من الحقائق الراسخة أن أسماء مثل سانتياجو كلاترافا، فرانك جيري، زها حديد، نورمان فوستر، وبعض الأسماء الأخرى، هي أسماء مرموقة لنجوم ساطعة في سماء العمارة الحديثة، وقد وصلت شهرة هذه الأسماء إلى وصفهم بمصطلحStarchitects ، وهو مزيج من كلمة معماري وكلمة نجم، وقد ذهب بعض دارسي العمارة إلى تشبيههم بآلهة الإغريق في عالم العمارة، غير أن الأمر قد تغير قليلًا في الفترة الأخيرة بالنسبة لبعضهم، وتحديدًا بالنسبة لكلاترافا.
ليس كلاترافا معماريًا عاديًا، أو للدقة فهو ليس مجرد معماري، فقد درس كلاترافا الفن قبل أن يدرس العمارة وله الكثير من الأعمال النحتية واللوحات الرائعة، وبعد أن أنهى دراسته الفنية قام بدراسة العمارة، لكن لم يكتفِ بذلك بل درس الهندسة الإنشائية بعد ذلك، وحصل فيها على رسالة الدكتوراة، حتى إنه لم يبدأ عمله الخاص إلا بعد إنهائه دراسة الهندسة الإنشائية، لذلك تتميز أعماله المعمارية بتصميمات إنشائية مبتكرة، أو أنها في الحقيقة تعتمد في تصميمها بشكل كبير على الفكرة الإنشائية المبتكرة، بالإضافة إلى التحليل الفني للفكرة التي يقوم عليها شكل المبنى.
بدأ كلاترافا عمله ببرج مونتويك للاتصالات عام 1991، وهو كما يبدو في الصورة مصمم في تكوين فريد تشكيليًا إلا أن الأكثر أهمية هو الطبيعة الإنشائية للبرج؛ حيث يظهر البرج معلقًا بأسلوب غير معتاد على الإطلاق، ومن خلال دعامات تبدو بسيطة وخفيفة، مما يعطى إحساس بخفة المنشأ وكأنه طائر في الهواء، وينعكس هذا الهوس الإنشائي لدى كلاترافا في أعماله الفنية النحتية أيضًا، حيث تتميز الفكرة الرئيسية لأعماله دائمًا بتكوين ليس من الطبيعي أن يكون له القدرة على الاستقرار بذاته، فيبدو وكأنه على وشك السقوط أو أنه يطير في الهواء، ثم يقوم بتدعيمه بالعناصر التي تتيح له الاستقرار إنشائيًا لكن بشكل بسيط وخفيف ومبتكر، بما لا يؤثر على شكل التصميم الرئيس، مثيرًا التعجب تجاه كيفية تماسك التصميم بهذا العنصر الإنشائي البسيط.
ويبدو كلاترافا متأثرًا بشكل كبير بالكائنات الحية، وكيفية تكوينها على مستوى الشكل الخارجي، وكذلك الهيكل الذي يحمل هذا التكوين، فأغلب مبانيه تعتمد على تحليل هيكلي لكائنات حية مختلفة سواء كان جسم الإنسان أو أي كائن حي آخر، ويبدو ذلك أيضًا في بعض أعماله النحتية، ويبدو وكأنه يزيل التكوين النهائي للكائن الحي كاشفًا عن هيكله الإنشائي، لذلك يميل دائمًا إلى استخدام طرق إنشائية من الخارج، وهو ليس أمرًا معتادًا أبدًا، فالمعتاد والطبيعي أن يكون الهيكل الإنشائي داخل المبنى بحيث يحمل أجزاءه، إلا أنه يقوم بوضع هيكل خارجي يدعم به أجزاء المنشأ من الخارج، متأثرًا في ذلك بالعمود الفقري للإنسان تارة، وتارة أخرى بأجنحة الطيور وغيرها من الأنظمة الإنشائية الموجودة في الطبيعة.
.
وكان مما تميز فيه كلاترافا أكثر من بقية نجوم المعماريين هو تصميم الكباري، وقد كانت الكباري المجال الرئيس الذي بدأ به حياته العملية.
ومن الأحداث الأخيرة المثيرة أن واحدًا من أهم مشاريع كلاترافا، وهو مدينة الفنون والعلوم في فالينسيا بأسبانيا، سيصبح نجم أحد أحدث أفلام شركة ديزني وهو Tomorrowland أو “أرض الغد”، وتدور أحداث الفيلم في المستقبل، حيث يقوم شاب صغير لديه فضول علمي كبير مع طفل عبقري بمحاولة إزالة اللثام عن في ذاكرتهم الجمعية، والمدينة تتميز بتصميم مستقبلي مثير وتعتبر مسطحًا كبيرًا للغاية يمثل حديقة نحتية من المباني الرائعة، وتحوي أكبر معرض مائي في أوروبا، بالإضافة إلى مبناه الشهير الذي اُفتتح عام 2005، “بالاو دو لي آر ريينا صوفيا”، وهو دار أوبرا ومركز ثقافي كبير في فالينسيا، وقد استحوذ المشروع على تفكير منتج الفيلم بالكامل مما جعله يختاره موقعًا لتصوير فيلمه الجديد قائلًا، “تصميمات كالاترافا استثنائية ومبتكرة ومثيرة للغاية، وهي تتميز بطابع هيكلي كالهياكل العظمية، فتبدو وكأنك تنظر إلى فقرات لديناصور أو هيكل عظمي لسمكة ضخمة منقرضة، وعندما تدخل هذا المكان فإنك لا ترغب في مغادرته أبدًا وهذا الإحساس بالتحديد هو ما أردناه لأرض الغد”.
وقد مدح الممثل الشهير ونجم أرض الغد جورج كلوني أعمال كلاترافا أيضًا ومجال العمارة كله.
“إن الأمر ليس سهلًا بالنسبة لي .. إنهم يعاملونني، في الفترة الأخيرة، كالكلب” سانتياجو كلاترافا
رغم هذا التميز الهائل لأعمال كالترافا إلا أن مكتبه يواجه الكثير من العثرات في الفترات الأخيرة، فلم يعد يُدعى إلى المشاركة في المسابقات المعمارية الكبرى، وأصبح الطلاب يتجنبون السعى إلى التدرب في مكتبه، وقد حدثت الكثير من هذه العثرات على خلفية بعض المشكلات في مشروعه الأخير في مركز التجارة العالمي في نيويورك، والذي من المقرر له أن يتم افتتاحه هذا العام، حيث كان من المقرر أن يقوم بتصميم محطة نقل كبيرة تحوي محطة قطار، وكذلك تمر بها محطات مترو الأنفاق، بالإضافة إلى أماكن للتسوق، وقد كان تصميمه مميزًا كالعادة، إلا أن المشروع، الذي وصلت تكلفته الإجمالية إلى 5.1 مليار دولار مع الوضع في الاعتبار تغير سعر الدولار، لم يتم الانتهاء منه في موعده المقرر، بل متأخرًا حوالى ست سنوات كاملة، بالإضافة إلى أن هذه التكلفة تقارب ضعف ما تم الاتفاق عليه مع المعماري في البداية، وهو ما جعلها أغلى محطة نقل في العالم.
الأسباب التي أدت إلى ذلك متعددة، لكن بشكل عام تكمن المشكلة الرئيسة في الطبيعة المتداخلة للمشروع، حيث يقع المشروع في منطقة مليئة بناطحات السحاب الإدارية، ويغطي المشروع متحفًا ومنطقة تجارية، لذلك علق الكثير من المسؤولين على المشروع بأن إنشاء محطة نقل تغطي خطين قطارات مختلفين مع محطات مترو الأنفاق كان أشبه بكابوس.
لكن هذا التأخير أدى إلى تواصل استهلاك المشروع للتكاليف المادية بشكل مستمر، مما أوصل المشروع إلى ما أصبح عليه حاليًا كأغلى محطة نقل في العالم، وهذه ليست الحادثة الوحيدة في مشاريع كلاترافا، إلا أن التركيز عليها كان بسبب ضخامة حجم المشروع والتكاليف الضخمة التي استهلكها.
في النهاية لايمكن لأحد إنكار تميز وتفرد أعمال كلاترافا المعمارية والفنية، إلا أن المشاكل التي تحدث في تسليمات مشاريعه، وتكلفتها التي تتغير عن الاتفاق المبدأي، تثير تساؤلًا مهمًا عن جدوى تقدير الفن، وحجم الخسائر أو التضحيات المادية التي يمكن تحملها من أجل الحصول على أعمال فنية متميزة.