ترجمة وتحرير نون بوست
مع دخول أو اقتراب موعد الفحوصات، ينتشر الشعور بالاشمئزاز من الاختبارات التقليدية في كل مكان، وكأن المعلمين والطلاب وأولياء الأمور، جميعهم على حد سواء، يرون هذه الاختبارات كمقياس معقد ومضلل لقياس التقدم العلمي.
تشير الإحصائيات أن عدد الآباء الذين يعترضون على الاختبارات التقليدية لايزال منخفضًا جدًا، فمثلًا وفقًا لاستطلاع رأي قامت به الأسوشيتد برس في أمريكا عام 2013، تبين أن 26% فقط من الآباء يعتقدون أن أطفالهم يتقدمون للكثير من الاختبارات التقليدية، ولكن من الملاحظ أنه في الفترة الأخيرة يوجد المزيد والمزيد من الآباء الذين ينضمون لفئة الأشخاص الذين يذمون هذه الامتحانات.
أحد الأدلة التي تشير إلى تضخم نسبة الأهالي المعترضين على الاختبارات التقليدية تتمثل بحالة مقاطعة هذه الامتحانات من قِبل الطلاب بدعم كامل من أهاليهم؛ ففي مارس المنصرم، وفي ولاية نيو جيرسي فقط، اختار حوالي 46.000 طالب عدم التقدم لأحد هذه الاختبارات، وهذا مثال واحد فقط على تنامي حركة المقاطعة التي تم رصدها في العديد من الولايات أو الدول الأخرى أيضًا.
التعليم هو نظام معقد، ويتأثر بعدد لا يحصى من العوامل التي تؤثر على قدرة وأداء الطالب، كالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية (الفقر)، والإعاقات التعليمية، واشتراك أولياء الأمور في العملية التعليمية، وهلم جرا.
ومن هذا المنطلق، من السخيف – إلى حد ما – أن نحاول تحديد الأداء الأكاديمي للطالب، والمفارقة تكمن في ذات الوقت، أنه بدون قياس وتحديد مدى تقدم الطلاب، لن يكون لدينا طريقة لمعرفة فيما إذا كانوا قد تعلموا شيئًا، كما لن نستطيع أيضًا تقييم النظام التعليمي بشكل عام.
ولكن وعلى أرض الواقع، ما الذي نحاول تعليمه للطلاب؟ وهل حقًا الاختبارات التقليدية هي الوسيلة المثلى لتلقين الطلاب المعرفة والمعلومات؟
ما من شك بأن الاختبارات هي عبارة عن محفزات مخيفة لاستهلاك الوقت، كما أنها تجعل الطلاب بحالة عصبية ومتوترة بشكل لا يصدق، فكما يقول جون أوليفر في إحدى مقالاته:
“يوجد لدينا تعليمات رسمية حول طريقة التصرف في حال تقيأ الطالب أو الطالبة على ورقة الامتحان، لذلك، لابد أن يكون هنالك شيء ما خاطئ في النظام أو العملية التعليمية التي نتبعها، حتى نصل إلى مرحلة اليقين بوجود طلاب ستتقيأ من فرط توترها، فأولًا وأخيرًا الفحوصات يجب أن تكون طريقة لقياس المهارات لدى الطالب، وليست معركة تستهدف أعصاب الطالب”.
من الواضح أن الامتحانات التقليدية تضع الطلاب تحت ضغوطات هائلة، تتركز على ضرورة أدائهم الجيد ضمن هذه الاختبارات، وهذا ما يلقي بظلاله على الحالة الجسدية للطلاب، الذين يشعرون بالضغط والغضب والتوتر، ومن نافلة القول أن هذه الطريقة لا تبدو الوسيلة المثالية أو الصحية لإعداد قادة المستقبل أو علماء الغد.
نظريًا، الاختبارات التقليدية القياسية تم إيجادها لتحقيق غاية سامية، حيث تم تصميم ووضع هذه الاختبارات لقياس أداء كل من الطلاب والمعلمين، بغية تحسين النظام التعليمي بشكل عام، وأشارت صحيفة ذي أتلانتيك، أن هذه الاختبارات بدأت تأخذ مكانها ببطئ ضمن النظام التعليمي الغربي منذ عام 1970، ولكن في السنوات الـ15 الماضية، تطورت هذه الاختبارات، وأصبحت متكررة ونمطية بحيث أصبحت عماد النظام التعليمي ككل.
في أمريكا على سبيل المثال، تمت المباشرة ببرامج تعليمية تتخذ من الاختبارات التقليدية أساسًا لها، مثل برنامج “السباق نحو القمة” وهو عبارة عن منحة اتحادية تنافسية شرعتها إدارة الرئيس أوباما بمبلغ 4.35 مليار دولار، وتتخذ هذه المنحة أساسًا تنافسيًا قائمًا على معيار “المعلومات الأساسية”، وهو عبارة عن معيار يحدد المعلومات التي يجب أن يمتلكها الطلاب في أي مجال من المجالات، مثل المهارات اللغوية أو المهارات الحسابية، ابتداءًا من مرحلة رياض الأطفال وحتى نهاية مرحلة التعليم الثانوي، وهذه المعايير، كانت تهدف إلى رفع تصنيف أمريكا عالميًا في مجال التعليم، عن طريق إعداد الطلاب لمرحلة الجامعات وما بعدها، وفقًا لصحيفة فوكس.
ظاهريًا، يبدو هذا النظام أخّاذًا ورائدًا وواعدًا، فهو يضع الأسس لمساءلة المعلمين، ويضمن تزويد الطلاب بالوسائل التي يحتاجونها لتحقيق النجاح في العالم، ولكن مع ذلك، ومن الناحية العملية، تبرز مشاكل عدة متعلقة بالاختبارات التقليدية، كون هذه الأخيرة تتلاعب بثقافة التعليم.
ولتوضيح ذلك، دعونا نعود إلى مثال منحة “السباق نحو القمة” الأمريكي، فالحكومة الاتحادية هناك ستقوم بتمويل الولاية التي سيثبت من خلال الامتحانات التقليدية أنها توصلت إلى معيار “المعلومات الأساسية”، وهنا ستتسابق الولايات للحصول على هذا التمويل؛ مما سيفتح الباب أمام انتهاج سياسات معقدة بهدف الوصول إلى هذه الغاية، وباختصار يمكن القول إن هذا سيخلق نظام يتسم بالمنافسة الشديدة، التي ستنعكس على المعلمين والمدرسين، الذين سيتم وضعهم تحت ضغط هائل لرفع مستوى أداء الطلاب في الاختبارات المعيارية.
وبالمحصلة، سيتم تعليم وتدريب الطلاب لاجتياز هذه الاختبارات فقط، بدلًا من تطوير مهارات التفكير النقدي لديهم، التي يجب أن تكون الغاية المفترضة الأساسية خلف جميع البرامج التعليمية أساسًا؛ وبذلك سيتم تعليم الطلاب ليصبحوا أدوات لتأدية الفحوصات عن طريق استذكار القواعد والمعايير التي تم تلقينهم إياها حول الامتحانات.
يقول المدرّس روبرت هاتش في مقالة له نشرها مؤخرًا في موقع Salon “منذ وصول نظام الاختبارات التقليدية ليصبح الأساس التعليمي، أصبح الطلاب على نحو متزايد مجرد آلات لأداء الامتحانات، ونتيجة لذلك، تم تقليص عقولهم بشكل مطرد، كما يتم تقليص حجم الرأس بشكل مستمر في طقوس تقليص الرؤوس البربرية”، ويفصّل هاتش في مقالته، أن السبب الرئيس لكون نظام الاختبار على أرض الواقع مناقضًا لنظام التعلّم – التعلّم بمعنى اكتساب المعرفة من خلال الفهم -، هو أنه عندما يجتر الطلاب المعلومات التي يحفظونها سابقًا، فهم لن يكونوا قادرين على هضمها، أي معالجتها لتصبح مادة معرفية من خلال الفهم؛ فعملية التذكر هي بالمعنى الشامل بديلة لعملية الفهم، وهاتان العمليتان هما مفتاح الاحتفاظ بالمعلومات، بمعنى أنك لتحتفظ بمعلومة ما في ذاكرتك، فإما أن تتبع طريقة الفهم، أو طريقة الحفظ التذكري، واتباع طريقة حفظ المعلومات من أجل تكرارها ضمن الاختبار، سيؤدي حتمًا إلى نسيان المعلومات بعد الاختبار، على عكس طريقة الفهم.
حاول الآن أنت نفسك أن تفكر في ذكريات المدرسة الثانوية، من المحتمل أن تتذكر الطريقة التي كنت تستعد بها لأداء الفحوصات التقليدية، ولكن هل حقًا تستطيع تذكر المعلومات التي كنت تدرسها خلال تلك الفترة؟ هذا يوضح أننا لا نقوم حقًا بتطوير معرفتنا عن طريق حشو المعلومات في رؤوسنا في الليلة التي تسبق الامتحان، لنقوم باجترارها صبيحة اليوم التالي، ومن هذا المنطلق فإن الاختبارات التقليدية تؤثر بشدة على ماهية النظام التعليمي، الذي يجب أن يكون قائمًا على المعرفة الإدراكية طويلة الأمد.
بولين هوكينز، وهي مدرسة من نيو هامبشاير، استقالت مؤخرًا من مهنتها في التدريس، وكتبت رسالة مؤثرة ومهمة ومثيرة للقلق بذات الوقت، جاء فيها “يجلس أمامي في الصف أطفال جميلون وأذكياء بشكل لا يصدق، وهم تخلوا عن حياتهم لأنهم يشعرون بفشل مستقبلهم، لأنه قيل لهم إنهم ليسوا جيدين بما فيه الكفاية، وذلك من خلال اختبار قياسي، وأنا، لا يمكنني أن أكون جزءًا من هذا النظام الذي يستمر بتحقيق عكس الغاية التي يُفترض أن أقوم بها كمدرسة؛ فأنا من المفترض أن أساعد الطلاب للتفكير بأنفسهم، وأدعمهم لإيجاد حلول لمشاكلهم، وأعينهم ليصبحوا أعضاء منتجين في المجتمع، ولكن الاختبارات التقليدية تخلق عقلية التعليم بهدف النجاح بالاختبار لدى الأساتذة، كما تسبب التوتر والقلق للطلاب”.
للأسف الشديد، هذا الواقع مثبّط للهمم بشكل كبير، فالنظام التعليمي يحب أن يكون خصبًا وغنيًا، كونه بوابة نحو حياة أكمل وأكثر سعادة، ولكن في الوقت الحالي، يبدو أن اتباع نظام الامتحانات المعيارية يحقق العكس تمامًا، ولا عجب أن الطلاب المتخرجين من هذا النظام يتخلفون عن أقرانهم في جميع أنحاء العالم.
ربما ينبغي علينا أن نحذو حذو فنلندا، وهي بلاد لا تعتمد إطلاقًا على نظام الامتحانات التقليدية، وإن النهج الفنلندي التعليمي، يركز على التقدم العام للمدرسة، أو للنظام التعليمي في المدرسة ككل، بدلًا من التركيز على تقدم أداء المعلمين بشكل فردي، علمًا أن نظام التعليم الفنلندي هو على الدوام في أعلى التصنيفات العالمية، ويتضح أن طلابه هم الأفضل أداءًا في الرياضيات والقراءة والعلوم وباقي المواد، سنة بعد أخرى.
وفقًا لما سبق يجب علينا أن ندرك أن التعليم ليس قائمًا على المبدأ التنافسي، ولكنه قائم على منحى الجودة والتقدم الاجتماعي؛ لذلك عندما يصبح النظام التعليمي جامدًا، مثل سلعة مصنعة في مصنع ما، فإنه سيخنق الإبداع، وسيقتل كل متعة في عملية التعلم؛ فالفضول هو ما يدفع الناس نحو المعرفة، ولن يكون هناك دافع للسعي خلف التنوير، عندما يتم تعبئة مصطلح العلم في قوالب جامدة، ودفعه للطلاب بصورة تنافسية، بدلًا من التركيز على القيمة المتأصلة والنيّرة للعلم.
في النهاية، لا بد لنا من الإقرار بأن تغيير النظام التعليمي القائم أصبح حاجة لا بد منها، وأن التخلي عن الاعتماد المفرط على الاختبارات التقليدية ستكون بداية جيدة.
المصدر: إيليت دايلي