يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية تشعر بشيء من الارتباك والحيرة – وربما الندم والحسرة – تجاه قرار اعتقال أو قتل بن لادن في 2 مايو 2011، عبر عملية خاصة نفذها فريق من أفراد الجيش (وحدة سيلز) والمخابرات الأمريكية (CIA) داخل منزله في منطقة “أبوت آباد” في باكستان، وقد أسفرت العملية عن فشل عناصر الجيش بتنفيذ اعتقاله، إلا أنها نجحت في خيار قتله، أما أفراد المخابرات فقد نجحوا في الحصول على قدر كبير من المعلومات الاستخبارية لدراستها وتحليلها وتوظيفها في سياق “حرب الإرهاب”، وعقب أكثر من أربع سنوات لاتزال المعركة حول وثائق بن لادن مستمرة حول مسألة رفع السرية عن هذه الوثائق وجعلها متاحة للجمهور.
لا شك في أن “وثائق أبوت آباد” تحتوي على قدر كبير وهام من المعلومات التي تكشف عن طبيعة تنظيم “القاعدة”، وتطوره الأيديولوجي، وبنائه الهيكلي التنظيمي، ونشاطه العملياتي العسكري؛ فبحسب الولايات المتحدة، فقد تم مصادرة 10 محركات أقراص صلبة، وما يقرب من 100 محرك أقراص صغيرة، و12 هاتفًا محمولًا، بالإضافة إلى مجموعة من أقراص الفيديو الرقمية التي تحتوي على ملفات صوتية ومصورة، وكميات من المواد المكتوبة بخط اليد، فضلاً عن مجموعة من الصحف والمجلات.
تكشف عملية تفتيت بن لادن؛ من خلال نشر وثائقه مقطعة عن تقنيات القراءة الانتقائية الاستشراقية الكولونيالية، وارتباط مسألة المعرفة بالسلطة عبر إرادة الهيمنة وتعمية المعرفة، فعندما نشرت الإدارة الأمريكية الدفعة الأولى من الوثائق عقب مرور عام على اغتيال أسامة بن لادن، على موقع معهد مكافحة الإرهاب في ويست بوينت، تم انتقاء 17 وثيقة بعناية، وذلك قبل ستة أشهر من الانتخابات الرئاسية لعام 2012، حيث عمدت إدارة أوباما إلى بناء حملة منسقة لإقناع الشعب الأمريكي بأن الحرب الممتدة مع تنظيم القاعدة تتجه نحو نهاية سعيدة، بتفكيك القاعدة وهزيمة أيديولوجيتها والقضاء على أبنيتها الهيكلية، ففي 1 مايو 2012، بشر أوباما ناخبيه بلهجة واثقة بالقول: “إن الهدف الذي وضعته لهزيمة القاعدة وحرمانها من فرصة إعادة بناء نفسها بات الآن في متناول أيدينا”.
لقد كان مضمون الدفعة الأولى من الوثائق يرسم صورة بائسة لتنظيم القاعدة وصورة بائسة لزعيمه بن لادن، الذي بدا محبطًا وحزينًا بسبب نجاح سياسات “حرب الإرهاب” الأمريكية، وبروز ثورات الربيع العربي السلمية التي قضت على نهج التنظيم العنيف وأيديولوجيته المتطرفة، حيث ركزت الوثائق المنشورة على محاولة بن لادن التماهي والتكيّف مع عصر الثورة، والتخلي عن إستراتيجية مواجهة “العدو البعيد”، إذ يصف بن لادن في إحدى رسائله ثورات العالم العربي بـ “الحدث العظيم”، ونعتها بـ “ثورة الأمة ضد الطغاة”، ويدعو أتباعه إلى تبني نهج يقوم على “الترفق مع أبناء الأمة الذين وقعوا تحت التضليل لعقود بعيدة”، ويدعو إلى إعادة النظر في استخدام العنف والتوسع فيه كمسألة التترس، فبحسب وثائق بن لادن؛ “هذه المسائل وغيرها أدت إلى خسارة المجاهدين جزءًا لا يستهان به من تعاطف المسلمين معهم ومما زاد خسارة المجاهدين استغلال الخصوم لبعض أخطاء المجاهدين وتشويه صورتهم لدى جماهير الأمة لفصلهم عن قواعدهم الشعبية، ولا يخفى عليكم عظم ضرر هذا الأمر، ففقد جماهير الأمة هو شلل الحركات الجهادية”.
قدم البيت الأبيض الدفعة الأولى من وثائق “أبوت آباد” بصورة مختارة بعناية لمركز مكافحة الإرهاب في أكاديمية ويست بوينت العسكرية لدراستها، ووصل فريق المحللين في المركز إلى النتيجة التي أرادتها إدارة أوباما؛ حيث توصل الفريق إلى نتيجة مفادها أن بن لادن كان في عزلة وعاجزًا نسبيًّا، ولم يكن في آخر أيامه سوى رجل حزين يجلس وحيدًا على قمة الشبكة الإرهابية المتداعية.
أما الدفعة الثانية من وثائق بن لادن التي نُشرت في 20 مايو 2015؛ فقد جاءت عقب أربع سنوات على مقتل بن لادن، حيث نشرت وكالة الاستخبارات الأمريكية (103) وثائق جديدة منقاة بعناية فائقة، في ظرف مختلف تمامًا بعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على مساحات واسعة في العراق وسوريا، وتمدد الجهادية العالمية في دول الثورات العربية المضادة، وبروز نهج جهادي يستند إلى السيطرة المكانية وفق جهاد التمكين الذي يناهض الأنظمة الديكتاتورية المحلية على أسس منظومة أولوية قتال “العدو القريب”، والضغط على الأنظمة الإمبريالية وحرمانها من تحقيق مصالحها الحيوية وإجبارها على القيام بتدخلات عسكرية غير محسوبة بطرق عديدة، كما جاء نشر الوثائق عقب مقال الصحفي الأمريكي سيمور هيرش الذي شكك من خلاله في الرواية الرسمية الأمريكية عن مقتل بن لادن، مؤكدًا أن بن لادن كان معتقلاً لدى السلطات الباكستانية قبلها بخمس سنوات، وأنه لم يكن يدير تنظيم القاعدة آنذاك.
تبدو صورة أسامة بن لادن مغايرة في الوثائق الجديدة عن صورته الحزينة البائسة المهزومة في الوثائق السابقة، فهو يظهر كزعيم محبوب وقائد فذ لتنظيم القاعدة، يقوم بإدارة منظمة بيروقراطية مركزية متماسكة ويشرف مباشرة على إدارة عملياتها، بل إنه يبدو كمنظر إستراتيجي للتنظيم خلال السنوات الأخيرة، كما أنه شخصية “رومانسية رقيقة”، في التعامل مع أفراد عائلته، فخطاباته الخاصة المتعلقة بالجانب الشخصي والعائلي، تكشف عن شخصية حانية وشفافة ومحبة، كما ظهر في رسائله الموجهة لأبنائه وزوجاته، وخصوصًا زوجته خيرية التي كانت في إيران وولدها حمزة.
في سياق تفتيت بن لادن؛ لا نجد في الوثائق المنشورة إشارات أو عبارات تكشف عن الأسباب الموضوعية التي دفعت بن لادن وتنظيم القاعدة إلى قتال الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن كان حليفًا موضوعيًّا موثوقًا في سياق الحرب الباردة، إبّان حقبة الجهاد التضامني في أفغانستان، ثم الشيشان وطاجيكستان والبوسنة، وغيرها من ساحات محاصرة الاتحاد السوفيتي، ثم مشاغلة الاتحاد الروسي، ولا نظفر بوثيقة تتحدث عن جملة الأسباب الحقيقية في تحول بن لادن وتنظيم القاعدة من الجهاد التضامني مع القضايا الإسلامية، إلى الجهاد النكائي ضد المصالح الأمريكية، وهي تتلخص بحسب كافة خطابات بن لادن المعروفة بسياسات الولايات المتحدة الإمبريالية، ودعمها للأنظمة العربية والإسلامية الدكتاتورية، وتحالفها مع المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية.
صورة بن لادن كعدو نبيل في الوثائق الجديدة تظهر من خلال تصوير قدرته الفائقة على إدارة منظمة ممتدة، وكمنظر استثنائي قادر على تجديد النظر وتصويب الاجتهاد، وتركيز منظوره الإستراتيجي بالانشغال بضرب الولايات المتحدة في عقر دارها، فبحسب الوثائق فإن أسامة بن لادن، كان يدعو أنصاره إلى مواصلة التركيز على شن هجمات على الولايات المتحدة، وعدم تشتيت الجهود الجهادية في قضايا جانبية، فقد أوحت الوثائق عن هوس بن لادن باستهداف الأمريكيين ونصيحته لـ “المجاهدين” بالتخلي عن مشروع إعلان دولة إسلامية (دولة الخلافة)، فبحسب بن لادن المفتت إن: “إعلان الدولة الإسلامية قبل استنزاف الكفر العالمي يشبه وضع العربة أمام الحصان”.
لا جدال في أن وثائق الاستخبارات الأمريكية المنشورة تعكس القلق الأمريكي من النهج الجديد للجهادية العالمية، وممثلها تنظيم الدولة الإسلامية، فالهدف الأساسي من الوثائق المسربة الجديدة؛ هو توظيف كاريزما بن لادن في التصدي لأيديولوجيا الدولة الإسلامية، فقد قدمت الوثائق أمثلة عديدة عن النهج السياسي البراغماتي لبن لادن وتنظيم القاعدة؛ عبر تشجيع حركة طالبان باكستان على التفاوض مع حكومة باكستان لإحلال السلام، والتفاوض مع دول عديدة حول الرهائن، والتأكيد على فروع القاعدة بعدم استهداف قوات الجيش والأمن والتركيز على الولايات المتحدة، ورفض السيطرة المكانية وتأسيس دولة إسلامية، ففي إحدى الرسائل لفرع القاعدة في اليمن يقول “علينا وقف العمليات ضد الجيش والشرطة في كل المناطق وخصوصًا في اليمن”، وهو يؤكد على أن الأولوية يجب أن تكون ضرب أمريكا؛ لإجبارها على “التخلي عن أنظمة الشرق الأوسط” وترك المسلمين وشأنهم، كما يشدد على أن “الانقسام في الحركة الجهادية قد يؤدي إلى هزيمتها”.
تهيمن على النزعة الانتقائية لوثائق بن لادن التصدي لجاذبية تنظيم الدولة الإسلامية، وإظهار بربريتها ووحشيتها، وانحرافها عن نهج بن لادن وتنظيم القاعدة، إذ تبرز الوثائق استياء من نهج الفرع العراقي منذ حقبة أبي مصعب الزرقاوي، مرورًا بأبي عمر البغدادي، وأبي حمزة المهاجر، وصولاً إلى أبي بكر البغدادي، وتتناسى رسائل عديدة منشورة لبن لادن يكيل فيه الثناء والمديح لتنظيم الدولة وقياداته، لكن الوثائق تنتقي مجموعة من الرسائل التي تلقاها بن لادن وتنظيم القاعدة من بعض الشخصيات والجماعات الجهادية العراقية، تشتكي فيها من سلوك الفرع العراقي، كأنصار السنة وجبهة الجهاد والإصلاح وغيرها.
خلاصة القول؛ إن الولايات المتحدة الأمريكية تهدف من خلال نشر الوثائق المنتقاة بعناية فائقة – المنشورة من قِبل جهاز المخابرات الأمريكية – إلى مواجهة النزعة الجهادية العالمية الجديدة، والتنفير من نهج تنظيم الدولة الإسلامية والحد من جاذبيته وانتشاره ونفوذه، من خلال استخدام بن لادن عبر قراءة انتقائية تفتت بن لادن وتنزعه من سياقه الجهادي، وتضعه في سياق العداء السياسي النبيل، في مواجهة عداء هوياتي ثقيل، وتدفع بالحالة الجهادية العالمية إلى مزيد من التشرذم والانقسام والدخول في صراع دموي عنيف حول تركة بن لادن وتمثيل نهج القاعدة.
المصدر: التقرير