كرجل في الثلاثين من العمر، أنهكه المرض وأقعده الوجع منذ تسعة أعوام، وهو يحاول مقاومة الموت بأي وسيلة طمعًا في البقاء على قيد الحياة، وأملًا بأن يجد له الأطباء علاجًا يخفف ما به من ألم ووجع، وينهي رحلة طويلة من التعب والعزلة عن المجتمع.
ذلك الرجل الذي وقف الأطباء قبل عامين عاجزين عن إيجاد العلاج المناسب له، فقرروا إعلام ذويه أن عمره الافتراضي ثمانية أعوام، إذا ما استمر هذا التدهور الصحي في جسده النحيف، ثم أخبروهم أن هذه الأعوام الثمانية هي الحد الأقصى لبقائه على قيد الحياة، وأن أي تدهور آخر قد يطرأ على صحته قد يجعل هذه المدة مبالغًا بها، وقد يعجل فرص الموت المحقق أسرع من ذلك.
وخلال العامين الماضيين أي بعد التقرير الأول للأطباء، تعرض هذا الرجل ثلاث مرات متتالية لتدهور خطير في صحته، وقد أعرب الأطباء عن بالغ قلقهم وأسفهم لهذا التدهور المتسارع الذي أصاب هذا الجسد النحيف المنهك أصلًا، الأمر الذي قلص فرص البقاء على قيد الحياة، فكل إشارات الخطر تجاوزت الخط الأحمر، وبات الرجل غير قادر حتى على مقاومة هذه الأمراض، وهو ينظر كل يوم فيمن حوله بألم ويترقب بصمت لحظة إعلان وفاته.
ما جاء في السطور السابقة ليست قصة خيالية لكنها تجسيد لواقع غزة المنهكة المحاصرة، وهي تطرق باب العام العاشر من الحصار الظالم، وقد وجدت نفسها تدخل هذا العام وحيدة هزيلة معزولة عن العالم، وشرايين الحياة قد قُطعت من القريب قبل البعيد.
غزة أنهت عامها التاسع تحت الحصار ودخلت بجسدها المنهك العام العاشر، ولا زال الأمل، رغم الألم، يحذوها بفرج قريب وتحرك سريع ينهي معاناته التي تجاوزت كل الخطوط الحمراء، حتى بات القطاع المنهار اقتصاديًا، المنهك سياسيًا، الضعيف اجتماعيًا، غير قادر على إرسال الإشارات الحمراء للضمير الإنساني الذي مات على عتبات غزة، فالإنسانية لم تقدم لغزة غير التعبير عن “القلق” وفي بعض الأحيان كان “القلق البالغ” هو أقصى ما يمكن لهذا العالم أن يقدمه.
عام 2012 .. ثمانية أعوام تفصل غزة عن الموت
عام 2012، وقبيل العدوان الجوي الإسرائيلي على قطاع غزة، والذي استمر ثمانية أيام، كان المجتمع الدولي يحذر من خطورة الوضع الإنساني في القطاع، وفي تقرير لمنظمات تابعة للأمم المتحدة كانت خلاصته “كي نضمن أن يبقى قطاع غزة مكانًا قابلًا للحياة فيه مع حلول 2020، لا بد من بذل جهود “خارقة” ومتواصلة من قِبل الفلسطينيين وشركائهم، في قطاعات الطاقة والتعليم والصحة والمياه والصرف الصحي، وهذه الجهود يجب الإسراع بها وتكثيفها رغم كل المعوقات”.
التقرير احتوى على العديد من النقاط والأرقام الصادمة في ذلك الوقت، وقال إن بقاء الأمور على حالها حتى العام 2020 سيجعل الحياة غير ممكنة في قطاع غزة، لكنه حذر أيضًا من أن أي تدهور في الوضع الإنساني في القطاع سيجعل الحياة أكثر صعوبة، والواقع أكثر كارثية ففي عام 2011 وصلت نسبة البطالة إلى نحو 29%، وحذر التقرير من أن استمرار الوضع سيصل بها إلى 49% بحلول العام 2020، كما تضمن التقرير الصادر عام 2012 تأكيدًا على أن اقتصاد غزة يعتمد بشكل كامل على تجارة الأنفاق والمساعدات الخارجية القادمة من خلال المؤسسات الدولية والقوافل الإغاثية، وحذر من أن هذه المصادر غير مستدامة.
وعلى الرغم من أن العام 2012 وحتى منتصف العام 2013 شهد تحسنًا نسبيًا في الوضع الاقتصادي والإنساني في القطاع، إلا أن الحصار استمر في فرض وقائع على الأرض، ما دفع روبرت تيرنر، مدير عمليات وكالة الغوث في قطاع غزة، للقول “إذا استمر الاقتصاد المحلي في عدم خلق فرص عمل، واستمر منع الناس من الخروج والهجرة، فالنتائج ستكون سلبية؛ توتر اجتماعي، عنف، تطرف كنوع من وسائل الهروب من غياب الأمل، هذا هو السيناريو المحتمل في غزة إلا إذا تغيرت الأوضاع السياسية والاقتصادية بشكل جذري”.
شرايين الحياة تُقطع عن غزة
يبدو أن المُحاصرين لشعبنا الفلسطيني قد استفادوا كثيرًا من تقرير الأمم المتحدة الصادر عام 2012، ليس من جهة التخفيف عن غزة وسكانها، الذين تجاوزوا 1.8 مليون نسمة، بل لمعرفة مكامن القوة الباقية في هذا الجسد المنهك، والمصادر التي تمده بالحياة فذهبت لقطعها الواحد تلو الآخر.
أيام قليلة فصلت بين التقرير الأممي وبين الحرب الإسرائيلية نهاية 2012، والتي أحدثت دمارًا هائلًا في المنازل السكنية والمؤسسات والبنية التحتية، حاولت غزة بعدها أن تلتقط أنفاسها فإذا بالشقيقة مصر، ومع منتصف العام 2013، تباشر بقطع شرايين الحياة عن غزة وتوقف مصادر دعم اقتصادها المترهل أصلًا، فدمرت الأنفاق وأغلقت المعابر، ومنعت وصول القوافل الإغاثية أو المساعدات الإنسانية، وعزلت غزة تمامًا عن محيطها العربي والعالمي.
حاولت غزة أن تهرب خطوة للأمام ومدت يدها إلى الجزء الآخر من الوطن حيث الضفة الغربية، فكانت المصالحة في أبريل 2014، لكن المصالحة لم تتم، والمعابر لم تفتح، والحكومة لم تمارس دورها الطبيعي بعد أن وضع عليها الرئيس عباس فيتو سياسي، وحرم عشرات الآلاف من الموظفين من رواتبهم؛ مما زاد من معاناة القطاع وضاعف أعداد الفقراء، ولم تكد غزة تستفيق من صدماتها المتلاحقة حتى كانت الحرب الإسرائيلية المدمرة في يوليو من نفس العام، تلك الحرب التي دمرت فيها إسرائيل ما تبقى من أمل للفلسطينيين، فأتت على البنية التحتية، المنازل السكنية، الآبار الجوفية، شركة الكهرباء، والمؤسسات التعليمية والصحية، وكأنها بعد 51 يومًا تقول للمجتمع الدولي إن ما تبقى من أمل في مزيد من الحياة بغزة قد انتهى وليس أمام الغزيين إلا الموت، أو الهروب باتجاه البحر للموت أيضًا.
عام 2015.. غزة تموت، والمجتمع الدولي صامت!
خرجت غزة من الحرب الأخيرة كرجل في النزاع الأخير فكل شيء مدمر هنا، فلا كهرباء ولا مياه نظيفة، لا حياة تعليمية أو صحية، لا أدوية أو مستهلكات طبية، لا منازل ولا بنية تحتية، لا مصانع أو اقتصاد، لا معابر أو مواد إعمار، ولا حكومة، كُل شيء دمرته إسرائيل وأدواتها: من سلطة تتنكر للمصالحة، ومصر التي شاركت في تشديد الحصار فأغلقت معبر رفح ودمرت الأنفاق وعزلت غزة تمامًا عن العالم، ومجتمع دولي صامت يتفرج ويكتفي بالمزيد من القلق.
غزة تدخل العام العاشر من حصارها، وأكثر من 100000 مواطن بلا مأوى موزعين في مراكز الإيواء، الكرفانات، الخيام، والبيوت المستأجرة.
تدخل غزة عام 2015 وأكثر من 400000 طفل بحاجة عاجلة لإعادة التأهيل النفسي والدمج في المجتمع، حسب تقرير لليونسف صدر مؤخرًا، أكد أن ظروف هؤلاء الأطفال صعبة، وأن مستقبلهم مظلم إذا لم تتوفر لديهم وسائل الحياة.
وإذا كان التقرير الأممي الصادر عام 2012 توقع ارتفاع نسبة البطالة عام 2020 إلى 49%، إلا أن الصدمة الكبرى أن غزة بعد الحربين وتقطيع مصادر الاقتصاد الذي تحدث عنها ذلك التقرير، لم تستطع الصمود حتى العام 2020، فنسبة البطالة في غزة هي الأعلى في العالم حيث تجاوزت 43%، بينما تصل في صفوف الشباب إلى 60%، حسب ما جاء في تقرير للمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، وإذا ما استمر الوضع على ما هو عليه اليوم، من إغلاق للمعابر ومنع لدخول مواد الإعمار، فإن نسبة البطالة مرشحة للزيادة حتى نهاية العام الحالي.
يقول ستين لو يورجينسون، المدير الإقليمي للبنك الدولي في الضفة الغربية وقطاع غزة، “تعتبر أرقام البطالة والفقر في قطاع غزة مقلقة جدًا، والتوقعات الاقتصادية مزعجة، نظرًا لعدم قدرة الأسواق القائمة في قطاع غزة على توفير فرص عمل، مما ترك شريحة واسعة من السكان، ولاسيما الشباب، في حالة من اليأس”.
تنهي غزة عامها التاسع من الحصار ونحو 80% من سكانها يتلقون مساعدات غذائية من المنظمات والمؤسسات الدولية، بينما يقبع 40% من السكان تحت خط الفقر، رغم هذه المساعدات التي انخفضت أو شحت بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة، ومنع مصر وصول قوافل المساعدات إلى القطاع، فيما لا زال نحو 70% من السكان يفتقدون إلى الأمن الغذائي.
أزمة الكهرباء في غزة لا زالت على حالها، ومن المتوقع أن تزداد سوءًا منتصف الشهر القادم، إذا ما قررت حكومة الوفاق إعادة فرض ضريبة “البلو” عليها، فشركة الكهرباء، التي تعرضت خلال الحروب الثلاثة لأضرار كبيرة، باتت عاجزة على توفيرالاحتياجات المتزايدة لسكان القطاع الذين ينتظرون صيفًا حارقًا حسب الدوائر الأرصاد الجوية.
خلال الحرب الأخيرة دمرت إسرائيل الكثير من الآبار الجوفية، مما جعل فرص الحصول على المياه بشكل منتظم هو حُلم ثلثي السكان في غزة، بينما يضطر نحو 80% من السكان لشراء المياه النظيفة، حيث إن المياه التي تصل للبيوت غير صالحة للشرب أو الطهي، إذ تشير الدراسات إلى أن 95% من مياه قطاع غزة غير نظيفة.
تدخل غزة العام العاشر من الحصار وقطاعات الاقتصاد والصيد والزراعة تشهد تراجعًا هو الأخطر في مستويات الإنتاج، حيث تركت الحرب الأخيرة واستمرار الحصار آثارًا مدمرةً على الاقتصاد في القطاع وعلى معيشة الناس، فاختفت صادرات غزة وتقلص قطاع الصناعة بنسبة تصل إلى 60%، وأصبح الاقتصاد غير قادر على الصمود دون الارتباط بالعالم الخارجي، في حين انخفض ناتج النمو المحلي الإجمالي لقطاع غزة بنحو 460 مليون دولارًا، وكانت قطاعات الإنشاءات، الزراعة، الصناعة، والكهرباء الأكثر تأثرًا مع انخفاض الناتج بنسبة 83% في قطاع الإنشاءات في النصف الثاني من عام 2014، وبنسبة 50% تقريبًا في بقية القطاعات.
غزة عام 2015 بموظفين بلا رواتب، مستشفيات بلا أدوية، حياة بلا أمل، وشباب بلا طموح، غزة المنهكة بجسدها الضعيف وواقعها الصعب تستصرخ اليوم بألم ووجع ما تبقى من الضمير الإنساني، لعله يتحرك في اللحظة الأخيرة لإنقاذها من موت بات محققًا اليوم.
غزة بحاضرها المظلم ومستقبلها المجهول تناشد ما تبقى من كرامة عربية في ضمير الأمة زعامات وحكومات وشعوب، لعل أحدًا يلتفت إلى معاناتها، صرخات أطفالها، أنين نسائها، والألم القابع في صدور رجالها، غزة لا تستحق كل هذا الظلم والقهر والحصار والدمار، غزة لا تستحق كل هذا الخنق الذي يشتد عليها ساعة بعد ساعة وكأن ملك الموت يقترب منها رويدًا رويدًا أمام بصر العالم وسمعه.
تنظر غزة إلى أعالي البحار ترقب أسطول الحرية الثالث بأمل لعله يحمل معه ما تبقى من ضمير إنساني، فإما أن يرفع حصارها أو يلفظ على شواطئها أنفاسه الأخيرة، أو أن الاحتلال سيحرمه حتى من هذا الشرف ويقتله مجددًا في عرض البحر، فمن ذا الذي يمنعه من تكرار ما فعله عام 2010 في سفينة مرمرة.
سلام على غزة في الأولين، وسلام على غزة في الآخرين، وسلام على غزة في الملأ الأعلى إلى يوم الدين، وعظم الله أجركم في إنسانيتكم، وعظم الله أجركم في دينكم وعروبتكم.