يسير موشيه بثقة في شوارع لندن مرتديًا الجينز و”كاب” رياضي دون أن يلفت نظر أحد، وكأنه واحد من الملايين في لندن الذين ترعرعوا وشربوا ثقافتها المفتوحة والحديثة، ولكن الحقيقة هي أن موشيه سلك طريقًا طويلًا وشاقًا قبل أن يصبح ما هو عليه الآن ويبدو كشخص عادي، حيث ولِد لأسرة من يهود الحريديم في منطقة ستامفورد هيل، المعروفين بعاداتهم المتشددة وانعزالهم التام عن العالم، ليصبح التحوّل نحو حياة طبيعية حلمًا يسعى إليه.
هي حياة أشبه بالعصور الوسطى، كما يقول موشيه، فالجينز كان ممنوعًا، وعلى الجميع أن يلتزم بزي موحد هو البذلة السوداء والقبعة والضفائر المتدلية منها واللحية ذات الطول المحدد من قبل رجال الدين، في حين يتوجب على النساء أن يغطين رؤوسهن بشعر اصطناعي، وأن يلتزمن بالتنورات الطويلة والملابس التي تغطي الجسد كله، والزواج طبعًا مُعَد مسبقًا عن طريق القيادات الدينية اليهودية، حيث يُمنَع منعًا باتًا أي اختلاط بين الجنسين من أي نوع.
“التفاعل مع العالم الخارجي معدوم تقريبًا، وحين كنا أطفالًا كانوا يعلموننا بأن العالم “غير الحريدي” عالم شرير وقبيح يجب أن نبتعد عنه، وأن غير اليهود بلا روح، بل وحتى اليهود غير الحريديين،” هكذا يتحدث موشيه عن طفولته في المدارس اليهودية، والتي منعت تعليم الإنجليزية واقتصرت فقط على اليديشية، ولم تدرس سوى المناهج الدينية اليهودية بمعزل عن سلطان الدولة الإنجليزية، “طموحك الوحيد هنا هو أن تصبح رابي، وإلا ستبحث عن أي وظيفة داخل مجتمع الحريديم.. والفتيات لا يتلقين أي تعليم تقريبًا.”
رُغم وجودهم في قلب العاصمة البريطانية، واحدة من أكثر المدن انفتاحًا في العالم، إلا أن الحريديم نجحوا في خلق جيتو صعب الاختراق، حتى أن السلطات البريطانية فوجئت العام الماضي بوجود لافتات في منطقة ستامفورد هيل توجّه النساء للسير في جانب واحد فقط من الطريق دون غيره، في محاولة من الحريديم تطبيق الفصل بين الذكور والإناث حتى أثناء المشي في المجال العام.
طبقًا لما يحكيه موشيه، تُمنَع تمامًا الصحف العلمانية وأجهزة التلفزيون، كما لا يحق لأحد أن يمتلك هاتفًا محمولًا أو جهاز كومبيوتر قبل الزواج، والذي يتم عادة في سن الـ18، بل وأحيانًا قبل ذلك، كما أن الأجهزة التي يحصل عليها المتزوجون مزوّدة ببرامج تتيح لرجال الدين أن يراقبوا المواقع التي يفتحها أعضاء مجتمع الحريديم، للتأكد من أنهم لا ينغمسون في معرفة العالم “غير الحريدي.”
كيف خرج موشيه من ذلك الجيتو الصلب؟ بدأ يعبّر عن سخطه وهو ابن 14 عامًا، وعن رغبته في ترك الحريديم، وهو طلب قوبل بالتحذير من جانب رجال الدين، والذين عرضوا عليه الأموال والزواج ليظل موجودًا، ليتزوج بالفعل من يهودية لم يرها سوى ساعة واحدة، ويحصل على جهاز كومبيوتر طبقًا للقواعد الحريدية، والذي استخدمه في تعلّم الإنجليزية والاطلاع على العالم الخارجي حتى شكته زوجته إلى الرابي، ليهرب بعد معاناة طويلة، ويقطع ضفائره المتدلية، وينام أول ليلة له في سيارة بشوارع لندن، قبل أن يجد العون على بدء حياة جديدة.
الحريديم
في أحياء شهيرة مثل ستامفورد هيل في لندن، وكراون هايتس وويليامسبورغ في نيويورك، وفي القلب من أكثر المدن تعددية وانفتاحًا، تقع أبرز أحياء اليهود الحريديم في العالم، والتي يشعر من يزورها فورًا وكأنه قد انتقل في المكان، وربما في الزمان، حيث يجد الآلاف من القبعات والسترات السوداء تحيط به، والمحلات التي لا تقدم سوى طعام الكوشير (الحلال اليهودي)، والباصات المخصصة لليهود فقط لتنقل أطفالهم من وإلى المدارس الدينية التي لا تدرس سوى العلوم اليهودية، بالإضافة إلى انتشار اللافتات العبرية واليديشية في كل مكان.
بالدخول إلى ذلك العالم، نجد ثقافة مغايرة تمامًا للثقافة السائدة في تلك المدن المفتوحة والكوزموبوليتانية، حيث تتميز مجتمعات الحريديم بقوة الروابط الاجتماعية، وهيمنة الجماعة على الفرد بشكل كبير، كما تتسم بالفصل الواضح بين الرجال والنساء، واتباع القواعد الدينية بصرامة التي تحرّم زيارة السينما وشراء الصُحُف، وكثرة الإنجاب؛ فالعائلات التي تملك سبعة أبناء منتشرة هنا بشكل طبيعي، والمعاناة الاقتصادية منتشرة بالطبع نتيجة لذلك، ونتيجة أيضًا لإهمال العلوم الضرورية لصعود السلم الوظيفي في لندن ونيويورك، وهي ربما معاناة تُسعِد رجال الدين وتُبقي قبضتهم على مجتمع الحريديم.
“حريدي” هي كلمة حديثة نسبيًا، وهي تعني الخشية أو الهيبة التي يشعر بها اليهودي أمام ربه، والحريديم تعود جذورهم إلى القرنين الثامن والتاسع عشر، حين بدأت الأفكار الليبرالية في الرواج، لا سيما مع صعود حركة الإصلاح اليهودي في ألمانيا تأثرًا بالحراك الفكري السائد آنذاك، والتي نادت باندماج اليهود بشكل أكبر في مجتمعاتهم وتخلّصهم من عقلية الجيتو واهتمامهم بالتعليم “العلماني” إلى جانب الديني، وهي حركة رأتها قطاعات من اليهود باعتبارها انحرافًا عن الطريق الصحيح، متمسكين بتقاليدهم وشرائعهم، ليصبحوا مع الوقت مجتمع الحريديم.
كل شيء في حياة الحريدي هي بمثابة تحدي لأنماط الحياة الحديثة، بدءًا من عاداته، والتي تتراوح من حرمانية الخلط بين الصوف والكتان، والالتزام بعدم العمل يوم السبت، والجلوس على مقاعد أقصر من الزوار أثناء تلقي العزاء في أي متوفي ينتمي للأسرة، وحتى مظهرهم الذي يُعرَفون به، وهو جزء أيضًا من القواعد الدينية الصارمة التي تمنعهم من ارتداء الجينز والسترات الرياضية والملابس المناسبة للحياة الحديثة.
بصمت شديد، وبدون تبادل النظرات والابتسامات مع غيرهم في مدن تُعَد مقابلة الغرباء فيها بشكل لطيف ضرورة يومية، يسير الحريديم بملابسهم السوداء ككهنة قادمين من عالم آخر، وهم في عجلة دومًا، وكأنهم يحاولون تجاوز الظروف التي اضطرتهم للجوء لتلك المدن الحديثة المزعجة، والتي يحاولون دومًا أن ينأوا بأنفسهم عن ضجيجها وإعلامها وأجهزتها، وكأنهم يحاكون بالفعل حياة العصور الوسطى، وبكل مميزاتها ومساوئها، بيد أن الشباب الحريدي في تلك المدن المفتوحة بالطبع، لا يرى سوى المساوئ، والتي تجعله متعطشًا للانطلاق نحو الدنيا.
رحلة الدخول إلى الدنيا
من بين الآلاف من هؤلاء الشباب، بدأت حكاية صماويل كاتز، البالغ من العُمر 21 عامًا، حين وقع في غرام كتب العلوم التي جمعها سرًا، بعيدًا عن أعين مدرسيه في المدرسة الدينية، والتي أرسله لها والداه حيث وُلِد بمقاطعة بروكلين المعروفة في مدينة نيويورك، لينطلق في رحلة شق فيها طريقه نحو دخول الجامعة، والخروج من مجتمع الحريديم.
“كنا 1300 طالبًا في المدرسة، وكنت أبحث عن مخرج، لا سيما بعد طلاق والدي، والطلاق بين الحريديم مسألة حساسة ومشينة لم أود أن يعرف أحد من أصدقائي عنها،” هكذا يقول صامويل، والذي وجد ضالته في مكتبة عامة قريبة من منزله، لتكون قصة “تشارلي ومصنع الشوكولاتة” الشهيرة للمؤلف روالد دال هي أول كتاب “علماني” يقرأه، على حد قوله، وهو كتاب استغرقه شهرًا نظرًا لإنجليزيته الضعيفة، والتي لا تدرسها كالعادة المدرسة اليهودية الملتزمة باليديشية.
في المكتبة، انكب صامويل بنهم على كتب الطب وعلم النفس والفلسفة، ليخلق “عالمًا سريًا خاصًا” كما يقول، وليبدأ في قلب تصوراته رأسًا على عقب، فبعد أن كانوا يدرسونه بأن اليهودي هو مركز العالم، عرف صامويل من كتاباته بأن البشر كلهم يتشاركون مع كافة الكائنات على الأرض أصولهم الطينية، وفقما رآه في متحف التاريخ الطبيعي والمخصص لتاريخ الكائنات الحية طبقًا لنظرية التطور.
حين بلغ صامويل الـ16، أرسله أهله إلى مدرسة دينية عريقة في إسرائيل، لتبدأ معاناته مع الثقافة المغلقة هناك، حتى شكا يومًا لأحد مدرسيه في المدرسة عن عدم رغبته في مواصلة التعليم الديني، ورغبته في دراسة العلوم الطبيعية، لينتهي به الأمر محبوسًا في غرفة بمفرده لكيلا يفسد زملائه، والذين أتوا بين الحين والآخر للاطمئنان عليه، “لقد كان أمرًا بشعًا، كان علي أن أعود إلى نيويورك.”
صامويل كاتز
في نيويورك، طرق صامويل أبواب منظمة “فوتستِبس” المخصصة لأمثاله من يهود الحريديم الذين لا يريدون الاستمرار في حياة الجيتو المغلقة، والانطلاق للحياة العادية في نيويورك، ووضع كل عقائد الحريديم تحت المسائلة والنقد، ثم تجهيز الشباب ليتمكنّوا من دخول الجامعات وإجادة الإنجليزية وغيرها من متطلبات الحياة الطبيعية في المدينة الأمريكية، والتي حرمتها منهم مدراسهم الدينية.
الآن، يدرس صامويل بجامعة ستوني بروك عن الفيزياء والأحياء كما كان يحلم، وهو يشارك في نشاطات المسرح أيضًا، وهي حياة لا يحكي تفاصيلها الدقيقة لأمه حين يهاتفها كل أسبوع يوم السبت لأنه يعلم أنها ستحزن كثيرًا حين تعلم كم “انحرف” صامويل عن الطريق الذي أرادته له، “إنه أمر لا يزال يؤلمني إلى الآن،” هكذا يقول صامويل، والذي يحتفظ بطاقية قماشية يهودية في جيبه تحسّبًا لزيارة مفاجئة من أمه في أي وقت.