إذا ماأتحنا الفرصة لسوء الظن ليأخذ مداه، فيمكن القول أن الدعوى قُدّمت بإيحاء من تيار المستقبل، وأنها تندرج في سياق الصراع الدائر بين الجانبين. وأن تقديم مشايخ ينتمون لجماعات وجمعيات إسلامية بعيدة عن تيار المستقبل، تأتي رغبة من التيار بأن لايكون “في بوز مدفع” المواجهة مع مفتي الجمهورية، أقلّه في معركة “وقف العلماء”..
أما إذا ما أقبل علينا حُسن الظن من بعيد وهو ما نرغب بأن يكون، فإن الدعوى التي قُدمت، جاءت بعدما اعتبر المشايخ الذين تقدموا بالدعوى أن المفتي بأدائه مؤخراً تجاوز كل الخطوط الحمراء، وأن أخطاءه لم يعد بالإمكان السكوت عنها، ولابد من إيجاد حلّ يتم فيه الحفاظ على مؤسسات دار الفتوى، ولو أدى ذلك لقطع شعرة معاوية مع المفتي. المصرّون على حُسن الظن، سيلفتهم تزامن الدعوى القضائية مع الحملة التي يشنّها تيار المستقبل لعزل المفتي، مما يعني أن تيار المستقبل سيستفيد حتماً في معركته مع المفتي من الدعوى القضائية المقدمة، وهي ستمنح التيار نقاطاً إضافية في معركته مع المفتي. هذا الصراع الذي يحتل المساحة الأكبر من الصورة، جعل الرغبة الصادقة من المشايخ الذين تقدموا بالدعوى القضائية للحفاظ على “وقف العلماء” مسألة هامشية غير ذات أهمية، طبعاً إذا استمر افتراضنا لحسن الظن بمن قدمها(!!).
منذ تبوّأ مفتي الجمهورية منصبه بالوكالة خلفاً للمفتي الشهيد حسن خالد (طيّب الله ثراه) عام 1989، ثم بالأصالة عن نفسه عام 1996، رُسمت من حوله وحول أفراد عائلته الكثير من علامات التعجب والسؤال. فملف الفساد المالي المتعلق بنجله لم يعد سراً، ورائحته الكريهة (الملف) فاحت منذ سنوات، وتسربت أرقامه وتفاصيله إلى وسائل الإعلام. وحين تجرأ البعض ورفع الصوت مطالباً بالتحقيق والمحاسبة، كان البعض الآخر وفي مقدمهم تيار المستقبل يهمس “هسسسسس”، لاتجوز الإساءة لدار الفتوى أو النيل من مفتي الجمهورية.
منذ تبوّأ مفتي الجمهورية منصبه والجميع يدرك أنه يدين بالولاء لتيار المستقبل، وأن هذا الولاء هو الذي منحه جواز سفر الجلوس على كرسي دار الفتوى. وفي كل مرة كان البعض يُبدي استياءه من أن هذا الولاء يسيء للمسلمين في لبنان، وينال من مقام دار الفتوى وهيبة المفتي، وأنه يجدر بالمفتي أن يكون مرجعاً وحاضناً لجميع المسلمين على اختلاف انتماءاتهم، كان البعض الآخر يهمس مجدداً “هسسس”، حذار من هذا الحديث. فلا ينبغي أن ننشر غسيل طائفتنا أمام الملأ، حتى لا تشمت بنا الطوائف الأخرى.
منذ تبوّأ مفتي الجمهورية منصبه، كان واضحاً أنه ضعيف الشخصية. “فكلمة بتاخدو وكلمة بتجيبو”، وأنه يُعطي أذنه لمن حوله ويتأثر بهم بعيداً عن إرادته. ومن الطرائف التي تُقال أنه يتأثر بالأحلام التي تمر بنومه، وأن بعض قراراته اتخذها بناء على تفسيره لرؤاه وأحلامه، وأنه كان يناصب الخصومة والعداء لأمور بسيطة وتافهة. وحين كان البعض يُبدي استياءه من هذه الأداء، كان البعض الآخر يهمس “هسسس”، شئنا أم أبينا، هو مفتي الجمهورية وقَدَرنا أن نتعايش معه ونتقبله كما هو.
المفارقة اليوم، هي أن بعض من كانوا في الماضي يهمسون في آذاننا “هسسس”، هم الذين أخذوا زمام المبادرة في مواجهة المفتي، وانتقاده والإساءة إليه، والنيل من مقامه، والمطالبة بعزله، ونشر الملفات المالية المسيئة بحقه على الملأ.
السبب واضح ولا يحتاج إلى كثير حنكة. فالمفتي لأسباب كثيرة سئم العباءة التي منحته الدفء والحماية طوال سنوات، وأراد استبدالها بعباءة يعتقد أنها أكثر دفئاً، وستمنحه حماية أكبر. هذا التغيير لم يرُق لأصحاب العباءة الأولى فبدأوا حملة شعواء عليه لتهشيمه وإقصائه. لكن ما فات هؤلاء، أنه إذا كان المفتي تخطى في استبدال العباءة خطوطاً حمراء، فإن الأداء الذي يقومون به تجاه المفتي يتخطون به خطوطاً فوسفورية لاتنال من مقام المفتي فحسب، بل من هيبة المسلمين ومؤسساتهم.