منها مقابل نصيب الجبهة الداخلية الفلسطينية، فبجانب الاقتتال الداخلي أسهم التيار السلفي الجهادي بتشويه سمعة المقاومة الفلسطينية من خلال تنفيذ عمليات اختطاف ضد صحفيين ومتضامنين أجانب كان أكثرها دموية اختطاف أريغوني وقتله، كذلك ينظر التيار السلفي الجهادي نظرة شك وريبة في قوافل فك الحصار المتجهة لغزة، بالإضافة لخرق إجماع الفصائل الفلسطينية حول التهدئة مع الكيان الإسرائيلي واستمرار إطلاق الصواريخ بشكل متقطع على المستوطنات الإسرائيلية مما يؤدي لإغلاق المعابر- في الوقت الذي يظهر فيه محدودية المشاركة السلفية الجهادية في الحروب مع إسرائيل وهذا بدا واضحًا في حرب 2008 وحرب 2012 وحرب 2014 -.
بالإضافة لتفجيرات داخلية استهدفت مقاهٍ وأضرحة ومقرات مسيحية، وفي الآونة الأخيرة اتخذت هذه التصرفات منحى خطيرًا عندما قام بعض الجهاديين بزرع عبوات ضد مقرات تتبع الحكومة وكتائب القسام، فكان من الطبيعي أن يتولد نفور شعبي واسع من التيار السلفي الجهادي من ناحية، وملاحقة أمنية حكومية من ناحية أخرى؛ مما يحرم التيار من الحاضنة الشعبية أولًا وحرية العمل والتنظيم ثانيًا، وهذا أسهم بشكل واضح في انحسار نفوذ هذه الجماعات وضعف الإقبال عليها.
كل هذه الأسباب مجتمعة أدت لفشل التجربة السلفية الجهادية في غزة – على الأقل حتى كتابة هذه السطور- وتشرذمها؛ مما جعل الأجنحة الرئيسة للفكر السلفي الجهادي على مستوى العالم ترفض الاعتراف بأي تنظيم داخل قطاع غزة، فبجانب تنظيم القاعدة الذي لم يعلق على أي حالة اقتتال بين حماس وهذه التنظيمات، اتبع تنظيم دولة العراق والشام نفس المنهج رغم تعطشه لبسط نفوذه في أي مكان – أسس التنظيم فرعًا له في أفغانستان رغم أن أدبيات السلفية الجهادية تقترب من طالبان أكثر بكثير من اقترابها من حماس – ولم يفعل في قطاع غزة نفس الأمر، ليس حبًا في حماس التي يخونها التنظيم وأحيانًا يكفرها – كما في خطاب أبي عمر البغدادي بعنوان “الدين النصيحة” سنة 2008 – بقدر ما هو انعدام ثقة بأهلية التنظيمات السلفية الجهادية في غزة ومقدرتها على صنع معادلة في الواقع الموجود.