وأخيرا بدأ الحوار الوطني برعاية الرباعية ( المتمثلة في الاتحاد العام التونسي للشغل ،الاتحاد العام للصناعة والتجارة ،الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وهيئة المحامين) وهي لحظة لم يكن الوصول إليها إلا نتاجا لمراحل سابقة اخذ فيها الصراع بين القوى السياسية المختلفة أشكالا متعددة وتجاذبات حادة تتفاوت من حيث القوة والفاعلية ،وهي حالة من الصراع تكشف عن وضعية الارتباك السياسي التي تعيشها النخبة السياسية في تونس منذ سقوط بن علي والفشل في إيجاد الصيغة المناسبة للتعايش بصورة تسمح للجميع بالمشاركة في الشأن العام دون إلغاء أو إقصاء أو اضطرار للاحتراب الداخلي بشتى أشكاله.
فمنذ ظهور نتائج انتخابات 23 أكتوبر (تشرين أول)2011 بدا واضحا أن ثمة فئات سياسية مختلفة ترفض القبول بالنتائج أو على الأقل لا تقبل بالإدارة الجديدة التي تولت السلطة لاعتقادها أنها لا تعبر بصورة صادقة عن المشهد السياسي وهذا يعود إما لمنطق الخصومة السياسية والمناكفة الإيديولوجية أو إلى خلاف المصالح خاصة بالنسبة لفئة السياسيين الذين كانوا يديرون اللعبة السياسية زمن بن علي.
وبمراجعة بسيطة للأحداث المتلاحقة في المشهد السياسي التونسي يمكن أن نصنف المشهد الحزبي على النحو التالي:
أولا: قوى سياسية تمترست وراء منظمات المجتمع المدني واستفادت من حضورها الواسع فيها واستغلتها وسيلة للضغط على خصمها السياسي الوافد الجديد للسلطة وهذه القوى نعني بها تحديدا قوى اليسار التي ارتهنت قرارات الاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان لمصلحتها وجعلتها حصان طروادة في صراعها السياسي.
ثانيا: قوى سياسية استخدمت نفوذها في الدولة العميقة والمكاسب التي راكمتها طيلة سنوات حضورها مع النظام السابق ونعني بها تحديدا حزب نداء تونس وكل المجموعات المتحالفة معه ممن يمثل كثير من سياسييها مجرد امتداد للحقبة السياسية السابقة وهذا الطرف لديه حضور في اتحاد الصناعة التجارة ( منظمة رجال الأعمال ) وكذلك في الإدارة والأجهزة الفاعلة في الدولة.
ثالثا: الترويكا الحاكمة ( أحزاب النهضة والمؤتمر والتكتل ) وهي تتجاوز مجرد الثلاثي الحزبي الحاكم لتعبر عن طيف واسع من المجموعات السياسية التي استفادت من الثورة والتي تسعى لتثبيت أقدامها في المشهد الوطني مستندة في ذلك إلى الشرعية الانتخابية ومنطق التداول على السلطة ورفض الخطابات الانقلابية أو منطق القفز على الخيارات الشعبية.
رابعا: قوى ثورية ( حركة وفاء وحركة سواعد والرابطة الوطنية لحماية الثورة )وهي تسعى إلى مواصلة المسار الثوري ضدا لكل محاولة للانتكاس أو الارتداد إلى زمن المخلوع وهذه القوى الثورية ورغم نقدها للترويكا تظل رافضة لكل فكر انقلابي وهي في هذا تلتقي مع الترويكا الحاكمة ولكنها في ذات الوقت تتوجس خيفة من منطق المحاصصة الذي تسعى إليه بعض أطراف المعارضة أو القوى المتنفذة من بقايا المخلوع وهو أمر قد يجد هوى في نفس بعض أطراف الترويكا ممن يريد الحفاظ على البقاء في السلطة ولو من خلال تحالفات مع أطراف هي في االاصل ليست إلا خصما للثورة وعدوا لها.
وفي ظل هذا التوزيع للخارطة السياسية المتنازعة يمكن القول أن المشهد السياسي التونسي يكشف عن جملة من التناقضات وحالة من التجاذب بدأت بتعبئة الشارع مرورا بالدعوة للانقلاب وصولا إلى الحوار الوطني الحالي.
صراع الشوارع:
واقعيا لم تتوقف تعبئة الشارع من جميع الأطراف طيلة فترة ما بعد الثورة ومن جميع الأطراف حكومة ومعارضة غير انه في الفترة الأخيرة حاولت المعارضة التونسية تعبئة الشارع والتهيئة للإطاحة بالحكومة من خلال ما سمي باعتصام الرحيل والتحركات التي رافقته وقد حاولت المعارضة قبلها الاستفادة من التجربة المصرية باستنساخ حملة تمرد وقد داعب خيالات زعماءها ما جرى من انقلاب في مصر وهو أمر تصور بعض قوى المعارضة انه يمكن تعبئة الشارع لتحقيقه بصورة أو بأخرى ، دون أن يعني هذا أن الترويكا لم تقم بدورها بتعبئة شارعها ودعوته للاحتشاد رغم أنها تجنبت الدعوة إلى التصادم خلافا لرغبة بعض أطراف ما يسمى بجبهة الإنقاذ التي تصورت للحظة أنها ستجتاح مقرات السيادة ( وزارات ،ولايات ،معتمديات) وتقوم بتنصيب مسئولين جدد ثم الإعلان عن حكومة إنقاذ وطني وحل المجلس التأسيسي وهو أمر ظل حلما اقرب إلى الوهم السياسي مما هو تخطيط قابل للتحقق وبهذا المعنى فشلت لعبة تعبئة الشارع التونسي وربما كانت أهم عوامل فشل التجييش هي رفض الشارع التونسي للتجاذب السياسي ويأسه من العملية السياسية برمتها وافتقاده للثقة في خطابات السياسيين الذين قدموا طويلا خطابات رنانة ولكنهم سقطوا عند امتحان الممارسة خاصة بالنسبة لأولئك الذين كانوا أعضاء في المجلس التأسيسي ثم انسحبوا منه بعد أن اغترفوا من مال الشعب واستفادوا من الحصانة قبل أن يتركوا الجماهير التي انتخبتهم وحيدة.
محاولة الانقلاب:
إن ما يميز كثير من القوى السياسية التونسية هو اعتقادها أن الساحة السياسية هي ساحة حرب اجتماعية لا تفتر يجوز فيها استخدام كل الوسائل اللاقانونية واللااخلاقية وهو أمر تجلى في استخدام التسريبات الصحفية والتسجيلات السرية والتشويه الإعلامي ومحاولة إسقاط الخصم الحاكم بكل الوسائل والطرق ،حيث أصبحت الممارسة السياسية في غالب الأحيان إستراتيجية للكسب أو للحماية أو للمصالح الخاصة وأصبحت الماركنتيلية والانتهازية والزبونية وكل أساليب الاحتيال والغش والكذب رديفة للفعل السياسي إلى حد الدعوة العلنية والصريحة إلى الانقلاب العسكري أو الأمني وتحريض أجهزة الدولة على الخروج على حكم الترويكا وقد تواطأ على هذا الفعل مجموعات سياسية ورجال أعمال وحتى قوى خارجية تريد إعادة تشكيل المشهد السياسي التونسي، في المقابل فإن الترويكا لم تبق مكتوفة الأيدي حيث عمدت إلى جملة من التغييرات في المواقع الحساسة للأجهزة الأمنية والعسكرية وحتى الإدارية العليا خاصة بعد الانقلاب المصري لتجهض بذلك أي فرصة للانقلاب عبر القوة الصلبة.وهنا اندفع الطرف المقابل إلى فكرة الضغط عبر المؤسسات المدنية التي تقع في مجال نفوذه ونعني بها تحديدا اتحاد العمال واتحاد الأعراف ورابطة الدفاع عن حقوق الإنسان لإجبار الحكومة على الاستقالة وتعيين حكومة جديدة في محاولة اعتبرتها الترويكا الحاكمة ومعها القوى الثورية محاولة للانقلاب عبر القوة اللينة ومن خلال تشكيل حكومي موالي للمعارضة سيلغي أي إمكانية لمواصلة الانتقال الديمقراطي خاصة في ظل دعوات بعض أجزاء جبهة الإنقاذ إلى حل التأسيسي ورفض الدستور الذي يوشك على الاكتمال والعودة إلى الحالة الصفرية التي كانت قائمة اثر فرار المخلوع.
الحوار الوطني :
لم يكن هذا الحوار الوطني مطروحا من قبل بالصيغة التي عليها اليوم خاصة وقد كان مشروطا بإسقاط الحكومة وحل المجلس التأسيسي غير أن توازنات الواقع السياسي وطبيعة الرهان الخارجي على الوضع الداخلي التونسي قد دفع الأطراف السياسية إلى محاولة إيجاد مربعات للتواصل بينها وهو أمر بدأ باجتماع شهير بين الغنوشي ( زعيم النهضة ) والسبسي ( رئيس حزب نداء تونس ) في فرنسا ( مع ما يحمله المكان من شحنات رمزية ومن معنى ) ثم تطور إلى لقاءات متعددة بين رموز الترويكا وممثلي الرباعية الراعية للحوار لتصل في النهاية حالة التوافقات للتفاهم على حوار وطني خارج الاشتراطات المسبقة أو منطق تجريد الخصم من كل أدوات قوته دون أن يعني هذا أن منطق الحسابات والرغبة في الإلغاء قد ابتعدت عن ذهن هذا الطرف اوذاك.. إنها لعبة اكراهات التعايش ولعنة التوازنات المفروضة في ظل ديمقراطية ناشئة تتعرض لتآمر القريب والبعيد ممن لا يعجبهم منطق الاحتكام إلى الصندوق أو إرساء نموذج ديمقراطي عربي يكون فيه الشعب هو بيضة القبان وأداة حسم الاختلاف السياسي والحزبي.
إن ما تعيشه تونس اليوم من حالة ارتباك سياسي ناجم عن غياب ثقافة الديمقراطية التي يفترض أن تتجسد في ذهنيات ومسلكيات ، إن المعيار الحقيقي للتطور السياسي في بلادنا اليوم كما في العقود القادمة ليس فقط في استكمال وتنقيح النصوص القانونية والدستورية بقدر ما هو كامن في تمثل الثقافة الديمقراطية والإيمان بمنطق التداول الذي يرفضه البعض سواء تحت شعار الايديولوجيا أو بمنطق المصلحة وراية التوافق ،فالطموح إلى إرساء دولة القانون يتطلب أولا تخليق الحياة السياسية وشحذ أخلاق الضمير وتنمية أخلاق المسؤولية كأخلاق تضبط الممارسة السياسية ضبطا قانونيا إضافة إلى أشكال الضبط التقليدية المعروفة الأخلاقية والدينية.